قال الرازي :
( البرهان الثامن : ، وهي غير متأخرة عنها زمانا ، فإن كون المثلث مساوي الزوايا لقائمتين ليس إلا لأنه مثلث ، وهذا الاقتضاء لوازم الماهية معلولة لها [1] من لوازم المثلث [2] ، بل نزيد فنقول : إن الأسباب مقارنة [ ص: 281 ] لمسبباتها مثل الإحراق يكون مقارنا للاحتراق ، والألم عقيب [3] سوء المزاج ، أو تفرق الاتصال ، بل نذكر شيئا لا ينازعون فيه [4] ليكون أقرب إلى الغرض ، وهو كون العلم علة للعالمية والقدرة للقادرية عند من يقول به ، وكل ذلك [5] يوجد مقارنة لآثارها غير متقدمة عليها . [6] فعلمنا أن مقارنة الأثر والمؤثر في الزمان لا تبطل جهة الاستناد والحاجة ) .
والجواب أن يقال : إن أريد بالماهية [7] ما هو موجود في الخارج مثل المثلثات الموجودة فصفات تلك الماهية [8] اللازمة لها ليست صادرة عنها ، بل الفاعل للملزوم هو الفاعل للصفة اللازمة له القائمة به ، ويمتنع فعله لأحدهما : بدون الآخر ، ومن قال : إن الموصوف علة للازمه ، فإن أراد بالعلة أنه ملزوم ، فلا حجة له فيه ، وإن أراد أنه فاعل أو مبدع أو علة فاعلة فقوله معلوم الفساد ببديهة العقل ، فإن الصفات القائمة بالموصوف اللازمة له إنما يفعلها من فعل الموصوف ، فإنه يمتنع فعله للموصوف بدون فعله لصفته اللازمة [ له ] [9] ، وإن أريد بالماهية ما يقدر في الذهن ، فتلك صورة [10] علمية ، والكلام فيها كالكلام في الخارجية ، [ ص: 282 ] فالفاعل للملزوم هو الفاعل للازمه لم يكن الملزوم علة فاعلة للازم .
وقولهم : ( هذا الاقتضاء من لوازم المثلث ) إن أرادوا بالاقتضاء والتعليل الاستلزام فهو حق ، ولا حجة فيه ، وإن أرادوا أنه علة فاعلة [11] ، فهذا معلوم الفساد ، وأما الأسباب والمسببات الموجودة في الخارج . كما في سوء المزاج والألم ، فمن الذي سلم أن زمانهما واحد ؟ . والمستدلون أنفسهم قد قالوا في حجتهم : إن وجود الألم عقب سوء المزاج ، وما يوجد عقب الشيء يكون وجوده بعده ، لكن غايته أن يكون بلا فصل ، لكن لا يكون معه في الزمان ، فإن ما مع الشيء في الزمان لا يقال : إنه [ إنما ] [12] يوجد عقبه .
وهكذا القول في كل الأسباب لا نسلم أن زمان وجودها كلها هو زمان وجود المسببات ، بل لا بد من حصول تقدم زماني [13] ، وكذلك الكسر والانكسار والإحراق والاحتراق ، فإن الكسر هو فعل الكاسر الذي يقوم به مثل الحركة القائمة بالإنسان والانكسار هو التفرق الحاصل بالمكسور ، وذلك يحصل بحركة في زمان ، ومعلوم أن زمان تلك الحركة قبل زمان هذه لكن قد يتصل الزمان بالزمان ، والمتصل يقال : إنه معه لكن فرق بين [ ما يكون زمانهما واحدا ] [14] ، وما يكون زمانهما متعاقبا .
ومن الأسباب ما يقتضي مسببه شيئا فشيئا ، فإذا كمل السبب كمل مسببه مثل الأكل والشرب مع الشبع والري والسكر ، فكلما حصل بعض [ ص: 283 ] الأكل حصل جزء من الشبع [ لا يحصل المسبب إلا بعد حصول السبب لا معه ] [15] .
وهذا قول جماهير العقلاء من أهل الكلام والفقه والفلسفة وغيرهم يقرون بأن ، ولهذا كان أئمة الفقهاء [ وجماهيرهم ] المسبب يحصل عقب السبب [16] على أنه إذا قال : إذا مات أبي فأنت حرة ، أو طالق ، [ أو غيرهما ] [17] أنه إنما يحصل المسبب عقب الموت لا مع الموت ، وشذ بعض المتأخرين فظن حصول الجزاء مع السبب ، وقال : إن هذا بمنزلة العلة مع المعلول ، وأن المعلول يحصل زمن العلة .
ولفظ ( العلة ) مجمل يراد به المؤثر في الوجود ، ويراد به الملزوم ، فإذا سلم الاقتران . [18] في الثاني لم يسلم الاقتران . [19] في الأول ، فلا يعرف في الوجود مؤثر في وجود غيره مقارن له في الزمان من كل وجه ، [ بل ] [20] لا بد أن يتقدم عليه زمانا ، ولا بد أن يحصل وجوده بعد عدم ، ولهذا ، كما قد ذكرنا كلامهم . جعل الفلاسفة العدم من جملة المبادئ
ومما يمثلون به حصول الصوت مع الحركة كالطنين مع [ النقرة ] [21] ، وأن المسبب هنا مع السبب ، وهذا أيضا ممنوع ، فإن وجود الحركة التي هي [ ص: 284 ] سبب الصوت يتقدم وجود الصوت ، [ وإن كان وجود الصوت ] [22] متصلا بوجود الحركة لا ينفصل عنه لكن المقصود أنه لا يكون إلا بعده ، وليس أول زمن الحركة يكون أول زمن الصوت ، بل لا بد من وجود الحركة والصوت يعقبها ، ولهذا يعطف المسبب على السبب بحرف الفاء الدالة على التعقيب ، فيقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع ، ويقال : ضربته بالسيف فمات ، أو فقتلته ، وأكل فشبع ، وشرب فروي ، وأكل حتى شبع ، وشرب حتى روي ، ونحو ذلك ، فالكسر والقطع فعل يقوم بالفاعل مثل أن يضربه بيده أو بآلة معه ، فإذا وصل إليه الأثر انكسر وانقطع ، فأحدهما يعقب الآخر لا يكون أول زمان هذا أول زمان هذا ولا آخر زمان هذا آخر زمان هذا ، بل يتقدم زمان السبب ، ويتأخر زمان المسبب .
ولهذا ، فقالت طائفة : هو فعله ، وقالت طائفة : هو فعل الرب ، وقالت طائفة : بل الإنسان مشارك في فعله ، وهو حاصل بفعله وبسبب آخر ، مثل خروج السهم من القوس ، ومثل حصول الشبع والري بالأكل والشرب . تنازع الناس في المسبب المتولد عن فعل الإنسان
ولولا تقدم السبب على المسبب لم يحصل هذا النزاع ، فإن السبب حاصل في العبد في محل قدرته وحركته ، والمسبب حاصل في غير محل قدرته وحركته ، ومن هذا الباب حركة الكم مع حركة اليد وحركة آخر الحبل مع حركة أوله ، ونظائره كثيرة .
فعلم أنهم لم يجدوا في الوجود مفعولا يكون زمانه زمان فاعله بلا [23] [ ص: 285 ] تأخر أصلا لا مع الاتصال ، ولا مع الانفصال ، كما يدعونه في فعل رب العالمين خالق كل شيء ومليكه من أن السماوات لم تزل معه مقارنة له في الزمان ، زمان وجودها هو زمان وجوده لا يجوز أن يتقدم عليها بشيء من الزمان ألبتة .
وأما ما ذكره من كون ، فهذا أولا قول مثبتي الأحوال العلم علة للعالمية كالقاضي أبي بكر ، والقاضي أبي يعلى [24] ، وقبلهما أبو هاشم ، وجمهور النظار يقولون : إن العلم هو العالمية ، وهذا هو الصواب ، وعلى قول أولئك فلا يقولون إن العلم هنا علة فاعلة لا بإرادة ، ولا بذات ، ولا بغير ذلك ، بل المعلول عندهم لا يوصف بالوجود فقط ، ومعنى العلة عندهم الاستلزام ، وهذا لا نزاع فيه .