فصل
قال الرافضي [1] : " الثالث أنه كان صلى الله عليه وسلم " أعلم الناس بعد رسول الله [2] .
والجواب : أن أهل السنة يمنعون ذلك ، ويقولون ما اتفق عليه علماؤهم : إن ثم أبو بكر عمر ، وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الصحابة كلهم ، ودلائل [ ص: 501 ] ذلك مبسوطة في موضعها ، فإنه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر رضي الله عنه ، ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصله أبو بكر ، فإنهم شكوا في موت النبي صلى الله عليه وسلم فبينه أبو بكر ، ثم شكوا في مدفنه فبينه ، ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة ، فبينه أبو بكر ، وبين لهم النص في قوله تعالى : ( أبو بكر لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) ( سورة الفتح : 27 ) ، وبين لهم ، ونحو ذلك ، وفسر الكلالة فلم يختلفوا عليه . أن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة
وغيره يروون عن علي أبي بكر ، كما في السنن وكان قال : كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه ، فإذا حدثني غيره استحلفته علي [3] ، فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له عن [4] .
[ ص: 502 ] ولم يحفظ فتيا تخالف نصا ، وقد وجد لأبي بكر لعمر وغيرهما فتاوى كثيرة تخالف النصوص ، حتى جمع وعلي مجلدا في خلاف الشافعي علي ، وجمع وابن مسعود كتابا كبيرا في ذلك ، وقد خالفوا محمد بن نصر المروزي في الجد ، والصواب في الجد قول الصديق ، كما قد بينا ذلك في مصنف مفرد ، وذكرنا فيه عشرة وجوه تدل على صحة قوله الصديق [5] ، وجمهور الصحابة معه في الجد : نحو بضعة عشر منهم ، والذين [6] نقل عنهم خلافه : كزيد اضطربت أقوالهم اضطرابا يبين أن قوله هو الصواب دون قولهم . وابن مسعود
وقد نقل غير واحد الإجماع على أعلم من أبا بكر علي ، منهم الإمام أن منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية ، وذكر في كتابه " تقويم الأدلة " الإجماع من علماء السنة : أن أعلم من أبا بكر ، كيف علي كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهى ويخطب ، كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم - هو وإياه - يدعو الناس إلى الإسلام ، ولما هاجرا ، ويوم وأبو بكر حنين ، وغير ذلك من المشاهد ، وهو ساكت يقره ، ولم تكن هذه المرتبة لغيره .
أبا بكر ، فهما اللذان يتكلمان في العلم وعمر ، ويتقدمان [ ص: 503 ] بحضرته على سائر الصحابة ، مثل مشاورته في أسارى وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل الفقه والرأي يقدم في الشورى بدر وغير ذلك ، وقد روي في الحديث أنه قال [7] : " إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما [8] " .
وفي السنن عنه أنه قال : " أبي بكر وعمر " اقتدوا باللذين من بعدي : [9] .
ولم يحصل هذا لغيرهما ، بل قال : " " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء [10] .
فأمر باتباع سنة [11] الخلفاء الأربعة ، وخص أبا بكر بالاقتداء ، ومرتبة المقتدى به في أفعاله وفيما سنه وعمر [12] للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط .
وفي صحيح مسلم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفره ، فذكر الحديث ، وفيه : " أن أصحاب أبا بكر يرشدوا وعمر " . إن يطع القوم [13]
وثبت عن أنه كان يفتي بكتاب الله ، فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله ، فإن لم يجد أفتى بقول ابن عباس أبي بكر ، ولم يكن يفعل ذلك وعمر ولا بعثمان ، بعلي هو حبر وابن عباس [14] الأمة ، وأعلم الصحابة في زمانه ، وهو يفتي بقول أبي بكر مقدما لهما على قول غيرهما ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وعمر " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل [15] .
[ ص: 504 ] وأبو بكر أكثر اختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم من سائر الصحابة وعمر ، أكثر اختصاصا به ، فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين ، كما روى وأبو بكر أبو بكر بن أبي شيبة [16] : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا ، حدثنا الأعمش إبراهيم ، حدثنا علقمة [17] ، ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر عند عمر في الأمر أبي بكر [18] من أمر المسلمين وأنا معه عن [19] .
وفي الصحيحين عن أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة : " عبد الرحمن بن أبي بكر [20] بعد ما مضى من الليل ما شاء . قالت امرأته : ما [ ص: 505 ] حبسك عن أضيافك ؟ قال : أوما عشيتهم [21] ؟ قالت : أبوا حتى تجيء : عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم ، وذكر الحديث من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس ، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة ، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لبث حتى صليت العشاء ، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءنا [22] .
وفي رواية قال : " كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ، وفي سفر الهجرة لم يصحب غير أبي [23] ، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره " [24] .
وقال : " [25] في صحبته وذات يده ، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبو بكر خليلا أبا بكر " . إن أمن الناس علينا
وهذا من أصح الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة [26] .
وفي الصحيحين عن رضي الله عنه ، قال : " أبي الدرداء آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما صاحبكم فقد غامر فسلم أبو بكر " . كنت جالسا [ ص: 506 ] عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل
وقال : " ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي ، وإني أتيتك ، فقال : " يغفر الله لك يا " ثلاثا ، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبا بكر فلم يجده ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر ، وغضب حتى أشفق أبي بكر ، وقال : أنا كنت أظلم يا رسول الله ، مرتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت أبو بكر [27] ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ " فما أوذي بعدها . قال إنه كان بيني وبين : سبق بالخير البخاري [28] .
وقد تقدم ما في الصحيحين أن يوم أبا سفيان أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر [29] ; لعلمه وعلم سائر الناس أن هؤلاء هم رءوس الإسلام ، وأن قيامه بهم .
ولهذا لما سأل الرشيد عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته " . مالك بن أنس
فقال : " شفيتني يا شفيتني يا مالك " . مالك
[ ص: 507 ] وكثرة الاختصاص والصحبة ، مع كمال المودة والائتلاف [30] والمحبة ، والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما ، وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم .
أما فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم الصديق [31] ، لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا ، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم ، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لم تبلغه .
والذي وجد من موافقته لعمر [32] النصوص أكثر من موافقة ، يعرف هذا من عرف مسائل العلم ، وأقوال العلماء فيها ، والأدلة الشرعية ، ومراتبها ، وذلك مثل عدة المتوفى عنها زوجها ، فإن قول علي فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر ، وكذلك مسألة الحرام : قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول عمر ، وكذلك المخيرة التي خيرها زوجها ، والمفوضة للمهر ، ومسألة الخلية علي [33] ، والبرية ، والبائن ، والبتة [34] ، وكثير من مسائل الفقه .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فعمر " قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد [35] .
.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ، قالوا : ما أولته يا رسول الله ؟ قال : " العلم عمر " رأيت كأني أتيت [ ص: 508 ] بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري ، ثم ناولت فضلي [36] .
وفي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " الترمذي عمر لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم " ولفظ : " الترمذي عمر لو كان بعدي نبي لكان " قال : " حديث حسن " الترمذي [37] .
وأيضا فإن استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة ، التي هي عمود الإسلام ، وعلى إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى : " الصديق " . أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
وأردفه ، فقال : أمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور بعلي [38] ، فأمر على أبا بكر ، فكان ممن علي [39] أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع . لأبي بكر
وهذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها على المدينة . عليا
وكتاب في الصدقات أصح الكتب وآخرها أبي بكر [40] ، ولهذا عمل به عامة الفقهاء ، وغيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة .
وفي الصحيحين عن ، قال : كان أبي سعيد أعلمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر [41] .
[ ص: 509 ] وأيضا في مسألة إلا فصلها أبي بكر ، وارتفع النزاع ، فلا يعلم بينهم في زمانه مسألة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه ، كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ودفنه ، وميراثه ، وتجهيزه جيش فالصحابة لم يتنازعوا في زمن ، وقتال مانعي الزكاة ، وغير ذلك من المسائل الكبار . أسامة
بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حقا ، يعلمهم ، ويقومهم ، ويشجعهم ، ويبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة ، فلم يكونوا معه يختلفون .
وبعده فلم يبلغ علم أحد وكماله علم وكماله ، فصاروا يتنازعون في بعض المسائل ، كما تنازعوا في الجد والإخوة ، وفي الحرام ، والطلاق الثلاث ، وفي متعة الحج ، ونفقة المبتوتة وسكناها ، وغير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر . أبي بكر
وكانوا يخالفون عمر وعثمان في كثير من أقوالهم ، ولم يعرف أنهم خالفوا وعليا في شيء مما كان يفتي به ويقضي ، وهذا يدل على غاية العلم ، [ ص: 510 ] وقام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقام الإسلام فلم يخل بشيء ، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه ، مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم ، وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد . الصديق
وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته ، قال أبو القاسم السهيلي : ظهر سر قوله تعالى : ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ( سورة التوبة : 40 ) في اللفظ والمعنى ، فإنهم قالوا : خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انقطع هذا بموته .
وأيضا تعلم من فعلي بعض السنة ، أبي بكر لم يتعلم من وأبو بكر شيئا علي ، ومما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر ، وعليا كعلقمة والأسود وشريح وغيرهم ، كانوا يرجحون قول على قول عمر ، وأما تابعو علي المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر ، وإنما ظهر [42] علم علي وفقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته ، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر لا في فقه ولا علم ولا دين ، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم وعمر أبي بكر ، إلا من كان ينكر عليه ويذمه ، مع قلتهم وحقارتهم وخمولهم . وعمر
وهم ثلاث طوائف : طائفة غلت فيه ، وادعت فيه الإلهية ، وهؤلاء حرقهم بالنار .
[ ص: 511 ] وطائفة سبت رأسهم أبا بكر عبد الله بن سبأ ، فطلب قتله حتى هرب منه إلى علي المدائن .
وطائفة كانت تفضله حتى قال : لا يبلغني عن أحد أنه فضلني [43] على أبي بكر إلا جلدته جلد المفتري وعمر [44] .
وقد روي عن من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبر علي الكوفة : " أبو بكر وعمر " خير هذه الأمة بعد نبيها [45] .
وفي صحيح وغيره من رواية رجال البخاري همدان خاصته التي [46] يقول فيهم :
ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام أنه قال وقد سأله ابنه : يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : محمد ابن الحنفية ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أبو بكر [47] ، قال : ثم أنت ؟ قال : إنما أبوك رجل من المسلمين عمر [48] .
قال البخاري [49] : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان الثوري [50] ، [ ص: 512 ] حدثنا جامع بن شداد [51] ، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري [52] ، عن ، قال : قلت لأبي : يا أبت من خير الناس محمد ابن الحنفية [53] بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم [54] ؟ فقال : يا بني ، أوما تعرف ؟ فقلت : لا [55] ، فقال [56] ، قلت : ثم من ؟ قال : ثم أبو بكر " عمر [57] .
وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه ، ولخاصته ، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما ، ويراه مفتريا . والمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما [58] ، يقول الحق ، ولا يسميه مفتريا .
وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم ، ورأس الفضائل العلم ، قال تعالى : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ( سورة الزمر : 9 ) ، والدلائل على ذلك كثيرة ، وكلام العلماء كثير في ذلك .