ثم حدث بعد هذا في الإسلام الملاحدة من وغيرهم ، حدثوا وانتشروا بعد انقراض العصور المتفلسفة [1] المفضلة [2] ، وصار كل زمان ومكان يضعف فيه نور الإسلام يظهرون فيه ، ، ورأوا ذلك ( 6 فسادا في العقل ، فرأوا دين الإسلام المعروف 6 ) وكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون [3] فاسدا في العقل فكان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية - باليد واللسان - كالخرمية أتباع بابك الخرمي [4] وقرامطة البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم [5] .
[ ص: 317 ] وأما مقتصدوهم [6] وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيه من الخير والصلاح ما لا [7] يمكن القدح فيه ، بل اعترف حذاقهم بما قاله [8] وغيره من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس ابن سينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم ، فإنهم نظروا في أرباب النواميس من اليونان ، فرأوا أن الناموس الذي جاء به موسى وعيسى أعظم من نواميس أولئك بأمر عظيم ، ولهذا لما ورد ناموس عيسى بن مريم [ عليه السلام ] [9] على الروم انتقلوا عن الفلسفة اليونانية إلى دين المسيح .
وكان أرسطو قبل المسيح بن مريم - عليه السلام - بنحو ثلاثمائة سنة ، كان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني [10] الذي غلب على الفرس ، وهو الذي يؤرخ له اليوم بالتاريخ الرومي ، تؤرخ له اليهود والنصارى ، وليس هذا الإسكندر هو ذا القرنين [11] المذكور في القرآن كما يظن ذلك [ ص: 318 ] طائفة من الناس ، فإن ذلك كان متقدما [12] على هذا ، وذلك المتقدم هو [13] الذي بنى سد يأجوج ومأجوج ، وهذا المقدوني لم يصل إلى السد ، وذاك كان [ مسلما ] [14] موحدا ، وهذا المقدوني كان مشركا [15] هو وأهل بلده اليونانيون ، [ كانوا مشركين ] [16] يعبدون الكواكب والأوثان وقد قيل إن آخر ملوكهم [ كان ] [17] هو بطليموس صاحب المجسطى [18] ، وأنهم بعده انتقلوا إلى دين المسيح ، فإن الناموس الذي بعث به المسيح كان أعظم وأجل ، بل النصارى بعد أن غيروا دين المسيح وبدلوا هم أقرب إلى الهدى ودين الحق من أولئك الفلاسفة الذين كانوا مشركين ، وشرك أولئك الغليظ [19] هو مما أوجب إفساد دين المسيح كما ذكره طائفة من أهل العلم ، قالوا : كان [20] أولئك يعبدون الأصنام ويعبدون الشمس والقمر والكواكب ويسجدون لها
[ ص: 319 ] والله تعالى إنما بعث المسيح بدين الإسلام [21] كما بعث سائر الرسل بدين الإسلام ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له .
قال تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [ سورة الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ سورة الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) [ سورة النحل : 36 ] .
وقد أخبر الله تعالى عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم [22] وغيرهم من الرسل والمؤمنين [ إلى زمن ] الحواريين [23] أن دينهم كان الإسلام ، قال تعالى عن نوح [ عليه السلام ] [24] ( إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) [ سورة يونس : 71 ، 72 ] [25] ، وقال [ تعالى ] عن [ إبراهيم ] الخليل [ عليه الصلاة والسلام ] [26] : [ ص: 320 ] ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) [ سورة البقرة : 130 ، 133 ] [27] .
وقال تعالى عن موسى [ عليه الصلاة والسلام ] [28] : ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ سورة يونس : 84 ] ، وقال : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) [ سورة المائدة : 44 ] ، وقال عن بلقيس : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) [ سورة النمل : 44 ] ، وقال عن الحواريين : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) [ سورة المائدة : 111 ] .
ولما كان المسيح صلوات الله عليه قد بعث بما بعث به المرسلون قبله من عبادة الله وحده لا شريك له ، وأحل لهم بعض ما كان حرم عليهم في التوراة ، وبقي أتباعه على ملته [29] مدة - قيل أقل من مائة سنة - ، ثم ظهرت فيهم البدع بسبب معاداتهم لليهود صاروا يقصدون خلافهم ، فغلوا في المسيح ، وأحلوا أشياء حرمها ، وأباحوا الخنزير وغير ذلك ، [ ص: 321 ] وابتدعوا شركاء بسبب شرك الأمم ، فإن أولئك المشركين من اليونان والروم وغيرهم كانوا يسجدون للشمس والقمر والأوثان ، فنقلتهم [30] النصارى عن عبادة الأصنام المجسدة التي لها ظل إلى عبادة التماثيل المصورة في الكنائس ، وابتدعوا الصلاة إلى المشرق ، فصلوا إلى حيث تظهر الشمس والقمر والكواكب ، واعتاضوا بالصلاة إليها والسجود إليها عن الصلاة لها والسجود لها .
والمقصود أن النصارى بعد تبديل دينهم كان ناموسهم ودينهم خيرا من دين أولئك اليونان أتباع الفلاسفة [31] ، فلهذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع النواميس ، ورأوا أنه أفضل من نواميس [32] النصارى والمجوس وغيرهم ، فلم يطعنوا في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كما طعن أولئك المظهرون للزندقة من الفلاسفة ، ورأوا أن ما يقوله أولئك المتكلمون فيه ما يخالف صريح المعقول الفلاسفة الذين رأوا دين الإسلام يقولون : إن ناموس [33] ، فطعنوا بذلك عليهم ، وصاروا يقولون : من أنصف ولم يتعصب ولم يتبع الهوى لا يقول ما يقوله هؤلاء في المبدأ والمعاد .