الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  السبب الثالث : الأعمال الصالحة ؛ فإن الله تعالى يقول : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ سورة هود : 114 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - [ لمعاذ بن جبل يوصيه : " يا معاذ اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " [1] .

                  وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ] [2] : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " أخرجاه في الصحيحين [3] .

                  وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من صام رمضان [ ص: 213 ] إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " [4] . وقال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " [5] .

                  وقال : " أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، هل كان يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا . قال : كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن " . وهذا كله في الصحيح [6] .

                  [ ص: 214 ] وقال : " الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار " رواه الترمذي وصححه [7] .

                  وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) [ سورة الصف : 10 - 12 ] .

                  وفي الصحيح : " يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين " [8] وما روي : أن [ ص: 215 ] " شهيد البحر يغفر له الدين " ، فإسناده ضعيف [9] . والدين حق لآدمي [10] فلا بد من استيفائه .

                  وفي الصحيح : " صوم يوم عرفة كفارة سنتين ، وصوم [ يوم ] [11] عاشوراء كفارة سنة " [12] . ومثل هذه النصوص كثير ، وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط [ كثير ] [13] .

                  [ ص: 216 ] فإن الإنسان قد يقول : إذا كفر عني بالصلوات [14] [ الخمس ] [15] ، فأي شيء تكفر [ عني ] الجمعة [16] أو رمضان ، وكذلك صوم [ يوم ] [17] عرفة وعاشوراء ؟ [ وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات ] [18] .

                  فيقال [19] : أولا : العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به [20] السيئات هو العمل المقبول .

                  والله تعالى إنما يتقبل من المتقين .

                  والناس لهم في هذه الآية ( 8 وهي قوله تعالى : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) [ سورة المائدة : 27 ] 8 ) [21] [ ثلاثة أقوال ] [22] : طرفان ووسط . فالخوارج والمعتزلة يقولون : لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر . وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة [23] بحال . والمرجئة يقولون : من اتقى الشرك . والسلف والأئمة يقولون : لا يتقبل إلا ممن اتقاه [24] في ذلك العمل ففعله [ ص: 217 ] كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى .

                  قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [ سورة هود : 7 ] . قال : أخلصه وأصوبه . قيل : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .

                  فصاحب الكبائر [25] إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه ، ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه ، وإن تقبل منه عملا آخر .

                  وإذا كان الله إنما يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور [ به ] [26] ، ففي السنن عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن العبد لينصرف عن [27] صلاته ولم يكتب له منها [28] إلا نصفها ، إلا ثلثها ، إلا ربعها ، حتى قال : إلا عشرها " [29] .

                  وقال ابن عباس : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها .

                  وفي الحديث : " رب صائم حظه من صيامه العطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر " [30] . وكذلك الحج والجهاد وغيرهما .

                  [ ص: 218 ] وفي حديث معاذ موقوفا ومرفوعا ، وهو في السنن : " الغزو غزوان : فغزو يبتغى به وجه الله ، ويطاع فيه الأمير ، وتنفق فيه كرائم الأموال ، ويياسر فيه الشريك ، ويجتنب فيه الفساد ، ويتقى فيه الغلول ، فذلك الذي لا يعدله شيء . وغزو لا يبتغى به وجه الله ، ولا يطاع فيه الأمير ، ولا تنفق فيه كرائم الأموال ، ولا يياسر [31] فيه الشريك ، ولا يجتنب فيه الفساد ، ولا يتقى فيه الغلول ، فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا " [32] .

                  وقيل لبعض السلف : الحاج كثير . فقال : الداج كثير ، والحاج قليل . ومثل هذا كثير .

                  فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال . وأكثر الناس يقصرون في الحسنات ، حتى في نفس صلاتهم . فالسعيد منهم من يكتب له نصفها ، وهم يفعلون السيئات كثيرا ؛ فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء ، وبما يقبل من الجمعة شيء ، وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر . وكذلك سائر الأعمال ، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة ، بل المحو يكون للصغائر تارة ، ويكون للكبائر [ تارة ] [33] ، باعتبار الموازنة .

                  والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه [ ص: 219 ] إخلاصه وعبوديته لله ، فيغفر [ الله ] له به [34] كبائر . كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ] [35] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق ، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل منها مد البصر . فيقال : هل تنكر من هذا شيئا ؟ فيقول : لا يا رب . فيقول : لا ظلم عليك . فتخرج له بطاقة قدر الكف ، فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، فيقول : أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فتوضع [ هذه ] [36] البطاقة في كفة ، والسجلات في كفة ، فثقلت البطاقة وطاشت السجلات " [37] .

                  فهذه [38] حال من قالها بإخلاص وصدق ، كما قالها هذا الشخص . وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون : لا إله إلا الله ، [ ص: 220 ] ولم يترجح قولهم على سيئاتهم ، كما ترجح قول صاحب البطاقة .

                  وكذلك في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش ، فوجد بئرا ، فنزل فيها فشرب . ثم خرج ، فإذا كلب يلهث ، يأكل الثرى من العطش . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ، ثم أمسكه بفيه حتى رقى ، فسقى الكلب ، فشكر الله له [39] ، فغفر له " [40] .

                  وفي لفظ في الصحيحين : " إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش ، فنزعت [ له ] موقها ، [ فسقته به ] ، فغفر لها " [41] . وفي لفظ [ في الصحيحين ] [42] أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل [43] .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 221 ] قال : " بينما رجل يمشي [ في طريق ] [44] وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له ، فغفر له " [45] .

                  وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دخلت امرأة النار في هرة ، ربطتها : لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت " [46] .

                  فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها [47] فغفر لها ، وإلا فليس كل بغي سقت كلبا يغفر لها . وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق ، فعله إذ ذاك بإيمان خالص ، [ وإخلاص ] قائم بقلبه [48] ، فغفر له بذلك . فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص ، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا ، وبين [ ص: 222 ] صلاتيهما كما بين السماء والأرض . وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له .

                  قال الله تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) [ سورة الحج : 37 ] . فالناس [49] يشتركون في الهدايا والضحايا ، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول ، والتصدق [50] به ، لكن يناله تقوى القلوب .

                  وفي الأثر : إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا ، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب .

                  فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها [ ويصغر قدرها ] [51] بما في القلوب ، وما في القلوب يتفاضل ، لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله - عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ، ولم يضرب بعضه ببعض .

                  وقد قال تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) [ سورة المؤمنون : 60 ] .

                  وفي الترمذي وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يا رسول الله ، أهو [52] الرجل يزني ويسرق [53] ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب ؟ قال : لا [ ص: 223 ] يا ابنة الصديق ، بل هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يتقبل منه " [54] .

                  [ وقد ثبت ] في الصحيحين [55] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " [56] .

                  وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله ، وكثرة الصوارف عنه ، وضعف الدواعي [57] إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم . وهذا مما يعرف بعضه من ذاق الأمور ، وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس ، وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة .

                  وهذا مما يعرف به أن أبا بكر - رضي الله عنه - لن يكون أحد مثله ، فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد . قال أبو بكر بن عياش [58] : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وقر في قلبه .

                  وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول ، مؤمنين به مجاهدين معه ، إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم .

                  [ ص: 224 ] و [ قد ثبت ] في صحيح مسلم [59] عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال : " النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهبت [60] أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " [61] .

                  [ ص: 225 ] وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليأتين على الناس زمان يغزو [ فيه ] [62] فئام من الناس ، فيقال : هل فيكم من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقال : نعم ، فيفتح لهم " وفي لفظ [63] : " هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون : نعم ، فيفتح لهم . ثم يأتي على الناس زمان يغزو [ فيه ] [64] فئام من الناس ، فيقال : هل فيكم من صحب من صحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ [65] فيقولون : نعم ، فيفتح لهم " . هذا لفظ بعض الطرق ، والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق ، وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها [66] .

                  وقد ثبت ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة ، من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها : [ ص: 226 ] " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد [ قرنه ] [67] قرنين أو ثلاثة [68] .

                  والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة ، بل لحقائقها التي في القلوب . والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما . وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل [ واحد ] ممن بعدهم [69] ، فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين ، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ، ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز ؟

                  ذكر القاضي عياض [ وغيره ] [70] في ذلك قولين ، وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة ، وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما .

                  ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر ، وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية ، وهو أزهد من معاوية ، لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " [71] .

                  قالوا : فنحن قد نعلم أن أعمال [ بعض ] [72] من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم ، لكن من أين نعلم [73] أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن جبل ذهب من الذين [ ص: 227 ] أسلموا [74] بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين . ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبد العزيز : أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم ، فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه ، وقد تصدق به عليهم ، لم يعدل ذلك مما أنفقه [75] السابقون إلا شيئا يسيرا . وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان ، وهو لا يصير مثل نصف مد ؟

                  ولهذا يقول من يقول من السلف : غبار دخل [ في ] [76] أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من [ عمل ] [77] عمر بن عبد العزيز .

                  وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه ، إذ المقصود هنا أن الله - سبحانه - مما يمحو به السيئات الحسنات ، وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى . وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم ، [ فكيف الصحابة ؟ ] [78] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية