فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان السابع والعشرون : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) [ سورة البقرة : 274 ] . من طريق قوله تعالى : ( أبي نعيم [2] بإسناده إلى ابن عباس [3] نزلت في علي [4] ، كان معه أربعة دراهم ، فأنفق درهما بالليل ، ودرهما بالنهار ، ودرهما سرا ، ودرهما علانية ، وروى ذلك . ولم يحصل ذلك لغيره الثعلبي [5] ، فيكون أفضل ، فيكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل . ورواية أبي نعيم لا تدل على الصحة . والثعلبي
[ ص: 229 ] الثاني : أن هذا كذب ليس بثابت [6] .
الثالث : أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية ، فمن عمل بها دخل فيها [7] ، سواء كان عليا أو غيره ، ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين [8] .
الرابع : أن ما ذكر [9] من الحديث يناقض مدلول الآية ; فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما ، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما . فالفعل لا بد له من زمان ، والزمان إما ليل وإما نهار . والفعل إما سرا وإما علانية ; فالرجل إذا أنفق بالليل سرا ، كان قد أنفق ليلا سرا . وإذا أنفق علانية نهارا ، كان قد أنفق علانية نهارا . وليس الإنفاق سرا وعلانية خارجا عن الإنفاق بالليل والنهار . فمن قال : إن المراد من أنفق درهما بالسر ، ودرهما في العلانية ، ودرهما بالليل ، ودرهما بالنهار - كان جاهلا ، فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا ، والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية . فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين ، لا يجب أن يكون المراد أربعة .
لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال ، كما يقولون : [ ص: 230 ] محمد رسول الله والذين معه ( ) أشداء على الكفار ( أبو بكر ) رحماء بينهم ( عمر ) تراهم ركعا سجدا ( عثمان ) يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف علي [10] في هؤلاء الأربعة .
والآية صريحة في إبطال هذا وهذا ، فإنها صريحة في أن هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها ، وإنهم كثيرون ليسوا واحدا . ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء ، وكل من الأربعة موصوف بهذا كله ، وإن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر .
وأغرب من ذلك قول بعض جهال [11] المفسرين : ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) [ سورة التين : 1 - 3 ] إنهم الأربعة ; فإن هذا مخالف للعقل والنقل . لكن الله أقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن ، وظهر منها موسى وعيسى ومحمد ، كما قال في التوراة : جاء الله من طور سينا ، وأشرق من ساعين ، واستعلن من جبال فاران [12] .
فالتين والزيتون : الأرض التي بعث فيها المسيح ، وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها ، فيقال : فلان خرج إلى الكرم وإلى الزيتون وإلى الرمان ، ونحو ذلك ، ويراد الأرض التي فيها ذلك ، فإن الأرض تتناول ذلك ، فعبر عنها ببعضها .
وطور سينين حيث كلم الله موسى ، وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 231 ] والجاهل بمعنى الآية ، لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار - يقول : نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم ، إما وإما غيره ، ولهذا قال : ( علي الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية * لم يعطف بالواو ، فيقول : وسرا وعلانية . بل هذان داخلان في الليل والنهار ، سواء * [13] قيل : هما منصوبان على المصدر ; لأنهما نوعان من الإنفاق ، أو قيل : على الحال . فسواء قدرا سرا وعلانية [14] ، أو مسرا ومعلنا ، فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن . والجهل في الرافضة ليس بمنكر .
الخامس : أنا لو قدرنا أن فعل ذلك ، ونزلت فيه الآية ، فهل هنا إلا إنفاق عليا [15] أربعة دراهم في أربعة أحوال ؟ ! وهذا عمل مفتوح بابه [16] ميسر إلى يوم القيامة . والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يحصوا ، وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار ، وتارة في السر وتارة في العلانية . فليس هذا من الخصائص ، فلا يدل على فضيلة الإمامة [17] .