الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار ، وينصرونهم على المسلمين ، كما قد شاهده الناس [1] ، لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة ، فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ، ومن أهل دمشق وما حولها ، وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه ، وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين .

                  وهكذا يعرف الناس - عامة وخاصة - ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق ، وقتل الخليفة ، وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله ، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي ، والرافضة هم بطانته ، الذين أعانوه [2] على ذلك بأنواع كثيرة ، باطنة وظاهرة ، يطول وصفها .

                  وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان [3] ، وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها ، إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ، ينصرونهم بحسب الإمكان ، ويكرهون فتح مدائنهم ، كما كرهوا فتح عكا وغيرها ، ويختارون إدالتهم على المسلمين ، حتى أنهم لما انكسر [ ص: 375 ] عسكر المسلمين سنة غازان ، سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، وخلت الشام من جيش [ المسلمين ] [4] ، عاثوا في البلاد ، وسعوا في أنواع من الفساد ، من القتل وأخذ الأموال ، وحمل راية الصليب ، وتفضيل النصارى على المسلمين ، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى ، أهل الحرب بقبرس وغيرها .

                  فهذا - وأمثاله - قد عاينه الناس ، وتواتر عند من لم يعاينه . ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب ، وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله ما لا أعلمه .

                  فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ، ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ، ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقة ، ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان ، لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين .

                  ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون ، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك ؟ .

                  والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون . وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا [5] ، الذي صنف له هذا الكتاب ، كيف ظهر فيهم من الشر ، الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام ! لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

                  [ ص: 376 ] وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى - يوم القيامة من الإيمان [ والإسلام ] [6] ، والقرآن والعلم ، والمعارف والعبادات ، ودخول الجنة ، والنجاة من النار ، وانتصارهم على الكفار ، وعلو كلمة الله - فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة ، الذين بلغوا الدين ، وجاهدوا في سبيل الله .

                  وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة - رضي الله عنهم - عليه فضل إلى يوم القيامة ، وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة [7] الصحابة . وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين ، فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة ، فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ، ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ؟ ! .

                  ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة ، فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته ؟ فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

                  وإذا قال القائل : الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي ، فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور .

                  فنقول : الجواب من وجهين الأول [8] : أنا لم نذكر هذا للمقابلة ، بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين . ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن ، [ ص: 377 ] إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ، ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة ، وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير ، إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين ، لنبين عظيم افتراء هذا المفتري ، وإن مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين [9] الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء ، كأئمة العبيديين [10] وغيرهم [11] من الملاحدة ، وأتباع مسيلمة الكذاب وأبي لؤلؤة قاتل عمر ، ونحوهما ممن يعظمه هذا المفتري ، إذا قال : " انظر هل ظهرت الفتن [12] إلا من موسى وعيسى ومحمد ؟ " .

                  فيقال له : بل الفتن [13] إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك ، الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين ، كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب ، وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله .

                  وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة - علماءهم [14] وولاتهم [15] على أتباع الأنبياء ، فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) [ سورة النساء : 51 ، 52 ] .

                  [ ص: 378 ] فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا . وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين ، وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة ، أو يدعي أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ، ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا ، فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال : ( أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) [ سورة النساء : 52 ] .

                  ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية ، مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت ; فإن الجبت : هو السحر والطاغوت : الشيطان والأوثان .

                  الوجه الثاني : أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة ، فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة ، فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا ، لكن إذا جاءت المقابلة ، فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود ، لم نستكثر ما في المسلمين من الشر ، لكن يجب العدل ، فإن الله أمر بالقسط والعدل ، [ وهو ] [16] مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه .

                  فتقول : ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو [ ص: 379 ] أعظم منه ، كما أنه ما من شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى [17] من جنسه ما هو أعظم منه ، وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه ، كما أنه ما من خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه .

                  وأمهات الفضائل : العلم ، والدين ، والشجاعة ، والكرم . فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء . فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة ، بعضهم تعلمه من أهل السنة ، وهم مع هذا مقصرون ، فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة ، وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة ، فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون [18] في التفسير والمنقولات [19] بكلام المعتزلة ، وكذلك بحوثهم العقلية ، فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة ، والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ، ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق ، وهو بهم أشبه .

                  وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن [20] معرفته : لا إسناده ولا متنه ، ولا يعرفون الرسول وأحواله ، ولهذا إذا نقلوا شيئا [21] من الحديث كانوا من [ ص: 380 ] أجهل الناس به ، وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه ، من غير معرفة بالحديث ، كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم .

                  ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها ، مثل تفسير الثعلبي ، وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ، وفضائل الصحابة لأبي نعيم ، وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي ، وزيادات ابن أحمد - لانتصف الناس منهم ، لكنهم لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم .

                  وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه . وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت ، كعلي بن الحسين ، وابنه أبي جعفر محمد [22] وابنه جعفر [23] بن محمد .

                  وهؤلاء - رضي الله عنهم - من أئمة الدين وسادات المسلمين ، لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم ، هل ثبت النقل إليهم أم لا ؟ فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد . ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ، ولا ما يعارضه ، ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول ، كما أمر الله به ورسوله .

                  بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول : أحدها : أن هؤلاء معصومون .

                  والثاني : أن كل ما يقولونه منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  والثالث : أن إجماع العترة حجة ، وهؤلاء هم العترة .

                  [ ص: 381 ] فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل ، بل خرجوا عن الفقه في الدين ، كخروج الشعرة من العجين .

                  وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه ، كالموسوي وغيره ، فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء ، أخذوا حجة من يوافقهم ، واحتجوا بما احتج به أولئك ، وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك ، فيظن الجاهل منهم [24] أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول [25] ، ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة ، الذين يكفرهم ويعاديهم ، وما انفردوا به فلا يساوي مداده ، فإن المداد ينفع ولا يضر ، وهذا يضر ولا ينفع . وإن كانت المسألة مما انفردوا [ به ] [26] اعتمدوا على تلك الأصول الثلاثة ، التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى .

                  وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات ، وغير ذلك .

                  وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية