[ ص: 86 ] ( فصل )
ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله ، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله ، كانت : إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان ، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى .
فشجاعة علي والزبير ، وخالد وأبي دجانة ، والبراء بن مالك وأبي طلحة ، وغيرهم من شجعان الصحابة - إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله ; فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين .
وإذا كان كذلك ، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد [1] ، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة .
قال الله تعالى : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) [ سورة الفرقان : 51 ، 52 ] ، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا [2] ، وهذه السورة مكية نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يؤمر بالقتال ، ( * ولم يؤذن له ، وإنما كان هذا الجهاد [3] بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال * ) [4] . وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي ، [ ص: 87 ] ويحتاج إلى شجاعة القلب ، وإلى القتال باليد . وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن ، وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن .
قال أبو محمد بن حزم [5] : " وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا ، والجهاد أفضل الأعمال . قال [6] : وهذا خطأ ; لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة : أحدها : الدعاء إلى الله تعالى باللسان . والثاني : الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير . والثالث : الجهاد باليد في الطعن والضرب . فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ولا عمر . أما أبو بكر : فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه ، فهذا أفضل عمل ، وليس لعلي من هذا كثير حظ ، وأما عمر : فإنه من يوم أسلم عز الإسلام ، وعبد الله علانية [7] ، وهذا أعظم الجهاد . وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما ، ولا حظ لعلي في هذا .
وبقي القسم الثاني ، وهو الرأي والمشورة [8] ، فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر .
[ ص: 88 ] بقي القسم الثالث ، وهو الطعن والضرب والمبارزة ، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري ، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة ، فوجدنا جهاده - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة [9] ، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة ، لا عن جبن ، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا ، وأتمهم نجدة ، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال ، فيقدمه [10] ويشتغل به ، ووجدناه [11] يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه ، إيثارا من النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك ، واستظهارا برأيه في الحرب ، وأنسا بمكانه ، ثم كان عمر ربما شورك ( * في ذلك ، وقد انفرد بهذا المحل دون علي ، ودون سائر الصحابة ، إلا في الندرة .
ثم نظرنا مع ذلك في * ) [12] هذا القسم من [13] الجهاد ، الذي هو الطعن والضرب [14] والمبارزة ، فوجدنا عليا لم ينفرد بالسيوف [15] فيه ، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان [16] ، كطلحة والزبير وسعد ، ومن [17] قتل في صدر الإسلام ، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومصعب بن [ ص: 89 ] عمير ، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة [18] - يعني أبا دجانة - وغيرهما ، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن ، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء ، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومؤازرته في حين الحرب ، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا ، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم ، وبعث [ عمر ] [19] إلى بني فلان ، وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه [20] . فحصل أرفع أنواع الجهاد [21] لأبي بكر وعمر ، وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد ، مع جماعة غيرهم " .


