الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع عشر : أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليا ليس قائدا لكل البررة ، بل لهذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [1] ، ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة ، بل قتل بعضهم ، كما قتل غيره بعضهم . وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار ، إلا وهو قاتل لبعض الكفرة .

                  وكذلك قوله : " منصور من نصره ، مخذول [2] من خذله " هو خلاف [ ص: 21 ] الواقع . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا ، لا سيما على قول الشيعة ; فإنهم يدعون أن [3] الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان .

                  ومن المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة ، نصرا لم يحصل لها بعده مثله . ثم لما قتل عثمان ، وصار الناس ثلاثة أحزاب : حزب نصره وقاتل معه ، وحزب قاتلوه ، وحزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء - لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين ولا على الكفار ، بل أولئك [4] الذين نصروا عليهم ، وصار الأمر لهم ; لما تولى معاوية ، فانتصروا [5] على الكفار ، وفتحوا البلاد ، إنما [6] كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج والكفار [7] .

                  والصحابة الذين قاتلوا الكفار والمرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما ، فالنصر [8] وقع كما وعد الله به حيث قال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ سورة غافر : 51 ] .

                  فالقتال الذي كان بأمر الله وأمر رسوله من المؤمنين للكفار والمرتدين والخوارج ، كانوا فيه منصورين [ نصرا عظيما ] [9] إذا اتقوا وصبروا ، فإن التقوى والصبر من تحقيق [10] الإيمان الذي علق به النصر .

                  [ ص: 22 ] وأيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التصدق بالخاتم من أظهر الكذب . فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ، ما هو أعظم قدرا ونفعا من إعطاء سائل خاتما .

                  وفي الصحيحين [11] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما نفعني مال كمال أبي بكر " ، [12] " إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا " [13] .

                  وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " [14] .

                  [ ص: 23 ] والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي ; فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد [15] أحدهم ولا نصيفه " [16] أخرجاه في الصحيحين [17] .

                  قال تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] .

                  فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه .

                  وأما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة . فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل تلك النفقات [18] العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء ، فكيف يدعو به [19] لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله ؟ .

                  [ ص: 24 ] ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت [20] لأبي بكر بقوله : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) [ سورة الليل : 17 - 21 ] . بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس ، فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام ، فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل .

                  وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة والنصرة - : واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا اشدد به ظهري ، مع أن الله قد أعزه بنصره وبالمؤمنين ، [21] كما قال تعالي : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ سورة الأنفال : 62 ] ، وقال : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ سورة التوبة : 40 ] .

                  فالذي كان معه حين نصره الله ; إذ أخرجه الذين كفروا ، هو أبو بكر وكانا اثنين الله ثالثهما ، وكذلك لما كان يوم بدر ; لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر [22] ، وكل من الصحابة له في نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعي مشكور وعمل مبرور .

                  وروي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد ، قال لفاطمة : اغسليه يوم أحد [ ص: 25 ] غير ذميم . فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن تك أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وفلان " فعدد جماعة من الصحابة [23] .

                  ولم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمثاله ، ولا عرف موطن احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلى معونة علي وحده ، لا باليد ولا باللسان ، ولا كان إيمان الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعتهم له لأجل علي ، بسبب دعوة علي لهم ، وغير ذلك من الأسباب الخاصة ، كما كان هارون وموسى ، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى ، وكان هارون يتألفهم .

                  والرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا ، وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه . فكيف يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج إليه ، كما احتاج موسى إلى هارون ؟ .

                  وهذا أبو بكر الصديق أسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة : عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد [24] ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة . ولم يعلم أنه أسلم على يد علي وعثمان وغيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .

                  ومصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لما بايعه الأنصار ليلة العقبة ، وأسلم على يده رءوس الأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته [25] ، وأسيد بن حضير وغير هؤلاء .

                  [ ص: 26 ] وكان أبو بكر يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم ، ويعاونه معاونة عظيمة في الدعوة ، بخلاف غيره . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا " [26] .

                  وقال : " أيها [27] الناس إني جئت إليكم ، فقلت : إني رسول الله ، فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدقت . فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ [28] " .

                  ثم إن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها . ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة لما بعثه الله : بلغها وحده ، وأول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة ، أول من آمن به من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد .

                  وكان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ، ثم خديجة ; لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس ، وكان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن ، فكان أمن الناس عليه في صحبته وذات يده . ومع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد : لا بأبي بكر ولا بغيره ، [ ص: 27 ] بل قام مطيعا لربه ، متوكلا عليه ، صابرا له ، كما أمره بقوله : ( قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) [ سورة المدثر : 2 - 7 ] وقال : ( فاعبده وتوكل عليه ) [ سورة هود : 123 ] .

                  فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الله - عز وجل - أن يشد أزره بشخص من الناس ، كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون ، فقد افترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخسه حقه . ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق ، لكن تارة يظهر [ لهم ] [29] ذلك فيه [30] وتارة يخفى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية