الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 173 ] وأما قوله : " ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام " .

                  فيقال : أولا : من قال إن هذا الصحيح ؟ وأين النقل الثابت بهذا ؟ وإنما المعروف أنه أمر الأنصار [ أن ] [1] أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم .

                  ثم يقال ثانيا : هذا من الكذب على عمر ، ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ، ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة . وكيف يأمر بقتلهم ، وإذا قتلوا كان الأمر [ بعد قتلهم ] [2] أشد فسادا ؟ ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا ، فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ، ولا يولي بعدهم أحدا ؟

                  وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء ، والأمة كلها مطيعة لهم ، والعساكر والجنود معهم ؟ ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك . وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك . فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة [ جميعا ] [3] ؟ ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ، ويمكنون الأنصار منهم ، ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم ؟

                  ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم ، لم يجب قتل أحد منهم [ بذلك ] [4] بل تولى [5] غيرهم . وهذا [ عبد الله ] بن عمر [6] كان دائما [ ص: 174 ] تعرض عليه الولايات ، فلا يتولى ، وما قتله أحد ، وقد عين للخلافة يوم الحكمين [ فتغيب عنه ] [7] وما آذاه أحد قط ، وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك .

                  فهذا من اختلاق مفتر [ لا يدري ] ما يكتب [8] لا شرعا ولا عادة .

                  ثم نقول جوابا مركبا : لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا ، أو لم يكن أمر به . فإن كان الأول بطل إنكاره . وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة ، أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك .

                  فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية ، وقال : " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له . وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله " [9] فهذه يشهد لها الرسول بذلك . ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها .

                  ولو وجب على الرجل قصاص ، وكان من أولياء الله ، وتاب من قتل العمد توبة نصوحا ، لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه ، فإن شاءوا قتلوه ، ويكون قتله كفارة له .

                  [ ص: 175 ] والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية [10] ، كقتل الجاسوس المسلم ، للعلماء فيه [11] قولان معروفان ، وهما قولان في مذهب أحمد : أحدهما : [ يجوز قتله ، وهو مذهب مالك ، واختيار ابن عقيل . والثاني : ] [12] لا يجوز قتله ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، واختيار القاضي أبي يعلى وغيره .

                  وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من جاءكم وأمركم على رجل واحد ، يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه " [13] وقال في شارب الخمر : " إن شربها [14] في الرابعة فاقتلوه " [15] . وقد تنازع العلماء في هذا الحكم : هل هو منسوخ أم لا ؟

                  فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين ، لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ، ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ، ولم يقدح لا في عدل هذا ، ولا في دخول هذا الجنة . فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك ؟

                  ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم ، بتقدير صحة هذا النقل ، يستحقون القتل إلا عليا . فإن كان عمر أمر بقتلهم ، فلماذا ينكرون عليه ذلك ، ثم يقولون : إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر [ ص: 176 ] بقتلهم ؟ فهذا جمع بين الضدين .

                  وإن قلتم : كان مقصوده قتل علي .

                  قيل : لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية ، فإنما يقتل من يخاف . وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ، ولم يضربوه ولم يحبسوه ، فضلا عن القتل .

                  وكذلك من يقول : إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر ، يقول [16] : إنهم لم يضربوا أحدا منهم ، ولا أكرهوه على البيعة . فإذا لم يكره أحد على مبايعة أبي بكر ، التي هي عنده متعينة ، فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان ، وهي عنده غير متعينة ؟

                  وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا [ مكرمين ] [17] غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس ، ويقول [ أبو بكر ] [18] : أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل [19] بيته . وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي ، وعنده بنو هاشم ، فيذكر لهم [20] فضلهم ، ويذكرون له فضله ، ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ، ويعتذرون من التأخر ، ويبايعونه وهو عندهم وحده .

                  والآثار المتواترة بما كان بين القوم [21] من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك .

                  [ ص: 177 ] ولو أراد أبو بكر وعمر [ في ولايتهما ] [22] إيذاء علي بطريق من الطرق ، لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ، ومنعهما من ظلمه ، وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك [23] ، فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه ؟

                  ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية ، وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه [24] ، أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك : إما بحبس ، وإما بقتل [25] سرا أو علانية [26] ، كما جرت عادة الملوك . فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له ، وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم ، وهو مريد للولاية ، فلا بد أن يخافا منه .

                  فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة . وهذا لو أراداه [27] لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ، ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش ، وأوصيا [28] بعض أهل الجيوش [29] أن يقتله [ ص: 178 ] ويسمه ، كان هذا ممكنا .

                  ففي الجملة دفع المتولي لمن يعرف أنه ينازعه ، ويقول : إنه أحق بالأمر منه ، أمر لا بد منه . وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد .

                  وعلي رضي الله عنه ، ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق ، مقدمين له ، [ بل ] [30] ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء ، مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم ، كما يفعلان بنظرائه ، ويفضلانه بما فضله الله - عز وجل - به على من ليس مثله ، ولم يعرف عنهم [31] كلمة سوء في علي قط ، [ بل ] [32] ولا في أحد من بني هاشم .

                  ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادى . فإذا كان الإنسان قادرا ، اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة ، وذلك يوجب وجود المقدور . فلو كانا مريدين بعلي سوءا ، لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما . فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة ؟ !

                  وكذلك علي - رضي الله عنه - قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة [33] ، ما يعلم به حاله في ذلك . ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ، ولا أنه كان أحق بالأمر منهما .

                  وهذا معروف عند من عرف [34] الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة ، والمنقولة بأخبار الثقات .

                  [ ص: 179 ] وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات ، وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ، ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير ، الذي لا يروج إلا على البهائم ، ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام : إما قوم سكان البوادي ، أو رءوس الجبال ، أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذبا ، فهذا هو الذي يضل .

                  وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين ، فيها أهل علم ودين . وإنما يروج على جهال [ سكنوا البوادي والجبال ] [35] أو على محلة في مدينة أو بليدة ، أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم ، حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين ، وكانوا يظهرون التشيع ، لم يتمكنوا من ذلك ، حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم . ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين ، يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد [36] ، فيكتمون عنه قولهم ، ويداهنونه ويتقونه ، كما يخاف الملك المطاع ، وهذا لأنهم أهل فرية وكذب .

                  وقد قال تعالى : ( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) [ سورة الأعراف : 152 ] قال أبو قلابة : هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية