الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والمقصود أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ، ولم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام : لا في الصفات ولا [ في ] القدر [1] ، ولا مسائل الأسماء والأحكام [2] ، ولا مسائل الإمامة . لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال ، فضلا عن الاقتتال بالسيف ، بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه ، نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين ، مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله ، مثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد ، مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر .

                  [ ثم ] [3] لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ، ويجعل القدر [4] حجة لمن عصى أو كفر ، ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة [ ص: 337 ] وقدرته العامة وخلقه لكل شيء ، وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة ، وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة ، وخصهم بهذه النعمة ، دون أهل الكفر والمعصية ، ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين ، وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ، ولا من يقول : إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك ، وينهى عن عبادته وحده ، ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار ، وأمثال ذلك .

                  فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ، ولا القدرية الجبرية الجهمية . ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ، ولا من يكذب بشفاعة [5] النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر ، ولا من يقول : إيمان ( * الفساق كإيمان الأنبياء .

                  بل قد [6] ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان * ) [7] من النار بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن إيمان الناس يتفاضل ، وأن الإيمان يزيد وينقص .

                  ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه ، كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره [8] . وأما المنقول عن ابن [ ص: 338 ] عباس ، ففي توبة القاتل ، لا القول بتخليده وتوبته فيها ، روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه . فأين هذا من هذا ؟ .

                  ولا كان في الصحابة من يقول : إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ، ولا من يقول : إن خلافتهم ثابتة بالنص ، ولا من يقول : إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ، ولا أحق منه بالإمامة .

                  فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة ، لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات ، فضلا عن السيف ، ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة . فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته [9] لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك .

                  والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف ، بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله ، وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه ، وقد تواتر [10] عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر . ولم يظهر عن الشيعة [11] الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر ، فضلا عن الطعن في إمامتهما .

                  [ ص: 339 ] وبكل حال ، فمن المعلوم للخاصة والعامة ، أهل السنة وأهل البدعة ، أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه ، إلا لكونهم لم يبايعوا عليا ، لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان .

                  وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه ، لم يكن لعلي غرض في قتالهم ، ولا لهم غرض في قتاله ، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان ، وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم ، فلم يتمكنوا منهم ، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم [12] ، عرفهم أن هذا أيضا رأيه ، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر ، فلما علم بعض القتلة ذلك ، حمل [ على ] أحد العسكرين [13] ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال ، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ، ثم وقع قتال على الملك .

                  فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة ، مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ، ثم بين مروان وابنه . وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان ، وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر .

                  وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة - فتنة الحرة - فإنما كانت من بعض أهل المدينة ، أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد ، لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا ، بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر .

                  [ ص: 340 ] والحسين - رضي الله عنه - لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد ، لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر . وكذلك الذين قتلوه . ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ، ولا كان معه جيش يقاتل به ، وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه ، أو أن يرد إلى منزله بالمدينة ، أو يسير إلى الثغر ، فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم ، فلم يقتل - رضي الله عنه - وهو يقاتل على ولاية ، بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم .

                  والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أثنى عليه بذلك وقال : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به [14] بين فئتين عظيمتين من المسلمين " [15] .

                  ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد . ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى [16] أنه يوحى إليه .

                  وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سيكون من ثقيف كذاب ومبير [17] " ، وكان الكذاب هو الذي سمي [18] المختار ، [ ص: 341 ] ولم يكن بالمختار . والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الأشعث ، خرج عليه ، ومعه القراء ، كانت بظلمه وعسفه .

                  فلم يكن شيء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر ، بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر ، وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت ، فإذا جاء قوم ينازعونه ، قام معه ناس ، وقام عليه أناس .

                  وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية ; فإن زيد بن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه ، كان ممن يتولى أبا بكر وعمر ، فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة .

                  ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت ، وهو مروان بن محمد وأنصاره .

                  وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة [19] ، مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر . فلم يقاتل [20] أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة .

                  والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة ، وأخيه إبراهيم بالبصرة ، إنما [21] خرجا - ومن معهما - على المنصور ، لا [ ص: 342 ] على من يتولى أبا بكر وعمر ، بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر .

                  فهذه - وأمثالها - الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان [22] .

                  فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام ، القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة ، التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة . وإنما ظهر من دعا إلى الرفض [23] ، وتسمى بأمير المؤمنين [24] ، وأظهر القتال على ذلك ، وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني [25] عبيد الله [26] القداح ، الذين أقاموا بالمغرب مدة ، وبمصر نحو مائتي سنة .

                  وهؤلاء - باتفاق أهل العلم والدين - كانوا [27] ملاحدة ، ونسبهم باطل ، فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين ، وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ، ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة ، إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا ، وأكثرها جهلا ، وإلا فأمر [ ص: 343 ] هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفى على مسلم . ولهذا جميع المسلمين - الذين هم مؤمنون - في طوائف الشيعة يتبرأون [28] منهم ، فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم ، وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة ، الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى ، كابن الصباح [29] الذي أخرج [30] لهم السكين .

                  وشر منهم قرامطة البحرين ، أصحاب أبي سعيد الجنابي [31] ، فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية ، بل قتلوا الحجاج ، وأخذوا الحجر الأسود .

                  فهذه - وأمثالها - الملاحم والفتن [32] التي كانت في الإسلام ، ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة ، وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ، ومعه من يقاتل ، فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي والأمصار الصغار من الرافضة ، وهم طائفة قليلة مقموعون [33] مع جمهور المسلمين ، ليس لهم سيف مسلول على الجمهور ، حتى يقول القائل : أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة ، أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل على الإمامة في كل زمان .

                  [ ص: 344 ] وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل [34] الناس على الإمامة ، التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان . فقوم يقاتلون معه ، وقوم يخرجون عليه .

                  فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شيء ; فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد ، إذا اقتتلوا ، فلا بد أن يكون لهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا ، ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا ، فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم .

                  لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية ، من كون الإمامة ثبتت [35] بالنص لعلي [36] ، ولا أن خلافة الثلاثة باطلة . بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة .

                  ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر [37] وعمر وعثمان والنزاع بينهم . فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا ، وإنما كان السيف مسلولا في خلافة علي . فإن كان هذا قدحا ، فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة .

                  وهذه حجة للخوارج ، وحجتهم أقوى من حجة الشيعة ، كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ، ودينهم أصح ، وهم صادقون لا يكذبون ، ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه [ ص: 345 ] وسلم - واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال ، فكيف بالرافضة ، الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ؟ ! .

                  ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ، ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر ، بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية