[ ص: 5 ] فصل [1]
قال الرافضي [2] :
" ومنها ما رووه [3] عن ، روى عمر أبو نعيم الحافظ في كتابه [4] " حلية الأولياء " أنه قال [5] لما احتضر قال [6] : يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنوني [7] ما بدا لهم ، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني ، فجعلوا [8] نصفي شواء ونصفي قديدا ، فأكلوني ، فأكون عذرة ولا أكون بشرا ، وهل هذا إلا مساو لقول الكافر [9] : ( ياليتني كنت ترابا ) [ سورة النبأ : 40 ] " .
قال [10] . : " وقال عند احتضاره : لو أن لي ملء [ ص: 6 ] الأرض ذهبا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع . وهذا مثل قوله ابن عباس [11] : ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب ) [ سورة الزمر : 47 ] . فلينظر المنصف العاقل قول الرجلين عند احتضارهما ، وقول علي [12] : متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه [13]
متى ألقاها متى يبعث [14] أشقاها
وقوله حين قتله [ ابن ملجم ] : فزت [15] ورب الكعبة " .
والجواب : أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله ؛ وذلك أن ما ذكره عن قد نقل مثله عمن هو دون علي أبي بكر وعمر [ وعثمان ] وعلي [16] ، بل نقل مثله عمن يكفر ] علي [ بن أبي طالب [17] من الخوارج ، كقول عتيق بلال عند الاحتضار ، وامرأته تقول : واحرباه ، وهو يقول : واطرباه غدا ألقى الأحبة أبي بكر محمدا وحزبه .
وكان قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال : " اللهم اكفني بلالا وذويه " فما حال الحول وفيهم عين تطرف عمر [18] .
[ ص: 7 ] وروى أبو نعيم في " الحلية " [19] : حدثنا ، حدثنا القطيعي الحسن بن عبد الله [20] ، حدثنا عامر بن سيار ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن ، عن شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم ، عن الحارث بن عمير [21] ، قال : طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد [22] . فقال : إنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم معاذ [23] ، وقبض الصالحين قبلكم ، اللهم آت آل النصيب الأوفر من هذه الرحمة ، فما أمسى حتى طعن ابنه معاذ عبد الرحمن بكره الذي كان يكنى به [24] ، وأحب الخلق إليه ، فرجع من المسجد فوجده [25] مكروبا [26] . فقال : يا عبد الرحمن كيف [ ص: 8 ] أنت ؟ قال [27] : يا أبت الحق من ربك فلا تكونن [28] من الممترين . قال [29] : وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين [30] . فأمسكه ليله [31] ثم دفنه من الغد ، وطعن معاذ [32] ، فقال حين اشتد به النزع ، [ نزع الموت ] [33] ، فنزع نزعا لم ينزعه أحد ، وكان كلما أفاق فتح طرفه ، وقال [34] : رب اخنقني خنقك [35] ، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك " .
وكذلك قوله : فزت ورب الكعبة ، قد قالها من هو دون ، قالها علي عامر بن فهيرة مولى لما قتل يوم أبي بكر الصديق بئر معونة ، وكان قد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سرية قبل نجد ، قال العلماء بالسير : طعنه جبار بن سلمى فأنفذه ، فقال عامر : فزت والله ، فقال جبار : ما قوله : فزت والله ؟ قال : يرون أن الملائكة دفنته عروة بن الزبير [36] .
[ ص: 9 ] [ وشبيب الخارجي ] [37] لما طعن دخل في الطعنة ، وجعل يقول : وعجلت إليك رب لترضى .
[ وأعرف شخصا من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول : حبيبي ها قد جئتك ، حتى خرجت نفسه ، ومثل هذا كثير ] [38] ] .
وأما عمر ، ففي [ صحيح ] البخاري خوف [39] عن قال : لما طعن المسور بن مخرمة جعل يألم ، فقال عمر ابن عباس [40] وكأنه يجزعه - أي يزيل جزعه [41] - يا أمير المؤمنين ولئن [42] كان ذلك لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت المسلمين أبا بكر [43] فأحسنت صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون ، فقال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه فإنما ذاك [44] من من الله من به علي ، وأما ما ذكرت من صحبة ورضاه فإنما ذاك أبي بكر [45] من من الله [46] من به علي . وأما ما ترى [ ص: 10 ] من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض [ ذهبا ] [47] لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه " .
وفي صحيح البخاري [48] عن عمرو بن ميمون في حديث قتل " يا عمر انظر من قتلني ، فجال ساعة ، ثم جاء ابن عباس [49] فقال : غلام ، قال : الصنع ؟ قال : نعم . قال : قاتله الله ، لقد أمرت به معروفا ، الحمد لله الذي لم يجعل قتلي المغيرة [50] بيد رجل يدعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة ، وكان أكثرهم رقيقا ، فقال : إن شئت فعلت ؛ أي : إن شئت قتلنا العباس [51] . قال : كذبت ، بعد ما تعلموا [52] بلسانكم ، وصلوا قبلتكم ، وحجوا حجكم ، فاحتمل إلى بيته ، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه ، فخرج من جوفه ، ثم أتي بلبن فشربه ، فخرج من جرحه [53] ، فعلموا [54] أنه ميت . فدخلنا [55] عليه ، [ ص: 11 ] [ وجاء الناس يثنون عليه ] [56] ، وجاء رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ووليت [57] فعدلت ، ثم شهادة . قال : وددت أن [58] ذلك كفافا [59] لا علي ولا لي . فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض . فقال [60] : ردوا علي الغلام ، قال : يا ابن أخي ، ارفع إزارك [61] ، فإنه أبقى [62] لثوبك وأتقى لربك ، يا ، انظر ما علي عبد الله بن عمر [63] من الدين . فحسبوه فوجدوه [64] ستة وثمانين ألفا أو نحوه ، قال : إن وفى له مال آل عمر [ فأد من أموالهم ] [65] وإلا فسل [66] في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم وإلا فسل [67] في قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم ، فأد عني هذا المال ، انطلق إلى أم المؤمنين ، فقل : يقرأ عليك عائشة [ ص: 12 ] السلام - ولا تقل : أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا - وقل : عمر أن يدفن مع صاحبيه عمر بن الخطاب . ( * فسلم واستأذن ، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك يستأذن السلام عمر بن الخطاب [68] ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه * ) [69] . فقالت [70] : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرنه اليوم [71] على نفسي ، فلما أقبل قيل : هذا عبد الله بن قد جاء . فقال عمر [72] : ارفعوني . فأسنده رجل إليه ، فقال : ما لديك ؟ قال : الذي تحب يا أمير المؤمنين ، أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان شيء أهم من ذلك [73] ، فإذا أنا قضيت [74] فاحملوني ، ثم سلم وقل [75] : يستأذن ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني ردوني عمر بن الخطاب [76] إلى مقابر المسلمين " وذكر تمام الحديث .
ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنه راض ورعيته عنه راضون [77] مقرون بعدله فيهم ، ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته ، لعظمها عندهم .
[ ص: 13 ] وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم [78]
- رضي الله عنه - رجل من المسلمين عمر لرضا المسلمين عنه ، وإنما قتله كافر فارسي مجوسي . ولم يقتل
وخشيته من الله لكمال علمه ؛ فإن الله - تعالى - يقول : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء [ سورة فاطر : 28 ] .
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء [79] . سورة النساء ، فلما بلغ إلى قوله ابن مسعود فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ سورة النساء : 41 ] قال : " حسبك " فنظرت إلى عينيه وهما تذرفان وقرأ عليه [80] .
وقد قال - تعالى - قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) [ سورة الأحقاف : 9 ] .
[ ص: 14 ] وفي صحيح أنه قال مسلم عثمان بن مظعون ، قال : " ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم " لما قتل [81] .
وفي وغيره عن الترمذي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم أبي ذر [82] - أنه قال : " ، لا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم أبي ذر - إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، وددت أني كنت شجرة تعضد " وقوله : " وددت أني كنت شجرة تعضد " قيل : إنه من قول [83] .
وقال - تعالى - : ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون الآية [ سورة المؤمنون : [ ص: 15 ] 57 - 59 ] وفي الترمذي قالت عائشة [84] : " [ قلت ] : [85] يا رسول الله ، هو الرجل يزني ويسرق ويخاف ؟ فقال : " لا يا بنت [86] الصديق ، ولكنه الرجل يصلي [87] ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه " عن [88] .
وأما قول الرافضي : " وهل هذا إلا مساو لقول الكافر : ( ياليتني كنت ترابا ) [ سورة النبأ : 40 ] .
فهذا جهل منه ؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة ، حين لا تقبل توبة ، ولا تنفع حسنة [89] . وأما من يقول ذلك في الدنيا ، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله ، فيثاب على خوفه من الله .
وقد قالت مريم : ( ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) [ سورة مريم : 23 ] . ولم يكن هذا كتمني الموت يوم القيامة .
ولا يجعل هذا كقول أهل النار ، كما أخبر الله عنهم بقوله : ( ونادوا يامالك ليقض علينا ربك [ سورة الزخرف : 77 ] .
وكذلك قوله : ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [ ص: 16 ] [ سورة الزمر : 47 ] ؛ فهذا إخبار عن حالهم [90] يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية .
وأما في الدنيا ، ، فمن خاف [ الله ] في الدنيا فالعبد إذا خاف ربه كان خوفه مما يثيبه الله عليه [91] أمنه يوم القيامة ، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور ، والظل كالحرور ، والأحياء كالأموات ، ومن تولى أمر المسلمين فعدل فيهم عدلا يشهد به [92] عامتهم ، وهو في ذلك يخاف الله أن يكون ظلم ، فهو [93] أفضل ممن يقول كثير من رعيته : إنه ظلم ، وهو في نفسه آمن من العذاب ، مع أن كليهما من أهل الجنة .
والخوارج الذين كفروا ، واعتقدوا أنه ظالم مستحق للقتل ، مع كونهم ضلالا مخطئين ، هم راضون عن عليا معظمون لسيرته وعدله . عمر
وبعدل يضرب المثل ، حتى يقال : سيرة العمرين ، سواء كانا عمر عمر بن الخطاب ، كما هو قول أهل العلم والحديث وعمر بن عبد العزيز [94] ، وغيره ، أو كانا كأحمد أبا بكر ، كما تقوله طائفة من أهل اللغة وعمر [95] كأبي عبيد [ وغيره ] [96] ؛ فإن داخل في ذلك على التقديرين . عمر بن الخطاب
[ ص: 17 ] ومعلوم أن ، وقد قال - تعالى - : ( شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ سورة البقرة : 143 ] .
وفي الصحيحين " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر عليه بجنازة ، فأثنوا عليها خيرا فقال : " وجبت وجبت " ومر عليه بجنازة ، فأثنوا عليها شرا ، فقال : " وجبت وجبت " قالوا : يا رسول الله ، ما قولك : وجبت وجبت ؟ قال : " هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا ، فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا ، فقلت : وجبت لها النار ، أنتم شهداء الله في الأرض [97] .
وفي المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار " ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ . قال : " بالثناء الحسن وبالثناء السيئ [98] .
ومعلوم أن رعية انتشرت شرقا وغربا ، [ وكانت رعية عمر خيرا من رعية عمر ] علي [99] ، وكانت [100] رعية جزءا علي [101] من رعية ، ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته ويعظمونه عمر [102] ، والأمة قرنا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته ، ولا يعرف أن أحدا طعن في ذلك .
[ ص: 18 ] والرافضة لم تطعن في ذلك ، بل لما غلت في جعلت ذنب علي كونه تولى ، وجعلوا يطلبون له ما يتبين به عمر [103] ظلمه فلم يمكنهم ذلك .
وأما - رضي الله عنه - فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، لكن نصف رعيته يطعنون في عدله ؛ علي فالخوارج يكفرونه ، وغير الخوارج من أهل بيته [ وغير أهل بيته ] [104] يقولون : إنه لم ينصفهم ، وشيعة عثمان يقولون : إنه ممن ظلم ، وبالجملة لم يظهر عثمان من العدل ، مع كثرة الرعية وانتشارها ، ما ظهر لعلي ، ولا قريب منه . لعمر
لم يول أحدا من أقاربه ، وعمر ولى أقاربه ، كما ولى وعلي أقاربه ، عثمان مع هذا يخاف أن يكون ظلمهم ، فهو أعدل وأخوف من الله من وعمر ، فهذا مما يدل علي على أنه أفضل من . علي
مع رضا رعيته عنه ، يخاف أن يكون ظلمهم ، وعمر يشكو من رعيته وتظلمهم وعلي [105] ، ويدعو عليهم ويقول : إني أبغضهم ويبغضوني [106] ، وسئمتهم وسئموني [107] . اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني .
فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ؟