الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) [1]

                  قال الرافضي [2] : " وأيضا لم يول النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ألبتة عملا في وقته ، بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ، ولما أنفذه [3] بسورة " براءة " رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله ، وكيف يرتضي [4] العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي [5] - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله لأداء عشر آيات من " براءة " ؟ ! " .

                  [ ص: 490 ] والجواب : أن هذا من أبين الكذب ; فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج عام تسع ، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن قبله حج في الإسلام ، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة ، فإن مكة فتحت سنة ثمان ، أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد ، الذي استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة ، ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج ، بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ، وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولم يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أبي بكر على مثل هذه الولاية ، فولاية أبي بكر كانت من خصائصه ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر على الحج أحدا كتأمير أبي بكر ، ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر ، وكان علي من رعيته في هذه الحجة ، فإنه لحقه فقال : أمير أو [6] مأمور ؟ فقال علي : بل مأمور ، وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ، ونادى علي مع الناس [7] في هذه الحجة بأمر أبي بكر .

                  وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره ، كولاية علي [ ص: 491 ] وغيره ، فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها ، بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ، ولم يول النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر لا أسامة بن زيد ، ولا عمرو بن العاص .

                  فأما تأمير أسامة عليه فمن [8] الكذب المتفق على كذبه .

                  وأما قصة عمرو بن العاص ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أرسل عمرا في سرية ، وهي غزوة ذات السلاسل [9] ، وكانت إلى بني عذرة ، وهم أخوال عمرو ، فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم ، للقرابة التي له منهم ، ثم أردفه بأبي عبيدة ، ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين . وقال : " تطاوعا ولا تختلفا " فلما لحق عمرا قال : أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك ، قال : بل أنا أصلي بكم ، فإنما أنت مدد لي . فقال له أبو عبيدة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أطاوعك ، فإن عصيتني أطعتك . قال : فإنى أعصيك ، فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك ، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل [10] ، ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر ، فكانوا يصلون خلف عمرو ، مع علم كل أحد [11] أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو [12] .

                  [ ص: 492 ] وكان ذلك لفضلهم [13] وصلاحهم ; لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تألف [14] قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ، ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة ، كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة ، لما قتل في غزوة مؤتة ، فكيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور ؟ !

                  بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه [15] ولا أخص به ، ولا أكثر اجتماعا به ليلا و نهارا ، سرا وعلانية ، من أبي بكر ، [ ص: 493 ] ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبله ، فيأمر وينهى ، ويخطب ويفتي ، يوقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك راضيا بما يفعل .

                  ولم يكن ذلك تقدما بين يديه ، بل بإذن منه قد علمه ، وكان ذلك معونة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتبليغا عنه ، وتنفيذا لأمره ; لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم [16] إلى الرسول وأتبعهم له .

                  وأما قول الرافضي : إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام ، فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أبا بكر على الحج ، ذهب كما أمره ، وأقام الحج في ذلك العام ، عام تسع ، للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج ، وأنفذ فيه ما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن المشركين كانوا يحجون البيت ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين عهود مطلقة ، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام ، وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود .

                  قالوا : وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع ، أو رجل من أهل بيته . فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة ، لم يبعثه لشيء آخر ، ولهذا كان علي يصلي خلف [ ص: 494 ] أبي بكر ، ويدفع بدفعه في الحج ، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم .

                  وكان هذا بعد غزوة تبوك ، واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة ، وقوله له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟

                  ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم ، وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له ، إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط . ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ، ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ، ومعاذا إلى اليمن ، فرجع علي وأبو موسى إليه ، وهو بمكة في حجة الوداع ، وكل منهما قد أهل بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية