الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال الرازي :

                  ( البرهان الثامن : لوازم الماهية معلولة لها ، وهي غير متأخرة عنها زمانا ، فإن كون المثلث مساوي الزوايا لقائمتين ليس إلا لأنه مثلث ، وهذا الاقتضاء [1] من لوازم المثلث [2] ، بل نزيد فنقول : إن الأسباب مقارنة [ ص: 281 ] لمسبباتها مثل الإحراق يكون مقارنا للاحتراق ، والألم عقيب [3] سوء المزاج ، أو تفرق الاتصال ، بل نذكر شيئا لا ينازعون فيه [4] ليكون أقرب إلى الغرض ، وهو كون العلم علة للعالمية والقدرة للقادرية عند من يقول به ، وكل ذلك [5] يوجد مقارنة لآثارها غير متقدمة عليها . [6] فعلمنا أن مقارنة الأثر والمؤثر في الزمان لا تبطل جهة الاستناد والحاجة ) .

                  والجواب أن يقال : إن أريد بالماهية [7] ما هو موجود في الخارج مثل المثلثات الموجودة فصفات تلك الماهية [8] اللازمة لها ليست صادرة عنها ، بل الفاعل للملزوم هو الفاعل للصفة اللازمة له القائمة به ، ويمتنع فعله لأحدهما : بدون الآخر ، ومن قال : إن الموصوف علة للازمه ، فإن أراد بالعلة أنه ملزوم ، فلا حجة له فيه ، وإن أراد أنه فاعل أو مبدع أو علة فاعلة فقوله معلوم الفساد ببديهة العقل ، فإن الصفات القائمة بالموصوف اللازمة له إنما يفعلها من فعل الموصوف ، فإنه يمتنع فعله للموصوف بدون فعله لصفته اللازمة [ له ] [9] ، وإن أريد بالماهية ما يقدر في الذهن ، فتلك صورة [10] علمية ، والكلام فيها كالكلام في الخارجية ، [ ص: 282 ] فالفاعل للملزوم هو الفاعل للازمه لم يكن الملزوم علة فاعلة للازم .

                  وقولهم : ( هذا الاقتضاء من لوازم المثلث ) إن أرادوا بالاقتضاء والتعليل الاستلزام فهو حق ، ولا حجة فيه ، وإن أرادوا أنه علة فاعلة [11] ، فهذا معلوم الفساد ، وأما الأسباب والمسببات الموجودة في الخارج . كما في سوء المزاج والألم ، فمن الذي سلم أن زمانهما واحد ؟ . والمستدلون أنفسهم قد قالوا في حجتهم : إن وجود الألم عقب سوء المزاج ، وما يوجد عقب الشيء يكون وجوده بعده ، لكن غايته أن يكون بلا فصل ، لكن لا يكون معه في الزمان ، فإن ما مع الشيء في الزمان لا يقال : إنه [ إنما ] [12] يوجد عقبه .

                  وهكذا القول في كل الأسباب لا نسلم أن زمان وجودها كلها هو زمان وجود المسببات ، بل لا بد من حصول تقدم زماني [13] ، وكذلك الكسر والانكسار والإحراق والاحتراق ، فإن الكسر هو فعل الكاسر الذي يقوم به مثل الحركة القائمة بالإنسان والانكسار هو التفرق الحاصل بالمكسور ، وذلك يحصل بحركة في زمان ، ومعلوم أن زمان تلك الحركة قبل زمان هذه لكن قد يتصل الزمان بالزمان ، والمتصل يقال : إنه معه لكن فرق بين [ ما يكون زمانهما واحدا ] [14] ، وما يكون زمانهما متعاقبا .

                  ومن الأسباب ما يقتضي مسببه شيئا فشيئا ، فإذا كمل السبب كمل مسببه مثل الأكل والشرب مع الشبع والري والسكر ، فكلما حصل بعض [ ص: 283 ] الأكل حصل جزء من الشبع [ لا يحصل المسبب إلا بعد حصول السبب لا معه ] [15] .

                  وهذا قول جماهير العقلاء من أهل الكلام والفقه والفلسفة وغيرهم يقرون بأن المسبب يحصل عقب السبب ، ولهذا كان أئمة الفقهاء [ وجماهيرهم ] [16] على أنه إذا قال : إذا مات أبي فأنت حرة ، أو طالق ، [ أو غيرهما ] [17] أنه إنما يحصل المسبب عقب الموت لا مع الموت ، وشذ بعض المتأخرين فظن حصول الجزاء مع السبب ، وقال : إن هذا بمنزلة العلة مع المعلول ، وأن المعلول يحصل زمن العلة .

                  ولفظ ( العلة ) مجمل يراد به المؤثر في الوجود ، ويراد به الملزوم ، فإذا سلم الاقتران . [18] في الثاني لم يسلم الاقتران . [19] في الأول ، فلا يعرف في الوجود مؤثر في وجود غيره مقارن له في الزمان من كل وجه ، [ بل ] [20] لا بد أن يتقدم عليه زمانا ، ولا بد أن يحصل وجوده بعد عدم ، ولهذا جعل الفلاسفة العدم من جملة المبادئ ، كما قد ذكرنا كلامهم .

                  ومما يمثلون به حصول الصوت مع الحركة كالطنين مع [ النقرة ] [21] ، وأن المسبب هنا مع السبب ، وهذا أيضا ممنوع ، فإن وجود الحركة التي هي [ ص: 284 ] سبب الصوت يتقدم وجود الصوت ، [ وإن كان وجود الصوت ] [22] متصلا بوجود الحركة لا ينفصل عنه لكن المقصود أنه لا يكون إلا بعده ، وليس أول زمن الحركة يكون أول زمن الصوت ، بل لا بد من وجود الحركة والصوت يعقبها ، ولهذا يعطف المسبب على السبب بحرف الفاء الدالة على التعقيب ، فيقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، ويقال : ضربته بالسيف فمات ، أو فقتلته ، وأكل فشبع ، وشرب فروي ، وأكل حتى شبع ، وشرب حتى روي ، ونحو ذلك ، فالكسر والقطع فعل يقوم بالفاعل مثل أن يضربه بيده أو بآلة معه ، فإذا وصل إليه الأثر انكسر وانقطع ، فأحدهما يعقب الآخر لا يكون أول زمان هذا أول زمان هذا ولا آخر زمان هذا آخر زمان هذا ، بل يتقدم زمان السبب ، ويتأخر زمان المسبب .

                  ولهذا تنازع الناس في المسبب المتولد عن فعل الإنسان ، فقالت طائفة : هو فعله ، وقالت طائفة : هو فعل الرب ، وقالت طائفة : بل الإنسان مشارك في فعله ، وهو حاصل بفعله وبسبب آخر ، مثل خروج السهم من القوس ، ومثل حصول الشبع والري بالأكل والشرب .

                  ولولا تقدم السبب على المسبب لم يحصل هذا النزاع ، فإن السبب حاصل في العبد في محل قدرته وحركته ، والمسبب حاصل في غير محل قدرته وحركته ، ومن هذا الباب حركة الكم مع حركة اليد وحركة آخر الحبل مع حركة أوله ، ونظائره كثيرة .

                  فعلم أنهم لم يجدوا في الوجود مفعولا يكون زمانه زمان فاعله بلا [23] [ ص: 285 ] تأخر أصلا لا مع الاتصال ، ولا مع الانفصال ، كما يدعونه في فعل رب العالمين خالق كل شيء ومليكه من أن السماوات لم تزل معه مقارنة له في الزمان ، زمان وجودها هو زمان وجوده لا يجوز أن يتقدم عليها بشيء من الزمان ألبتة .

                  وأما ما ذكره من كون العلم علة للعالمية ، فهذا أولا قول مثبتي الأحوال كالقاضي أبي بكر ، والقاضي أبي يعلى [24] ، وقبلهما أبو هاشم ، وجمهور النظار يقولون : إن العلم هو العالمية ، وهذا هو الصواب ، وعلى قول أولئك فلا يقولون إن العلم هنا علة فاعلة لا بإرادة ، ولا بذات ، ولا بغير ذلك ، بل المعلول عندهم لا يوصف بالوجود فقط ، ومعنى العلة عندهم الاستلزام ، وهذا لا نزاع فيه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية