وقد بسط الكلام على ما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع ، فإن هذا الأصل هو [ الأصل ] [1] الذي تصادمت فيه أئمة الطوائف من أهل [ ص: 299 ] الفلسفة ، والكلام ، والحديث ، وغيرهم ، وهو الكلام في الحدوث [2] ، ويدخل في ذلك الكلام في حدوث العالم والكلام في كلام الله وأفعاله ، والكلام في هذين الأصلين من محارات والقدم في أفعال الله وكلامه [3] العقول ، فالفلاسفة القائلون بقدم العالم كانوا في غاية البعد عن الحق الذي جاءت به الرسل الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول ، ولكنهم ألزموا أهل الكلام الذين وافقوهم على نفي قيام الأفعال والصفات [4] بذاته ، أو على نفي قيام الأفعال بذاته بلوازم قولهم ، فظهر بذلك من تناقض أهل الكلام ما استطال به عليهم هؤلاء الملحدون ، وذمهم به علماء المؤمنين [5] من السلف والأئمة وأتباعهم ، وكان كلامهم من الكلام الذي ذمهم به السلف لما فيه من الخطأ والضلال الذي خالفوا به الحق في [6] مسائلهم ودلائلهم ، فبقوا فيه مذبذبين متناقضين لم يصدقوا بما جاءت به الرسل على وجهه ولا قهروا أعداء الملة بالحق الصريح المعقول .
وسبب ذلك أنهم لم يحققوا ما أخبرت به الرسل ، ولم يعلموه ، ولم يؤمنوا به ، ولا حققوا موجبات العقول ، فنقصوا في علمهم بالسمعيات والعقليات ، [ وإن ] [7] كان لهم منهما نصيب كبير ، فوافقوا في بعض ما [ ص: 300 ] قالوه الكفار الذين قالوا : ( لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) [ سورة الملك : 10 ] وفرعوا من الكلام في صفات الله وأفعاله ما هو بدعة مخالفة للشرع ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فهي مخالفة للعقل ، كما هي مخالفة للشرع .
والذي نبهنا عليه هنا يعلم به دلالة العقل الصريح على ما جاءت به الرسل ، ولا ريب أن كثيرا من طوائف المسلمين يخطئ في كثير من دلائله ، ومسائله [8] ، فلا يسوغ ، ولا يمكن نصر قوله مطلقا ، بل الواجب أن لا يقال إلا الحق قال تعالى : ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ) [ سورة الأعراف : 169 ] .
وإذا كان المقصود نصر حق اتفق عليه أهل الملة أو رد باطل اتفقوا على أنه باطل نصر بالطريق الذي يفيد ذلك وإن لم يستقم دليله على طريقة طائفة من طوائف أهل القبلة [9] بين كيف يمكن إثباته بطريقة مؤلفة من قولها وقول طائفة أخرى ، فإن تلك الطائفة أن توافق طائفة من طوائف [10] المسلمين خير لها من أن تخرج عن دين الإسلام ، وكذلك أن توافق المعقول الصريح خير من أن تخرج عن المعقول بالكلية ، والقول كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل ، فإن الحق لا يتناقض ، . قال تعالى : والرسل إنما أخبرت بالحق ، والله فطر عباده على معرفة الحق ، والرسل بعثت بتكميل الفطرة ، لا بتغيير الفطرة [11] [ ص: 301 ] سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ سورة فصلت : 53 ] .
فأخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية [12] والنفسية المبينة لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق ، فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية ، والبرهانية العيانية ، ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول .
لكن أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة ، من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من المنتسبين إلى السنة من المتأخرين ابتدعوا في أصول دينهم حكما ودليلا ، فأخبروا عن قول أهل الملل بما لم ينطق به كتاب ولا سنة ، واستدلوا على ذلك بطريقة لا أصل لها في كتاب ، ولا سنة ، فكان القول الذي أصلوه ونقلوه عن أهل الملل والدليل عليه كلاهما بدعة في الشرع لا أصل لواحد منهما في كتاب ولا سنة ، مع أن أتباعهم يظنون أن هذا هو دين المسلمين ، فكانوا في مخالفة المعقول بمنزلتهم في مخالفة المنقول ، وقابلتهم الملاحدة المتفلسفة الذين هم أشد مخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول [13] .
وما ذكرناه هنا هو [14] مما يعلم به حدوث كل ما سوى الله ، وامتناع قدم شيء بعينه من العالم بقدم الله يفيد المطلوب على كل تقدير من التقديرات ، ويمكن التعبير عنه بأنواع من العبارات ، وتأليفه على وجوه [15] من التأليفات ، فإن المادة إذا كانت مادة صحيحة أمكن تصويرها بأنواع من الصور ، وهي في ذلك يظهر أنها صحيحة بخلاف الأدلة [ ص: 302 ] المغالطية [16] التي قد ركبت على وجه معين بألفاظ معينة ، فإنها [17] متى غير ترتيبها وألفاظها ، ونقلت من صورة إلى صورة ظهر خطؤها ، فالأولى كالذهب الصحيح فإنه إذا نقل [18] من صورة إلى صورة لم يتغير جوهره ، بل يتبين أنه ذهب ، وأما المغشوش فإنه إذا غير من صورة إلى صورة ظهر أنه مغشوش .
وهذه الأدلة المذكورة دالة على حدوث كل ما سوى الله ، وأن كل ما سوى الله حادث [19] كائن بعد أن لم يكن ، سواء قيل بدوام نوع الفعل كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة أو لم يقل .
ولكن من لم يقل بذلك يظهر بينه وبين طوائف [20] أهل الملل وغيرها من النزاع والخصومات والمكابرات ما أغنى الله عنه من لم يشركه في ذلك ، أو تتكافأ عنده الأدلة ويبقى في أنواع من الحيرة والشك [ والاضطراب ] [21] قد عافى الله منها من هداه وبين له الحق .
قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ سورة البقرة : 213 ] .
[ ص: 303 ] فالخالق سبحانه يمتنع أن يكون مقارنا له في القدم شيء من العالم كائنا ما كان ، سواء قيل : إنه يخلق بمشيئته وقدرته كما يقوله المسلمون وغيرهم ، أو قيل [22] : إنه موجب بذاته أو علة مستلزمة للمعلول ، أو سمي مؤثرا ؛ لكون لفظ التأثير يعم هذه الأنواع ، فيدخل فيه الفاعل باختياره ، ويدخل فيه بذاته [23] وغير ذلك ، بل هو المختص بالقدم الذي استحق ما سواه كونه [24] مسبوقا بالعدم .
ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية [25] ، [26] مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة ، وطريقة طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة ؛ لكونها لا تخلو عن الحوادث ، وامتناع حوادث لا أول لها طريقة [27] مخطرة مخوفة في العقل ، بل مذمومة عند طوائف كثيرة وإن [28] لم يعلم [29] بطلانها ؛ لكثرة مقدماتها وخفائها والنزاع فيها عند كثير من أهل النظر " في رسالته إلى أهل الثغر كالأشعري [30] " ومن سلك سبيله في ذلك كالخطابي [31] وأبي عمر [ ص: 304 ] الطلمنكي [32] . وغيرهم ، وهي طريقة باطلة في الشرع والعقل [33] عند محققي الأئمة العالمين بحقائق المعقول والمسموع .
والاستدلال بهذه الطريق أوجب [34] الجهمية ما هو معروف عند سلف الأمة ، وسلطت بذلك الدهرية على القدح فيما جاءت به الرسل عن الله ، فلا قامت بتقرير الدين ، ولا قمعت أعداءه الملحدين ، وهي التي أوجبت على من سلكها قولهم : إن الله لم يتكلم ، بل كلامه مخلوق ، فإنه بتقدير صحتها تستلزم هذا القول . نفي صفات الله القائمة به ، ونفي أفعاله القائمة به ، وأوجبت من بدع
وأما ما أحدثه ومن اتبعه من القول بقدم شيء منه ابن كلاب [35] معين : إما معنى واحد ، وإما حروف ، أو حروف وأصوات معينة يقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا ، فهي أقوال محدثة بعد حدوث القول بخلق القرآن ، وفيها من الفساد شرعا وعقلا ما يطول وصفه ، لكن القائلون بها [ ص: 305 ] بينوا فساد قول من قال : هو مخلوق من الجهمية والمعتزلة ، فكان في كلام كل طائفة من هؤلاء من الفائدة [36] بيان فساد قول الطائفة الأخرى لا صحة قولها ؛ إذ الأقوال المخالفة للحق كلها باطلة .
وكان الناس لما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في ضلال عظيم كما في صحيح مسلم [37] من حديث عياض بن حمار [38] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [39] قال : " قريش فأنذرهم ، فقلت : أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة [40] ، فقال : إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان ، فابعث جندا ، ابعث مثليهم [41] ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأنفق أنفق عليك ، وقال : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم ألا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا . . . " الحديث بطوله إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإن ربي قال لي : قم في [42] .