الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الثامن [1] : أن يقال : الناس في باب ما يقبح [2] من الله على قولين .

                  منهم من يقول : الظلم ممتنع منه ، وفعل القبيح مستحيل ، ومهما [ ص: 403 ] فعله كان حسنا . فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال : يحسن منه كذا ، فضلا عن القول بالوجوب .

                  والقول الثاني : قول من يقول : إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه ، كما قال تعالى : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] .

                  ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه ، كما قال في الصحيح : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " [3] ، ويقول : إن ذلك واجب بالعقل . وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ، ولم يخل بواجب ، فقد فعل ما يجب عليه ، وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم .

                  فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه ، وهي لم تحصل ، لزم أن لا يكون خلقه واجبا ، وهو المطلوب . وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى ، حتى يحصل بالمجموع المطلوب ، فهو لم يخلق ذلك المجموع ، سواء كان لم يخلق شيئا منه ، أو لم يخلق بعضه .

                  والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير ، فلزم على التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب ؛ وإذا لم يجب عليه ذلك ، فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك ، وبين أن لا يخلقه ، فلا يكون ذلك واجبا عليه . وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا . فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير .

                  وإن قيل : إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له .

                  [ ص: 404 ] قيل : إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ، ولم يخلقها ، فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم ، فلا تكون واجبة عليه ؟ وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف ، فكيف في حق الله ؟

                  وما لا يتم الوجوب إلا به [ وهو غير موجود ] فليس [ الأمر حينئذ ] بواجب [4] .

                  ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره ، إلا إذا أعانه ذلك الغير ؟ كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد ، فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد . والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم ، أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل [5] معه ذلك .

                  ودفع الظلم عن المظلوم ، إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له .

                  فإذا قالوا : إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده ، الحاصلة بخلق المعصوم ، وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه . والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه ، لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه ؛ لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به ، وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده [6] .

                  وإن قيل : يخلقه لعل بعض الناس يطيعه .

                  قيل : أولا : هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور .

                  [ ص: 405 ] وقيل : ثانيا : إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل ، وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل ، أمكن أن يخلق غير المعصوم ، يكون عادلا في كثير من ( * الأوقات أو بعضها ، فإن حصول المقصود ممن [7] يعدل في كثير من [8] [9] الأمور ، ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته ، خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ، ولا يدفع شيئا من الظلم ، فإن هذا لا مصلحة فيه بحال .

                  وإن قالوا : الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ، ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له .

                  قيل : أولا : إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة ، بل يعصونه فيعذبون ، لم يكن خلقه واجبا ، بل ولا حكمة على قولهم .

                  ويقال : ثانيا : ليس كل الناس عصاه ، بل بعض الناس عصوه ومنعوه ، وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله . فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته ؟

                  فإذا قيل : أولئك الظلمة منعوا هؤلاء .

                  قيل : فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة ، فهلا منعهم على قولهم ؟ .

                  وإن لم يكن ذلك مقدورا ، فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله ، فلم قلتم على هذا التقدير : إنه يمكن خلق معصوم غير نبي ؟

                  [ ص: 406 ] وهذا لازم لهم ; فإنهم إن قالوا : إن الله خالق أفعال العباد ، أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته .

                  وإن قالوا : ليس خالق أفعال العباد .

                  قيل : فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات ، وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد ، فلا يقدر على جعله معصوما .

                  وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما ، على قول القدرية ; فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات ، غير مريد للسيئات . فإذا كان هو المحدث للإرادة [10] ، والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد ، امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما .

                  وإذا قالوا : يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير .

                  قيل : إن كان ذلك ملجئا ، زال التكليف . وإن لم يكن ملجئا لم ينفع . وإن كان ذلك مقدورا عندكم ، فهلا فعله بجميع العباد ؟ فإنه أصلح لهم ، إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد ، وذلك لا يمنع الثواب عندكم ، كما لا يمنعه في حق المعصوم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية