قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس والعشرون : قوله تعالى : [ ص: 212 ] ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) [ سورة المائدة : 54 ] قال الثعلبي : إنما [2] نزلت في علي ، وهذا يدل [3] على أنه أفضل ، فيكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا كذب على الثعلبي ، فإنه قال في تفسيره [ في ] هذه الآية [4] : " قال علي وقتادة والحسن : إنهم أبو بكر وأصحابه . وقال مجاهد : هم [5] أهل اليمن " . وذكر حديث عياض بن غنم : أنهم أهل اليمن ، وذكر الحديث : " أتاكم أهل اليمن " . فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه .
وأما أئمة التفسير ، فروى الطبري [6] عن المثنى ، حدثنا عبد الله بن هاشم [7] ، حدثنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، [ عن الضحاك ] [8] ، عن أبي أيوب ، عن علي [ في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) [ سورة المائدة : 54 ] [9] قال : علم الله المؤمنين ، ووقع [10] معنى [11] السوء [ ص: 213 ] على الحشو الذي [12] فيهم [ من ] المنافقين [13] ومن في علمه أن يرتدوا [14] ، فقال : ( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله ) [15] : المرتدة في دورهم [16] ، ( بقوم يحبهم ويحبونه ) : بأبي بكر وأصحابه - رضي الله عنهم - .
وذكر بإسناده هذا القول عن قتادة والحسن والضحاك وابن جريج [17] ، وذكر قوم أنهم الأنصار [18] ، وعن آخرين أنهم أهل اليمن [19] ، ورجح هذا الآخر وأنهم رهط أبي موسى [20] ، قال [21] : " ولولا صحة الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان القول عندي [ في ذلك ] إلا قول [22] من قال : هم أبو بكر وأصحابه " [23] قال : " لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر - رضي الله عنه - [24] .
[ ص: 214 ] الثاني : أن هذا قول بلا حجة ، فلا يجب قبوله .
الثالث : أن هذا معارض بما [25] هو أشهر منه وأظهر ، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه ، الذين قاتلوا معه أهل الردة . وهذا هو المعروف [ عند الناس ] [26] كما تقدم . لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها [27] لعلي ، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله .
وحدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ أعرفه ، وكان فيه دين وزهد وأحوال معروفة لكن كان فيه تشيع . قال : وكان عنده كتاب يعظمه ، ويدعي أنه من الأسرار ، وأنه أخذه من خزائن الخلفاء ، وبالغ في وصفه . فلما أحضره ، فإذا به كتاب [28] قد كتب بخط حسن ، وقد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري ومسلم جميعها في فضائل أبي بكر وعمر ونحوهما جعلوها لعلي . ولعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين ، فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام ، وكانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله .
ومثل هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديث التي في البخاري ومسلم إنما أخذت عن البخاري ومسلم ، كما يظن مثل ابن الخطيب ونحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال ، وأن البخاري ومسلما كان الغلط يروج عليهما ، أو [ ص: 215 ] كانا يتعمدان [29] الكذب ، ولا يعلمون أن قولنا : رواه البخاري ومسلم علامة لنا على [ ثبوت ] [30] صحته ، لا أنه [31] كان صحيحا بمجرد رواية البخاري ومسلم ، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما [32] من العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلا الله ، ولم ينفرد واحد منهما بحديث ، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف ، ولو لم يخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء ، وكانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود .
وإنما قولنا : رواه [33] البخاري ومسلم كقولنا : قرأه [34] القراء السبعة . والقرآن منقول بالتواتر ، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه ، وكذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما ، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول ، وكذلك في عصرهما وكذلك بعدهما قد نظر [35] أئمة هذا الفن في كتابيهما ، ووافقوهما [36] على تصحيح [37] ما صححاه ، إلا مواضع يسيرة ، نحو عشرين حديثا ، غالبها في مسلم ، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ ، وهذه [ ص: 216 ] المواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما فيها ، وطائفة قررت قول المنتقدة [38] .
والصحيح التفصيل ; فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب ، مثل حديث أم حبيبة ، وحديث خلق الله البرية يوم السبت ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر .
وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري ، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد ، ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد ، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد ، فما في كتابه لفظ منتقد ، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد .
وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم ، فلم يرج عليه [39] فيها إلا دراهم يسيرة ، ومع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة ، فهذا إمام في صنعته . والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر [40] .
والمقصود أن أحاديثهما انتقدها [41] الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم ، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله ، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح ، والله - سبحانه وتعالى - هو الكفيل بحفظ [42] هذا الدين ، كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] .
وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب [43] الأئمة مثل القدوري والتنبيه والخرقي [44] والجلاب ، غالب ما فيها إذا [ ص: 217 ] قيل : ذكره فلان ، علم أنه مذهب ذلك الإمام ، وقد نقل ذلك سائر أصحابه ، وهم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر .
وهذه الكتب فيها مسائل انفرد بها بعض أهل المذهب ، وفيها نزاع بينهم ، لكن غالبا هو قول أهل المذهب . وأما البخاري ومسلم فجمهور ما فيهما اتفق عليه أهل العلم بالحديث ، الذين هم أشد عناية بألفاظ الرسول وضبطا لها ومعرفة بها من أتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم ، وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول [ في ألفاظه ] [45] من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم ، والنزاع بينهم [46] في ذلك أقل من تنازع أتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم .
والرافضة - لجهلهم - يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك ، وجعلوا فضائل الصديق لعلي ، أن ذلك يخفى على أهل العلم ، الذين حفظ الله بهم الذكر .
الرابع : أن يقال : إن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة . قد قيل : كانوا نحو مائة ألف أو أكثر [47] ، وقاتل طليحة الأسدي ، وكان قد ادعى النبوة بنجد ، واتبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله ، ادعت النبوة سجاح ، امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب ، فتزوج الكذاب بالكذابة .
[ ص: 218 ] وأيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام ، ولم يتبع متنبئا كذابا .
ومنهم قوم أقروا بالشهادتين ، لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة . وقصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة .
والمقاتلون للمرتدين [ هم من الذين يحبهم الله ويحبونه ] [48] ، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية ، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم والفرس . وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم . ولهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء ، فأشار إلى أبي موسى الأشعري ، وقال : " هم قوم هذا " [49] .
فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة : أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة ، وقاتلوا المرتدين والكفار ، هم داخلون في قوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ سورة المائدة : 54 ] .
وأما علي - رضي الله عنه - فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله ، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا * كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء ، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم * [50] مما حصل بهؤلاء ، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء ، فهم [ ص: 219 ] الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ، الذين قضوا بالحق ، وبه كانوا يعدلون .
وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم ، فيجعلهم كفارا أو فساقا [51] ظلمة ، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم ، * فيجعله الله أو شريكا لله ، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من * [52] جعله معصوما منصوصا عليه ، ومن خرج عن هذا فهو كافر ، ويجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين ، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجون البيت ، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم [53] كفارا لأجل قتال هؤلاء .
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام ، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان .
والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا ، مقصوده إفساد [ دين ] [54] الإسلام . ولهذا [ صار ] [55] الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة [56] ، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم .
وأول الفكرة [57] آخر العمل ، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد [58] [ ص: 220 ] دين الإسلام ، ونقض عراه ، وقلعه بعروشه آخرا ، لكن صار يظهر منه ما يكنه [59] من ذلك ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
وهذا معروف عن [60] ابن سبأ وأتباعه [61] ، وهو الذي ابتدع النص في علي ، وابتدع أنه معصوم . فالرافضة [62] الإمامية هم أتباع المرتدين ، وغلمان الملحدين ، وورثة المنافقين ، لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين .
الوجه الخامس : أن يقال : هب أن الآية نزلت في علي ، أيقول القائل : أنها مختصة به ، ولفظها يصرح بأنهم جماعة ؟ قال تعالى : ( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) [ سورة المائدة : 54 ] إلى قوله : ( لومة لائم ) . أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا ، فإن الرجل [63] لا يسمى قوما في لغة العرب : لا حقيقة ولا مجازا .
ولو قال : المراد هو وشيعته .
لقيل : إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره ، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة ، فلا ريب أن أهل اليمن ، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة ، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين ، ويعادون السابقين الأولين .
فإن قيل : الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن .
قيل : والذين قاتلوه أيضا كان كثير منهم من أهل اليمن . فكلا [ ص: 221 ] العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة [64] جدا ، وأكثر أذواء اليمن كانوا مع معاوية ، كذي كلاع [65] وذي عمرو ، وذي رعين ، ونحوهم . وهم الذين يقال لهم : الذوين .
كما قال الشاعر :
وما أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الذوينا
.الوجه السادس : قوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) لفظ مطلق ، ليس فيه تعيين . وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان ، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي . وإذا لم يكن مختصا بإحداهما ، لم يكن هذا من خصائصه ، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه ، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة .
بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد [ عن الدين ] [66] إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون هؤلاء المرتدين .
والردة قد تكون عن أصل الإسلام ، كالغالية من النصيرية والإسماعيلية ، فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة ، وكالعباسية [67] .
[ ص: 222 ] وقد تكون الردة عن بعض الدين ، كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم . والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه ، ويجاهدون من ارتد عن الدين ، أو عن بعضه ، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين ، أو عن بعضه ، في كل زمان .
والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه ، الذين يجاهدون المرتدين [ وأتباع المرتدين ] [68] ، ولا يخافون لومة لائم .


