الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 82 ] فصل [1]

                  قال الرافضي [2] : " ولم يحد قدامة [3] في الخمر ، لأنه تلا عليه : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) [ سورة المائدة : 93 ] الآية ، فقال [ له ] [4] علي : ليس قدامة من أهل هذه الآية ، فلم يدر كم يحده ، فقال له أمير المؤمنين حده ثمانين ، إن شارب الخمر إذا شربها [5] [ سكر ، وإذا سكر ] [6] هذى ، وإذا هذى افترى " .

                  والجواب : أن هذا من الكذب [ البين ] [7] الظاهر على عمر - رضي الله عنه ؛ فإن علم ابن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل ، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله ، وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين ، وكان عمر أحيانا يعزر فيها بحلق الرأس والنفي ، وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد ، وتارة بالنعال والأيدي [ ص: 83 ] وأطراف الثياب ، وقد تنازع علماء المسلمين في الزائد عن الأربعين إلى الثمانين : هل هو حد يجب إقامته ؟ أو تعزير يختلف باختلاف الأحوال ؟ على قولين مشهورين ، هما روايتان عن أحمد ، أحدهما [8] : أنه [9] حد لأن أقل الحدود ثمانون ، وهو حد القذف ، وادعى أصحاب هذا القول أن الصحابة أجمعت على ذلك ، وأن ما نقل من الضرب أربعين كان بسوط له طرفان ، فكانت الأربعون قائمة مقام الثمانين ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما ، واختاره الخرقي والقاضي أبو يعلى وغيرهما .

                  والثاني : أن الزائد على الأربعين جائز ، فليس بحد واجب ، وهو قول الشافعي ، واختاره أبو بكر وأبو محمد [10] وغيرهما . وهذا القول أقوى ؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن علي - رضي الله عنه - أنه جلد الوليد أربعين ، وقال : جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل [11] سنة ، وهذا أحب إلي [12] .

                  وفي الصحيحين عن أنس قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب الخمر ، فضربه بالنعال نحوا من أربعين ، ثم أتي به أبو بكر ففعل به مثل ذلك ، ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود ، [ ص: 84 ] فقال ابن عوف : أخف الحدود ثمانون ، فضربه عمر [13] .

                  ولأنه يجوز الضرب فيه بغير السوط ، كالجريد والنعال والأيدي وأطراف الثياب ، فلما لم تكن صفة الضرب مقدرة [14] ، بل يرجع فيها إلى الاجتهاد ، فكذلك مقدار الضرب ، وهذا لأن أحوال الشاربين تختلف ، ولهذا أمر أولا بقتل الشارب في المرة الرابعة ، وقد قيل : إن هذا منسوخ ، وقيل : بل هو محكم ، وقيل : بل هو تعزير جائز يفعل عند الحاجة إليه ، وهذا لأن الضرب بالثوب ليس أمرا محدودا ، بل يختلف باختلاف قلته وكثرته ، وخفته وغلظته ، والنفوس قد لا تنتهي فيه عند مقدار ، فردت أكثر العقوبة [15] فيه إلى الاجتهاد ، وإن كان أقلها مقدرا ، كما أن [16] من التعزيرات ما يقدر أكثره ولا يقدر أقله .

                  وأما قصة قدامة فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني [ وغيره حديثه ] [17] عن ابن عباس [18] : أن قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فقال له عمر : ما يحملك [19] على ذلك ؟ فقال : إن الله يقول : ( ليس على الذين آمنوا [ ص: 85 ] وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية [ سورة المائدة : 93 ] وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد .

                  فقال عمر : أجيبوا الرجل ، فسكتوا عنه . فقال لابن عباس : أجبه ، فقال : إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم ، وأنزل : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) [ سورة المائدة : 90 ] حجة [20] على الناس . ثم سأل عمر عن الحد فيها ، فقال علي بن أبي طالب : إذا شرب هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلده ثمانين جلدة [21] ، فجلد عمر ثمانين . ففيه أن عليا أشار بالثمانين ، وفيه نظر .

                  فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان بن عفان ، لما جلد الوليد بن عقبة ، وأنه أضاف الثمانين إلى عمر ، وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين [22] ، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي ، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين ، فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين ، وروي عن علي أنه قال : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت ، فأجد في نفسي ، إلا صاحب الخمر ، [ فإنه ] لو مات [23] لوديته ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه لنا [24] .

                  [ ص: 86 ] وهذا لم يقل به أحد من الصحابة والفقهاء في الأربعين فما دونها ، ولا ينبغي أن يحمل كلام علي على ما يخالف الإجماع . وإنما تنازع الفقهاء [25] فيما إذا زاد على الأربعين فتلف : هل يضمن ؟ على قولين : فقال جمهورهم : لا يضمن أيضا ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم . وقال الشافعي : يضمنه إما بنصف الدية في أحد القولين جعلا له قد تلف بفعل مضمن وغير مضمن [26] ، وإما أن تقسط الدية على عدد الضربات كلها ، فيجب من الدية [27] بقدر الزيادة على الأربعين في القول الآخر .

                  والشافعي بنى هذا على أن الزيادة تعزير غير مقدر ، ومن أصله أن من مات بعقوبة غير مقدرة ضمن ، لأنه بالتلف يتبين عدوان المعزر ، كما إذا ضرب الرجل امرأته ، والمؤدب الصبي ، والرائض الدابة .

                  وأما الجمهور فمنهم من يخالفه في الأصلين ، ومنهم من يخالفه في أحدهما ، فأبو حنيفة ومالك يقولان : الثمانون حد واجب ، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى يقول [28] : كل من تلف بعقوبة جائزة ، فالحق قتله ، سواء كانت واجبة أو مباحة ، وسواء كانت مقدرة أو غير مقدرة إذا لم يتعد ، وعلى هذا لا يضمن عنده سراية القود في الطرف وإن لم يكن واجبا ، وقد اتفق الأئمة على أنه إذا تلف في عقوبة [ ص: 87 ] مقدرة واجبة لا يضمن ، كالجلد في الزنا ، والقطع في السرقة . وتنازعوا في غير ذلك ، فمنهم من يقول : يضمن في الجائز ولا يضمن في الواجب ، كقول أبي حنيفة ، فإنه يقول : يضمن سراية القود ولا يضمن سراية التعزير لحق الله - تعالى - . ومنهم من يقول : يضمن غير المقدر ، ولا يضمن في المقدر ، سواء كان واجبا أو جائزا [29] كقول الشافعي . ومنهم من يقول : لا يضمن لا في هذا ولا في هذا ، كقول مالك وأحمد وغيرهما .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية