الوجه الثامن [1] : أن يقال : الناس في باب ما يقبح [2] من الله على قولين .
منهم من يقول : ، ومهما [ ص: 403 ] فعله كان حسنا . فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال : يحسن منه كذا ، فضلا عن القول بالوجوب . الظلم ممتنع منه ، وفعل القبيح مستحيل
والقول الثاني : ، كما قال تعالى : ( قول من يقول : إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] .
ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه ، كما قال في الصحيح : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا " [3] ، ويقول : إن ذلك واجب بالعقل . وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ، ولم يخل بواجب ، فقد فعل ما يجب عليه ، وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم .
فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه ، وهي لم تحصل ، لزم أن لا يكون خلقه واجبا ، وهو المطلوب . وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى ، حتى يحصل بالمجموع المطلوب ، فهو لم يخلق ذلك المجموع ، سواء كان لم يخلق شيئا منه ، أو لم يخلق بعضه .
والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير ، فلزم على التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب ؛ وإذا لم يجب عليه ذلك ، فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك ، وبين أن لا يخلقه ، فلا يكون ذلك واجبا عليه . وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا . فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير .
وإن قيل : إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له .
[ ص: 404 ] قيل : إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ، ولم يخلقها ، فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم ، فلا تكون واجبة عليه ؟ وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف ، فكيف في حق الله ؟
وما لا يتم الوجوب إلا به [ وهو غير موجود ] فليس [ الأمر حينئذ ] بواجب [4] .
ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره ، إلا إذا أعانه ذلك الغير ؟ كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد ، فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد . والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم ، أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل [5] معه ذلك .
ودفع الظلم عن المظلوم ، إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له .
فإذا قالوا : إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده ، الحاصلة بخلق المعصوم ، وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه . والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه ، لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه ؛ لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به ، وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده [6] .
وإن قيل : يخلقه لعل بعض الناس يطيعه .
قيل : أولا : هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور .
[ ص: 405 ] وقيل : ثانيا : إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل ، وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل ، أمكن أن يخلق غير المعصوم ، يكون عادلا في كثير من ( * الأوقات أو بعضها ، فإن حصول المقصود ممن [7] يعدل في كثير من [8] [9] الأمور ، ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته ، خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ، ولا يدفع شيئا من الظلم ، فإن هذا لا مصلحة فيه بحال .
وإن قالوا : الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ، ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له .
قيل : أولا : إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة ، بل يعصونه فيعذبون ، لم يكن خلقه واجبا ، بل ولا حكمة على قولهم .
ويقال : ثانيا : ليس كل الناس عصاه ، بل بعض الناس عصوه ومنعوه ، وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله . فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته ؟
فإذا قيل : أولئك الظلمة منعوا هؤلاء .
قيل : فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة ، فهلا منعهم على قولهم ؟ .
وإن لم يكن ذلك مقدورا ، فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله ، فلم قلتم على هذا التقدير : إنه يمكن خلق معصوم غير نبي ؟
[ ص: 406 ] وهذا لازم لهم ; فإنهم إن قالوا : إن الله خالق أفعال العباد ، أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته .
وإن قالوا : ليس خالق أفعال العباد .
قيل : فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات ، وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد ، فلا يقدر على جعله معصوما .
وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما ، على قول القدرية ; فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات ، غير مريد للسيئات . فإذا كان هو المحدث للإرادة [10] ، والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد ، امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما .
وإذا قالوا : يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير .
قيل : إن كان ذلك ملجئا ، زال التكليف . وإن لم يكن ملجئا لم ينفع . وإن كان ذلك مقدورا عندكم ، فهلا فعله بجميع العباد ؟ فإنه أصلح لهم ، إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد ، وذلك لا يمنع الثواب عندكم ، كما لا يمنعه في حق المعصوم .