الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه السابع : أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل على [ ص: 102 ] تبليغ رسالة ربه أجرا ألبتة ، بل أجره على الله ، كما قال : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ سورة ص : 86 ] ، وقوله : ( أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ) [ سورة الطور : 40 ] ، وقوله قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) [ سورة سبأ : 47 ] . ولكن الاستثناء هنا [1] منقطع ، كما قال : ( قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) [ سورة الفرقان : 57 ] . ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة ، لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، ولا محبتهم أجر للنبي [2] - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو مما أمرنا [3] الله به ، كما أمرنا بسائر العبادات . وفي الصحيح عنه أنه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة ، فقال : " أذكركم الله في أهل بيتي ، [4] أذكركم الله في أهل بيتي [5] " . وفي السنن عنه أنه قال : " والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم [6] لله ولقرابتي [7] " فمن جعل [ ص: 103 ] [ محبة ] [8] أهل بيته أجرا له يوفيه إياه فقد أخطأ خطأ عظيما ، ولو كان أجرا له لم نثب عليه نحن ، لأنا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة ، فهل يقول مسلم مثل هذا ؟ ! . الوجه الثامن : أن القربى معرفة باللام ، فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا ) وقد ذكرنا [9] أنها لما نزلت لم يكن قد خلق الحسن ولا الحسين [10] ، ولا تزوج علي بفاطمة . فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع أن تكون هذه ، بخلاف القربى التي بينه وبينهم ، فإنها معروفة عندهم . كما تقول : لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا ، وكما تقول : لا أسألك إلا العدل بيننا وبينكم [11] ، ولا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر . الوجه التاسع : أنا نسلم [12] أن عليا تجب مودته وموالاته بدون [ ص: 104 ] الاستدلال بهذه الآية ، لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة ولا الفضيلة . وأما قوله : " والثلاثة لا تجب موالاتهم " فممنوع [13] ، بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم ، فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ، ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه ، فإن الحب في الله والبغض في الله واجب ، وهو أوثق عرى الإيمان . وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين ، وقد أوجب الله موالاتهم ، بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن ، وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه ، والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين ، وهؤلاء أفضل من دخل في هذه [14] النصوص من هذه الأمة بعد نبيها . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " [15] فهو أخبرنا أن المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتراحمون ، وأنهم في ذلك كالجسد الواحد . وهؤلاء قد ثبت إيمانهم بالنصوص والإجماع ، كما قد ثبت إيمان علي ، ولا يمكن من قدح [16] في إيمانهم أن يثبت إيمان علي ، بل كل [17] طريق دل [ ص: 105 ] على إيمان علي فإنها على إيمانهم أدل ، والطريق التي [18] يقدح بها فيهم يجاب عنها [19] كما يجاب عن القدح في علي وأولى ، فإن الرافضي الذي يقدح فيهم ويتعصب لعلي فهو منقطع الحجة ، كاليهود والنصارى الذين يريدون [20] إثبات نبوة موسى وعيسى والقدح في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - . ولهذا لا يمكن الرافضي أن يقيم الحجة على النواصب الذين يبغضون عليا ، أو يقدحون في إيمانه ، من الخوارج وغيرهم . فإنهم إذا قالوا له : بأي شيء علمت أن عليا مؤمن أو ولي لله تعالى [21] ؟ . فإن قال : بالنقل المتواتر بإسلامه وحسناته . قيل له : هذا النقل موجود في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . بل النقل المتواتر بحسنات هؤلاء ، السليمة عن المعارض ، أعظم من النقل المتواتر في مثل ذلك لعلي . وإن قال : " بالقرآن الدال على إيمان علي " . قيل له : القرآن إنما دل بأسماء عامة ، كقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين ) [ سورة الفتح : 18 ] ونحو ذلك . وأنت تخرج [ من ذلك ] [22] أكابر الصحابة ، فإخراج واحد أسهل . وإن قال : بالأحاديث الدالة على فضائله ، أو نزول [23] القرآن فيه . قيل : أحاديث أولئك أكثر وأصح ، وقد قدحت فيهم [24] . [ ص: 106 ] وقيل له : تلك الأحاديث التي في فضائل علي إنما رواها [25] الصحابة الذين قدحت فيهم ، فإن كان القدح صحيحا بطل النقل ، وإن كان النقل صحيحا بطل القدح . وإن قال : بنقل الشيعة أو تواترهم . قيل له : الصحابة لم يكن فيهم من الرافضة أحد . والرافضة تطعن في جميع الصحابة إلا نفرا قليلا : بضعة عشر . ومثل هذا قد يقال : إنهم قد [26] تواطئوا على ما نقلوه ، فمن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل وهذا مبسوط في موضعه . والمقصود أن قوله : " وغير علي من الثلاثة لا تجب مودته " كلام باطل عند الجمهور ، بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي ، لأن وجوب المودة على مقدار الفضل ، فكل من كان أفضل كانت مودته أكمل . وقد قال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) [ سورة مريم : 96 ] . قالوا : يحبهم ويحببهم إلى عباده . وهؤلاء أفضل من آمن وعمل صالحا من هذه الأمة بعد نبيها ، كما قال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) [ سورة الفتح : 29 ] إلى آخر السورة . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قيل [27] : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " [28] . [ ص: 107 ] وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر - رضي الله عنهما - يوم السقيفة : بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [29] . وتصديق ذلك ما استفاض في الصحاح من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن مودة الإسلام " [30] . فهذا يبين أنه ليس في أهل الأرض أحق بمحبته ومودته من أبي بكر ، وما كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أحب إلى الله ، وما كان أحب إلى الله ورسوله فهو أحق أن يكون أحب إلى المؤمنين ، الذين يحبون ما أحبه الله ورسوله [ كما أحب الله ورسوله ] [31] . والدلائل الدالة على أنه أحق بالمودة كثيرة ، فضلا عن أن يقال : إن المفضول تجب مودته ، وإن الفاضل لا تجب مودته .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية