الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 44 ] الوجه الثاني : أن نقول [1] : في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة ; فإن فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيدي علي وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وأن هذا قد شاع وطار بالبلاد ، وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري ، وأنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته وهو في الأبطح وأتى وهو في ملأ من الصحابة ، فذكر أنهم امتثلوا أمره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم قال : " ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا " وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ؟ وهذا منك أم [2] من الله ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هو من أمر الله [3] ، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته ، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر ، فسقط على هامته ، وخرج من دبره فقتله ، وأنزل الله : ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ) [ سورة المعارج : 1 ، 2 ] الآية . فيقال لهؤلاء الكذابين : أجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم [4] كان مرجعه من حجة الوداع . والشيعة تسلم هذا ، وتجعل ذلك اليوم عيدا وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إلى مكة بعد ذلك ، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة ، وعاش تمام ذي الحجة والمحرم وصفر ، وتوفي في أول ربيع الأول .

                  [ ص: 45 ] وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد ، جاءه الحارث وهو بالأبطح ، والأبطح [5] بمكة ، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم .

                  وأيضا [6] فإن هذه السورة - سورة سأل سائل - مكية باتفاق أهل العلم ، نزلت بمكة قبل الهجرة ، فهذه نزلت قبل غدير خم بعشر سنين أو أكثر من ذلك ، فكيف [ تكون ] [7] نزلت بعده ؟ .

                  وأيضا قوله : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) [ سورة الأنفال : 32 ] في سورة الأنفال ، وقد نزلت عقيب بدر [8] بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة ، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة ، كأبي جهل وأمثاله ، وأن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه [9] بقوله : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) أي اذكر قولهم ، كقوله : ( وإذ قال ربك للملائكة ) [ سورة البقرة : 30 ] ، ( وإذ غدوت من أهلك ) [ سورة آل عمران : 121 ] ، ونحو ذلك : يأمره بأن يذكر كل ما تقدم . فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة .

                  وأيضا فإنهم لما استفتحوا بين الله أنه لا ينزل عليهم العذاب ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ; فقال : [ ص: 46 ] ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ سورة الأنفال : 32 ] ثم قال الله تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) [ سورة الأنفال : 33 ] واتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك ، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل ، ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله .

                  ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم ، فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم : لا المسند ، ولا الصحيح ، ولا الفضائل ، ولا التفسير ، ولا السير ونحوها ، إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر - علم [10] أنه كذب وباطل .

                  وأيضا فقد ذكر [11] في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس ، وعلى هذا فقد كان مسلما فإنه قال : " فقبلناه [12] منك . ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبه هذا .

                  وأيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة ، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية ، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة . وقد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث ، حتى في الأحاديث الضعيفة ، مثل كتاب " الاستيعاب " لابن [ ص: 47 ] عبد البر ، وكتاب ابن منده ، وأبي نعيم الأصبهاني ، والحافظ أبي موسى ، ونحو ذلك . ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل ، فعلم أنه ليس له ذكر في شيء من الروايات ، فإن هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم ، لا يذكرون أحاديث الطرقية ، مثل " تنقلات الأنوار " للبكري الكذاب [13] وغيره .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية