قال الرازي :
( البرهان العاشر : ، كما كانت لا مع المؤثر ، وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى مؤثر آخر ، فلو جعلنا الحدوث جهة الاحتياج إلى المؤثر ، والحدوث مع المؤثر كهو [ لا ] جهة الاحتياج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر [1] مع المؤثر ; لأن [2] الحدوث هو الوجود بعد العدم ، وسواء [3] كان ذلك الوجود بالفاعل أو لا بالفاعل ، فهو وجود بعد العدم ، وسواء [4] أخذ [5] حال الحدوث ، أو حال البقاء ، فهو في كليهما وجود بعد العدم ، فإذن هو [ مع ] [6] المؤثر كهو لا مع [ ص: 292 ] المؤثر ، فيلزم المحال [7] المذكور أما إذا جعلنا الإمكان جهة الاحتياج ، فهو عند المؤثر لا يبقى ، كما كان عند عدم المؤثر ، فإن الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة فعلم أن الحدوث لا يصلح جهة الاحتياج [8] ) .
فيقال : هذا من جنس الذي قبله ، والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : كون الماهية [ مع المؤثر ] [9] لا تبقى ممكنة ألبتة هو وصف ثابت لها مع الحدوث أيضا ، بل لا يعلم ذلك إلا مع الحدوث ، فإن الممكن الذي يعلم أنه يصير واجبا بالفاعل هو المحدث أما القديم الأزلي فهو مورد النزاع .
وجمهور العقلاء يقولون : نعلم ببديهة العقل أنه لا يكون له فاعل ، وبتقدير أن تكون المسألة نظرية فالمنازع لم يقم على ذلك دليلا ألبتة إذ لا دليل يدل [10] على قدم شيء من العالم ألبتة ، وإنما غاية الأدلة الصحيحة أن تدل على دوام الفاعلية ، وذلك يحصل بإحداث شيء بعد شيء ، وبكل حال فلا ريب أن الممكن المحدث واجب بفاعله .
وحينئذ فيقال : الحدوث بعد العدم إذا كان بالفاعل اقتضى وجوب المحدث ، وأما إذا لم [11] يكن بالفاعل امتنع الحدوث ، فلم يكن الحدوث بعد العدم مع المؤثر كهو لا مع المؤثر ، فإنه في هذه الحال واجب ، وفي هذه ممتنع ، كما أن الممكن مع المؤثر واجب ، وبدون المؤثر ممتنع ، [ ص: 293 ] وإذا كان واجبا مع المؤثر مع كونه حادثا لم يحتج مع ذلك إلى مؤثر آخر .
والجواب الثاني : أن يقال : إن أراد به أنها لا تبقى محتاجة إلى المؤثر ، أو لا يبقى علة قوله : ( الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة ) [12] احتياجها هو الإمكان ، فهذا باطل ، وهو [13] خلاف ما يقولونه دائما ، وإن أراد به أنها لا تبقى ممكنة العدم لوجوبها بالغير ، فهذا يناقض ما يقولونه من أنها باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها مع كونها واجبة بالغير ، وحينئذ فبطل [14] قولهم : إن القديم الأزلي يكون ممكنا ، فليس شيء من القديم الأولي بممكن [15] ، وهذا ينعكس بانعكاس النقيض ، فلا يكون شيء من الممكن بقديم أزلي ، فثبت أن كل ممكن لا يوجد إلا بعد عدمه ، وهو المطلوب ، وإذا بطل المذهب بطلت جميع أدلته ; لأن القول لازم عن الأدلة ، فإذا انتفى اللازم انتفت الملزومات كلها .
والجواب الثالث : قوله ( جهة الاحتياج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر . كما كانت لا مع المؤثر ) ، أتريد به أن المحتاج إلى المؤثر لا يكون مع عدم المؤثر ، [ كما يكون مع المؤثر ] [16] ؟ أم تريد أن علة احتياجه أو شرط احتياجه أو دليل احتياجه يختلف في الحالين ، فإن أردت الأول فهذا صحيح ، فإن المحدث بعد العدم لا يكون مع المؤثر ، كما كان مع عدم المؤثر ، فإنه [ ص: 294 ] مع عدمه معدوم ، بل واجب العدم ، ومع وجوده موجود ، بل واجب الوجود .
( * * ) وقوله : ( لأن الحدوث هو الوجود بعد العدم سواء كان الوجود بالفاعل أو بغير الفاعل [17] [ تقدير ممتنع ، فإن كونه بغير الفاعل ممتنع ، فلا يكون حدوث بعد العدم بغير الفاعل حتى يسوى بينه في هذه الحال وفي حال عدمها ، بل هذا مثل أن يقال : رجحان وجوده على عدمه سواء كان بالفاعل أو بغير الفاعل ] [18] .
وإن أردت بذلك أنه ما كان علة أو دليلا أو شرطا في أحد الحالين لا يكون كذلك في الحال الأخرى ، فهذا باطل فإن علة [19] احتياج الأثر إلى المؤثر إذا قيل : هو الإمكان [20] ، أو الحدوث ، أو مجموعهما ، فهو كذلك مطلقا ، فإنا نعلم أن المحدث لا يحدث إلا بفاعل سواء حدث أو لم يحدث والممكن لا يترجح وجوده إلا بمرجح سواء ترجح أو لم يترجح لكن هذا الاحتياج إنما يحقق في حال وجوده إذ ما دام [21] معدوما ، فلا فاعل له .
وقولك : ( وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى موثر آخر ) إنما يدل على المعنى المسلم دون الممنوع ، فإنه يدل على أنه بالمؤثر يحصل وجوده لا يفتقر مع المؤثر إلى شيء آخر لا يدل على أنه مع المؤثر [22] لا يكون [ ص: 295 ] علة حاجتها [23] أو دليلها أو شرطها الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما ، بل هذا المعنى هو ثابت له حال وجوده أظهر من ثبوته له حال عدمه ، فإنه إنما يحتاج إلى ذلك حال وجوده لا حال عدمه .
وحينئذ فإذا قلنا : احتاج إلى المؤثر لحدوثه بعد العدم ، وهذا الوصف ثابت له حال وجوده ، كنا قد أثبتنا علة حاجته وقت وجوده ، والعلة حاصلة .
وإذا قلنا : العلة هي الإمكان ، وادعينا انتفاءها عند وجوده كنا قد عللنا حاجته إلى المؤثر بعد [24] وقت وجوده بعلة منتفية وقت وجوده ، وهذا يدل على أن ما ذكره حجة عليهم لا لهم ، وهذا بين لمن تدبره .
وهذا وغيره مما يبين أن القوم لما غيروا فطرة الله التي فطر عليها عباده [25] ، فخرجوا عن صريح المعقول وصحيح المنقول ، ودخلوا في هذا الإلحاد الذي هو من أعظم جوامع الكفر والعناد صار في أقوالهم من التناقض والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد مع دعواهم أنهم أصحاب البراهين العقلية والمعارف الحكمية ، وأن العلوم الحقيقية فيما يقولونه لا فيما جاءت به رسل الله الذين هم أفضل الخليقة وأعلمهم بالحقيقة .
وهؤلاء الملاحدة يخالفون المعقولات والمسموعات بمثل هذه الضلالات ، إذ من البين أن المحتاج إلى الخالق الذي خلقه هو محتاج إليه في حال وجوده وكونه مخلوقا ، أما إذا قدر أنه باق على العدم ، ففي تلك الحال لا يحتاج عدمه إلى خالق لوجوده بل ولا فاعل لعدمه ، وهم [ ص: 296 ] . وإن قالوا : عدمه يفتقر إلى مرجح ، فالمرجح عندهم عدم العلة [26] ، فالجميع عدم ، لم يقولوا : إن العدم يفتقر إلى موجود .
وإذا كان هذا بينا ، فقوله : ( جهة الاحتجاج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر ) هو كلام ملبس ، فإن الاحتياج إنما هو في حال كون المؤثر مؤثرا ، فكيف تزول حاجته إلى المؤثر في الحال التي هو فيها محتاج إلى المؤثر . وكيف يكون محتاجا إلى المؤثر حين لم يؤثر فيه ، وهو معدوم لا يحتاج إلى مؤثر أصلا . وفي حال احتياجه إليه لا يكون محتاجا إليه ؟ .
وإن قالوا : هو . [27] في حال عدمه لا يمكن وجوده إلا بمؤثر ، قلنا : فهذا بعض ما ذكرنا ، فإن كونه لا يوجد إلا بمؤثر أمر لازم له ، لا يقال : إنه ثابت له في حال عدمه دون حال وجوده .
وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول ، وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد ، فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما ، وعلم بهذا أنه يمتنع [ أن يكون ثم ] [28] إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه ( * أو كانت خاصة ببعض المفعولات ، ثم يقال : أما كونها عامة [29] لكل ما يصدر عنه * ) [30] فامتناعه ظاهر متفق [ ص: 297 ] عليه بين العقلاء ، فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا ، فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء ، وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس ، والقمر ، والكواكب ، وحركة الرياح ، وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات [31] ، والمعدن .
وأما إرادة شيء معين ، فلما تقدم ، ولأنه حينئذ إما أن يقال : ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية ، وإما أن يقال : له إرادات [32] تحصل شيئا بعد شيء ، فإن قيل بالأول ، فإنه [33] على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي ، فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة ; لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مراده كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده ، وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له ، وهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية .
الثاني : أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث ، والقول في ذلك [ السبب ] [34] الحادث كالقول في غيره : يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ، ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة ، فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة [ ص: 298 ] الحادث المعين مشروطة بإرادة له ، وبإرادة للحادث الذي قبله ، وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات .
وهذا هو التقدير الثاني . وهو أن يقال : لو أراد أن يحصل [35] شيئا بعد شيء ، فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن ، ( 2 وهو وحده المنفرد بالقدم والأزلية ، وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن 2 ) [36] ، وعلى هذا التقدير ، فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها ، وهذا هو [ التقدير ] [37] الذي تكلمنا عليه ، ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه ، وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة ، بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين .
فتبين أنه يجب القول ، وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها ، وأنه لا أول لها ، أو قيل بامتناع ذلك ، وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث ، أو قيل بامتناع ذلك ، وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير ، وهذا هو المطلوب . بحدوث كل ما سوى الله سواء سمي جسما أو عقلا أو نفسا