[ ص: 173 ] وأما قوله : " ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام " .
فيقال : أولا : من قال إن هذا الصحيح ؟ وأين النقل الثابت بهذا ؟ وإنما المعروف أنه أمر الأنصار [ أن ] [1] أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم .
ثم يقال ثانيا : هذا من الكذب على ، ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ، عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة عمر . وكيف يأمر بقتلهم ، وإذا قتلوا كان الأمر [ بعد قتلهم ] ولا أمر [2] أشد فسادا ؟ ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا ، فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ، ولا يولي بعدهم أحدا ؟
وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء ، والأمة كلها مطيعة لهم ، والعساكر والجنود معهم ؟ ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك . وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك . فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة [ جميعا ] [3] ؟ ولو قال هذا فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ، ويمكنون الأنصار منهم ، ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم ؟ عمر
ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم ، لم يجب قتل أحد منهم [ بذلك ] [4] بل تولى [5] غيرهم . وهذا [ عبد الله ] بن عمر [6] كان دائما [ ص: 174 ] تعرض عليه الولايات ، فلا يتولى ، وما قتله أحد ، وقد عين للخلافة يوم الحكمين [ فتغيب عنه ] [7] وما آذاه أحد قط ، وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك .
فهذا من اختلاق مفتر [ لا يدري ] ما يكتب [8] لا شرعا ولا عادة .
ثم نقول جوابا مركبا : لا يخلو إما أن يكون أمر بهذا ، أو لم يكن أمر به . فإن كان الأول بطل إنكاره . وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة ، أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك . عمر
فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية ، وقال : " " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له . وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله [9] فهذه يشهد لها الرسول بذلك . ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها .
ولو وجب على الرجل قصاص ، وكان من أولياء الله ، وتاب من قتل العمد توبة نصوحا ، لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه ، فإن شاءوا قتلوه ، ويكون قتله كفارة له .
[ ص: 175 ] والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية [10] ، كقتل الجاسوس المسلم ، للعلماء فيه [11] قولان معروفان ، وهما قولان في مذهب : أحدهما : [ يجوز قتله ، وهو مذهب أحمد ، واختيار مالك . والثاني : ] ابن عقيل [12] لا يجوز قتله ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واختيار القاضي والشافعي أبي يعلى وغيره .
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من جاءكم وأمركم على رجل واحد ، يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه " [13] وقال في [14] في الرابعة فاقتلوه " شارب الخمر : " إن شربها [15] . وقد تنازع العلماء في هذا الحكم : هل هو منسوخ أم لا ؟
فلو قدر أن أمر بقتل واحد من عمر المهاجرين الأولين ، لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ، ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ، ولم يقدح لا في عدل هذا ، ولا في دخول هذا الجنة . فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك ؟
ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر بقتلهم ، بتقدير صحة هذا النقل ، يستحقون القتل إلا عمر عليا . فإن كان أمر بقتلهم ، فلماذا ينكرون عليه ذلك ، ثم يقولون : إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر [ ص: 176 ] بقتلهم ؟ فهذا جمع بين الضدين . عمر
وإن قلتم : كان مقصوده قتل . علي
قيل : لو بايعوا إلا لم يكن ذلك يضر الولاية ، فإنما يقتل من يخاف . وقد تخلف عليا عن بيعة سعد بن عبادة ، ولم يضربوه ولم يحبسوه ، فضلا عن القتل . أبي بكر
وكذلك من يقول : إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة ستة أشهر ، يقول أبي بكر [16] : إنهم لم يضربوا أحدا منهم ، ولا أكرهوه على البيعة . فإذا لم يكره أحد على مبايعة ، التي هي عنده متعينة ، فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة أبي بكر ، وهي عنده غير متعينة ؟ عثمان
وأبو بكر مدة خلافتهما ما زالا [ مكرمين ] وعمر [17] غاية الإكرام وسائر بني هاشم لعلي يقدمونهم على سائر الناس ، ويقول [ ] أبو بكر [18] : أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل [19] بيته . يذهب وحده إلى بيت وأبو بكر ، وعنده علي بنو هاشم ، فيذكر لهم [20] فضلهم ، ويذكرون له فضله ، ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ، ويعتذرون من التأخر ، ويبايعونه وهو عندهم وحده .
والآثار المتواترة بما كان بين القوم [21] من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك .
[ ص: 177 ] ولو أراد أبو بكر [ في ولايتهما ] وعمر [22] إيذاء بطريق من الطرق ، لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - . علي
فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ، ومنعهما من ظلمه ، وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك [23] ، فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه ؟
ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية ، وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه [24] ، أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك : إما بحبس ، وإما بقتل [25] سرا أو علانية [26] ، كما جرت عادة الملوك . فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له ، وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم ، وهو مريد للولاية ، فلا بد أن يخافا منه .
فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة . وهذا لو أراداه [27] لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ، ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش ، وأوصيا [28] بعض أهل الجيوش [29] أن يقتله [ ص: 178 ] ويسمه ، كان هذا ممكنا .
ففي الجملة دفع المتولي لمن يعرف أنه ينازعه ، ويقول : إنه أحق بالأمر منه ، أمر لا بد منه . وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد .
رضي الله عنه ، ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق ، مقدمين له ، [ بل ] وعلي [30] ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء ، مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم ، كما يفعلان بنظرائه ، ويفضلانه بما فضله الله - عز وجل - به على من ليس مثله ، ولم يعرف عنهم [31] كلمة سوء في علي قط ، [ بل ] [32] ولا في أحد من بني هاشم .
ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادى . فإذا كان الإنسان قادرا ، اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة ، وذلك يوجب وجود المقدور . فلو كانا مريدين سوءا ، لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما . فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة ؟ ! بعلي
وكذلك - رضي الله عنه - قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة علي [33] ، ما يعلم به حاله في ذلك . ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ، ولا أنه كان أحق بالأمر منهما .
وهذا معروف عند من عرف [34] الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة ، والمنقولة بأخبار الثقات .
[ ص: 179 ] وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات ، وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ، ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير ، الذي لا يروج إلا على البهائم ، ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام : إما قوم سكان البوادي ، أو رءوس الجبال ، أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذبا ، فهذا هو الذي يضل .
الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين ، فيها أهل علم ودين . وإنما يروج على جهال [ سكنوا البوادي والجبال ] وهكذا [35] أو على محلة في مدينة أو بليدة ، أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم ، حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين ، وكانوا يظهرون التشيع ، لم يتمكنوا من ذلك ، حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم . ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين ، يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد [36] ، فيكتمون عنه قولهم ، ويداهنونه ويتقونه ، كما يخاف الملك المطاع ، وهذا لأنهم أهل فرية وكذب .
وقد قال تعالى : ( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) [ سورة الأعراف : 152 ] قال أبو قلابة : هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة .