الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان السابع والعشرون : قوله تعالى : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) [ سورة البقرة : 274 ] . من طريق أبي نعيم [2] بإسناده إلى ابن عباس [3] نزلت في علي [4] ، كان معه أربعة دراهم ، فأنفق درهما بالليل ، ودرهما بالنهار ، ودرهما سرا ، ودرهما علانية ، وروى الثعلبي ذلك . ولم يحصل ذلك لغيره [5] ، فيكون أفضل ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل . ورواية أبي نعيم والثعلبي لا تدل على الصحة .

                  [ ص: 229 ] الثاني : أن هذا كذب ليس بثابت [6] .

                  الثالث : أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية ، فمن عمل بها دخل فيها [7] ، سواء كان عليا أو غيره ، ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين [8] .

                  الرابع : أن ما ذكر [9] من الحديث يناقض مدلول الآية ; فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما ، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما . فالفعل لا بد له من زمان ، والزمان إما ليل وإما نهار . والفعل إما سرا وإما علانية ; فالرجل إذا أنفق بالليل سرا ، كان قد أنفق ليلا سرا . وإذا أنفق علانية نهارا ، كان قد أنفق علانية نهارا . وليس الإنفاق سرا وعلانية خارجا عن الإنفاق بالليل والنهار . فمن قال : إن المراد من أنفق درهما بالسر ، ودرهما في العلانية ، ودرهما بالليل ، ودرهما بالنهار - كان جاهلا ، فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا ، والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية . فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين ، لا يجب أن يكون المراد أربعة .

                  لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال ، كما يقولون : [ ص: 230 ] محمد رسول الله والذين معه ( أبو بكر ) أشداء على الكفار ( عمر ) رحماء بينهم ( عثمان ) تراهم ركعا سجدا ( علي ) يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف [10] في هؤلاء الأربعة .

                  والآية صريحة في إبطال هذا وهذا ، فإنها صريحة في أن هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها ، وإنهم كثيرون ليسوا واحدا . ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء ، وكل من الأربعة موصوف بهذا كله ، وإن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر .

                  وأغرب من ذلك قول بعض جهال [11] المفسرين : ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ) [ سورة التين : 1 - 3 ] إنهم الأربعة ; فإن هذا مخالف للعقل والنقل . لكن الله أقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن ، وظهر منها موسى وعيسى ومحمد ، كما قال في التوراة : جاء الله من طور سينا ، وأشرق من ساعين ، واستعلن من جبال فاران [12] .

                  فالتين والزيتون : الأرض التي بعث فيها المسيح ، وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها ، فيقال : فلان خرج إلى الكرم وإلى الزيتون وإلى الرمان ، ونحو ذلك ، ويراد الأرض التي فيها ذلك ، فإن الأرض تتناول ذلك ، فعبر عنها ببعضها .

                  وطور سينين حيث كلم الله موسى ، وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم - .

                  [ ص: 231 ] والجاهل بمعنى الآية ، لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار - يقول : نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم ، إما علي وإما غيره ، ولهذا قال : ( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية * لم يعطف بالواو ، فيقول : وسرا وعلانية . بل هذان داخلان في الليل والنهار ، سواء * [13] قيل : هما منصوبان على المصدر ; لأنهما نوعان من الإنفاق ، أو قيل : على الحال . فسواء قدرا سرا وعلانية [14] ، أو مسرا ومعلنا ، فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن . والجهل في الرافضة ليس بمنكر .

                  الخامس : أنا لو قدرنا أن عليا فعل ذلك ، ونزلت فيه الآية ، فهل هنا إلا إنفاق [15] أربعة دراهم في أربعة أحوال ؟ ! وهذا عمل مفتوح بابه [16] ميسر إلى يوم القيامة . والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يحصوا ، وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار ، وتارة في السر وتارة في العلانية . فليس هذا من الخصائص ، فلا يدل على فضيلة الإمامة [17] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية