فصل
قال الرافضي [1] : قد علي [2] طلق الدنيا ثلاثا ، وكان قوته جريش الشعير ، وكان يختمه لئلا يضع الإمامان فيه أدما [3] ، وكان يلبس خشن الثياب وقصيرها ، ورقع مدرعته حتى استحى [4] من رقعها [5] ، وكان حمائل سيفه ليفا [6] ، وكذا نعله .
وروى أخطب خوارزم ، ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا عمار إن الله زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب علي [7] إلى الله منها : زهدك في الدنيا ، وبغضها إليك ، [ ص: 487 ] وحبب إليك الفقراء ، فرضيت بهم أتباعا ، ورضوا بك إماما . يا ، طوبى لمن أحبك وصدق عليك ، والويل لمن أبغضك ، وكذب عليك . * أما من أحبك وصدق عليك فإخوانك في دينك ، وشركاؤك في جنتك ، وأما من أبغضك وكذب عليك * علي [8] فحقيق على الله أن يقيمهم [9] مقام الكذابين . عن
قال [10] : دخلت على سويد بن غفلة العصر ، فوجدته جالسا بين يديه صفحة فيها لبن حار ، وأجد ريحه من شدة حموضته ، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، وهو علي [11] يكسر بيده أحيانا ، فإذا غلبه كسره بركبته [12] ، فطرحه فيه [13] ، فقال : ادن فأصب من طعامنا هذا ، فقلت : إني صائم ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من منعه الصيام عن [14] طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة ، ويسقيه من شرابها . قال : قلت لجاريته وهي قائمة [15] : ويحك يا فضة ! ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ألا تنخلين طعامه مما أرى فيه من النخال [16] ؟ فقالت : [ ص: 488 ] لقد عهد [17] إلينا أن لا ننخل له طعاما ، قال : ما قلت لها ؟ فأخبرته ، قال [18] : بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ، ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل ، واشترى يوما ثوبين غليظين ، فخير قنبرا فيهما فأخذ واحدا ولبس هو الآخر ، ورأى في كمه طولا عن أصابعه فقطعه .
قال ضرار بن ضمرة : دخلت على بعد قتل أمير المؤمنين معاوية علي [19] ، فقال : صف لي ، فقلت : أعفني ، فقال : لا بد من ذلك عليا [20] ، فقلت [21] : أما إذ لا بد ، فإنه كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزينتها ، ويستأنس [22] بالليل ووحشته ، وكان والله [23] غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يعجبه [24] من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما قشب ، وكان فينا كأحدنا : يجيبنا إذا سألناه ، ويأتينا [25] إذا دعوناه ، ونحن - [ ص: 489 ] والله - مع تقريبه لنا ، وقربه منا لا نكلمه [26] هيبة له ، يعظم أهل الدين ، ويقرب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييئس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته وهو يقول : يا دنيا [27] غري غيري . ألي تعرضت ؟ أم إلي تشوفت [28] ؟ هيهات ! قد بنتك [29] ثلاثا ، لا رجعة فيك [30] ، عمرك قصير [31] ، وخطرك [32] كثير ، وعيشك حقير . آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق ! فبكى ، وقال : رحم الله معاوية أبا الحسن كان [33] والله كذلك ، فما حزنك [34] عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها " .
والجواب : أما رضي الله عنه علي في المال فلا ريب فيه ، لكن الشأن أنه كان أزهد من زهد ( أبي بكر ) وعمر [35] ، وليس فيما ذكره ما يدل على [ ص: 490 ] ذلك ، بل ما كان فيه حقا فلا دليل فيه على ذلك ، والباقي : إما كذب ، وإما ما لا مدح فيه .
( أما كونه طلق الدنيا ثلاثا ) [36] فمن المشهور عنه [37] أنه قال : " يا صفراء ، يا بيضاء ، قد طلقتك ثلاثا غري غيري ، لا رجعة لي فيك " ، لكن هذا لا يدل على أنه أزهد ممن لم يقل هذا ، فإن نبينا وعيسى ابن مريم ، وغيرهما كانوا أزهد منه ولم يقولوا هذا ، ولأن الإنسان إذا زهد لم يجب أن يقول بلسانه [38] : قد زهدت ، [39] وليس كل من قال : زهدت [40] ، يكون قد زهد ، فلا عدم هذا الكلام يدل على عدم الزهد ، ولا وجوده يدل على وجوده ، فلا دلالة فيه .
وأما قوله : إنه كان دائما يقتات جريش الشعير بلا أدم [41] .
فلا دلالة في هذا لوجهين : أحدهما : أنه كذب ، والثاني : أنه لا مدح فيه ، كان فرسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الزهد [42] لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا [43] ، بل إن حضر لحم دجاج أكله ، أو لحم غنم أكله ، أو حلواء أو عسل أو فاكهة أكله ، وإن لم يجد شيئا لم يتكلفه ، وكان إذا حضر طعاما [44] ، فإن اشتهاه أكله وإلا تركه ، ولا يتكلف ما لا يحضر ، [ ص: 491 ] وربما ربط على بطنه الحجر [45] من الجوع ، وقد كان [46] يقيم الشهر والشهرين لا يوقد في بيته نار .
وقد ثبت في الصحيحين . أن رجالا قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء ، وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني [47]
فكيف يظن أنه رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجعل ذلك من مناقبه ؟ ! وأي مدح لمن رغب عنها ، ثم كيف يقال : إن بعلي كان عليا بالعراق ، ولا يقتات إلا شعيرا مجروشا لا أدم له ، ولا يأكل خبز بر ولا لحما ، والنقل المتواتر بخلاف ذلك ، وهل من الصحابة من فعل ذلك ؟ أو هل قال أحد منهم : إن ذلك مستحب ؟
وأما قوله : " كان حمائل سيفه ليفا ، ونعله ليفا " .
فهذا أيضا كذب ولا مدح فيه ; فقد روي أن نعل ( رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الجلود ، وحمائل ) [48] سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت [49] ذهبا وفضة ، والله قد يسر الرزق عليهم ، فأي مدح في أن يعدلوا عن الجلود مع تيسرها ؟ وإنما يمدح هذا عند العدم .
[ ص: 492 ] كما قال : " لقد فتح البلاد أقوام كانت خطم خيلهم ليفا ، وركبهم العلابي " أبو أمامة الباهلي [50] رواه البخاري [51] .
وحديث من الموضوعات ، وكذلك حديث عمار ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . سويد بن غفلة
وأما حديث الثوب الذي اشتراه فهو معروف ، وحديث ضرار بن ضمرة قد روي ، وليس في واحد منهما ما يدل على أنه أزهد من أبي بكر ، بل من عرف المنقول من سيرة وعمر وعدله وزهده ، وصرفه الولايات عن أقاربه ، ونقصه لابنه في العطاء عن نظيره ، ولابنته في العطاء عن نظيرتها ، وأكله الخشن مع كونه هو الذي قسم كنوز كسرى وقيصر ، وإنما كان الذي يقسمه عمر علي [52] جزءا من فتوح ، وأنه مات وعليه ثمانون ألف درهم دينا - تبين له من وجوه كثيرة أن عمر كان أزهد من عمر ، ولا ريب أن علي أزهد من أبا بكر عمر [53] .