الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره " .

                  فالجواب : أن هذا من الكذب البين على ابن مسعود ، فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان ، بل لما ولي عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال : " ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل " .

                  وكان عثمان في السنين الأول [1] من ولايته لا ينقمون منه شيئا ، ولما كانت السنين الآخرة [2] نقموا منه أشياء ، بعضها هم معذورون فيه ، وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه .

                  من جملة ذلك أمر ابن مسعود ؛ فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف ، لما فوض كتابته إلى زيد دونه ، وأمر الصحابة [3] أن يغسلوا [4] مصاحفهم . وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان ، وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك أبو بكر وعمر لجمع المصحف في [ ص: 253 ] الصحف [5] ، فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر ، وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة ، فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة ، فإن جبريل عارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين .

                  وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر ، وقد قدم ابن مسعود إلى المدينة ، وعرض عليه عثمان النكاح .

                  وهؤلاء المبتدعة غرضهم التكفير أو التفسيق [6] للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة ، فكيف يفسق بها أولئك ؟ ومعلوم أن مجرد قول الخصم [ في خصمه ] [7] لا يوجب القدح في واحد منها ، وكذلك كلام أحد [8] المتشاجرين في الآخر .

                  ثم يقال : بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان - رضي الله عنهما - فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود . وإذا كان كل واحد منهما مجتهدا فيما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له خطأه ، وإن كان صدر من أحدهما ذنب ، فقد علمنا أن كلا منهما ولي لله ، وأنه من أهل الجنة ، وأنه لا يدخل النار ، فذنب كل واحد [9] منهما لا يعذبه الله عليه في الآخرة .

                  [ ص: 254 ] وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه . هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر [ ومن ] غيرهم [10] من وجوه كثيرة ، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة .

                  فليس جعل كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس ، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل ، وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما ، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله .

                  ولهذا أوصوا [11] بالإمساك عما شجر بينهم ؛ لأنا لا نسأل عن ذلك [12] .

                  كما قال عمر بن عبد العزيز : " تلك دماء طهر الله منها يدي ، فلا أحب أن أخضب بها لساني " . وقال آخر : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [ سورة البقرة : 134 ] .

                  لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل ، فلا بد من الذب عنهم ، وذكر ما يبطل حجته [13] بعلم وعدل .

                  وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان ، وقول الحسن فيه ، ونقل عنه أنه قال : " لقد كفر عثمان كفرة صلعاء " ، وأن الحسن بن علي أنكر [ ذلك ] [14] عليه ، وكذلك علي ، وقال له : " يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان ؟ " .

                  وقد تبين أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله ، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد . ولا يقدح [ ص: 255 ] هذا في إيمان واحد منهما وولايته . كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنك منافق تجادل عن المنافقين " [15] ، وكما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لحاطب بن أبي بلتعة : " دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق " ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " [16] .

                  فعمر أفضل من عمار ، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة . وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ، [ ومع هذا ] فكلاهما [17] من أهل الجنة ، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة ، وإن قال أحدهما للآخر ما قال ؟ ! مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية