الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قول القائل : " إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

                  فهذا من أظهر [ الكذب ] [1] الباطل ، فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب ، فهذا باطل ظاهر البطلان .

                  وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة ، فهو باطل من وجوه : أحدها : أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ، ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا .

                  والثاني : أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح ، واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين .

                  وقد قال تعالى ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ سورة البقرة : 213 ] قال ابن عباس : " كان بين آدم [ ص: 309 ] ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، ثم اختلفوا بعد ذلك " [2] .

                  وقال تعالى : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) [ سورة يونس : 19 ] .

                  وقال تعالى : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) [ سورة هود : 118 ، 119 ] .

                  وقالت الملائكة لما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ سورة البقرة : 30 ] .

                  وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه ، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، فإنه أول من سن القتل " [3] .

                  وقال تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) [ سورة البقرة : 253 ] .

                  [ ص: 310 ] وقد قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) [ سورة آل عمران : 105 ] .

                  فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا . وقال - صلى الله عليه وسلم - : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة " [4] .

                  وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " [5] .

                  وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) [ سورة المائدة : 64 ] .

                  وقال تعالى : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) [ سورة المائدة : 14 ] .

                  وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف [ ص: 311 ] والنزاع . والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل ، فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب ، كان الخلاف بينهم أقل .

                  فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمر لا يحصيه إلا الله ، وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا . وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم . وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة ، كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم . ثم بعد ذلك [6] اختلاف أهل الحديث ، وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم ، لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال [7] ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) [ سورة آل عمران : 103 ] .

                  فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا : إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وكم قد [8] وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا ؟ .

                  والتحديد بشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل . فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم . والكذب ظاهر عليها .

                  وأما ما وقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه ، وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلح بينهم .

                  [ ص: 312 ] وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال ، فقال الآخذون : هي لنا ، وقال الذاهبون خلف العدو : هي لنا . وقال الحافظون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي لنا حتى أنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) [ سورة الأنفال : 1 ] .

                  وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك ، حتى هم الحيان بالاقتتال ، فسكنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز ؟ .

                  وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج ، حتى اختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) [ آل عمران : 100 ، 101 ] .

                  وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ، فقال المهاجري : يا للمهاجرين ! وقال الأنصاري : يا للأنصار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم ، دعوها فإنها منتنة " [9] .

                  [ ص: 313 ] وقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدركتهم الصلاة في الطريق . فقال بعضهم : نصلي ولا نترك الصلاة . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة ، فصلوا بعد غروب الشمس . فما عنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم [10] .

                  وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم ، قال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد [11] . وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال : ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) الآية [ سورة الحجرات : 2 ] فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار [12] .

                  [ ص: 314 ] وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بشيء أو يأذن فيه ، فيراجع فيه ، فينسخ الله ذلك الأمر الأول . كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا : ألا نريقها ؟ قال : أريقوها [13] .

                  ولما كانوا في سفر استأذنوه [14] في نحر ظهورهم ، فأذن لهم . حتى جاء عمر فقال : يا رسول الله ، إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ، ولكن اجمع ما معهم ، وادع الله تبارك وتعالى فيه ، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك
                  [15] .

                  ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغلته ، وقال : " اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة . فلقيه عمر فقال ، فضربه في صدره ، وقال : ارجع ، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  وقال له عمر : فلا تفعل ; فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم [ ص: 315 ] يعملون ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فخلهم
                  " [16] . وأمثال ذلك كثير .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية