الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  قال الرافضي [1] : " الثاني عشر : الفضائل : إما نفسانية : أو بدنية : أو خارجية . وعلى التقديرين الأولين : فإما أن تكون متعلقة بالشخص نفسه ، أو بغيره . وأمير المؤمنين علي جمع [2] [ ص: 212 ] الكل . أما فضائله [3] النفسانية المتعلقة به - كعلمه وزهده وكرمه وحلمه - فأشهر من أن تحصى [4] ، والمتعلقة بغيره كذلك ، كظهور [5] العلوم [6] عنه ، واستيفاء [7] غيره منه . وكذا فضائله [8] البدنية كالعبادة والشجاعة والصدقة . وأما الخارجية كالنسب فلم يلحقه فيه أحد ; لقربه من النبي - صلى الله عليه وسلم [9] - وتزويجه إياه بابنته [10] سيدة نساء العالمين .

                  وقد روى أخطب [11] خوارزم من كتاب " السنة " [12] بإسناده عن جابر قال : لما تزوج علي فاطمة زوجها الله إياه [13] من فوق سبع سماوات ، وكان الخاطب جبريل [14] ، وكان ميكائيل وإسرافيل في [ ص: 213 ] سبعين ألفا من الملائكة شهودا ، فأوحى الله إلى شجرة طوبى : انثري ما فيك من الدر والجوهر [15] ، ففعلت ، فأوحى الله إلى الحور العين أن القطن ، فلقطن منهن إلى يوم القيامة [16] ، وأورد أخبارا كثيرة في ذلك .

                  وكان أولاده - رضي الله عنه - أشرف الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد أبيهم
                  [17] . وعن حذيفة بن اليمان [18] قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ [19] بيد الحسين بن علي ، فقال : أيها الناس [20] هذا الحسين [21] ، ألا فاعرفوه وفضلوه ، فوالله لجده أكرم على الله من جد يوسف بن يعقوب [22] ، هذا الحسين جده [23] في الجنة ، وجدته في الجنة ، ( * وأمه في الجنة ، وأبوه في الجنة ، وخاله في الجنة وخالته في الجنة ، وعمه في الجنة ، [ ص: 214 ] وعمته في الجنة [24] ، وأخوه في الجنة * ) [25] ، وهو في الجنة ، ومحبوه [26] في الجنة ، ومحبو محبيهم في الجنة .

                  وعن حذيفة [27] قال : بت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ، فرأيت عنده [28] شخصا ، فقال لي : هل رأيت [29] ؟ قلت : نعم . قال : هذا [30] ملك لم ينزل إلي منذ بعثت ، أتاني من الله ، فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .

                  والأخبار في ذلك كثيرة ، وكان محمد بن الحنفية فاضلا عالما ، حتى ادعى قوم فيه الإمامة " .

                  والجواب : أما الأمور الخارجية [31] عن نفس الإيمان والتقوى ، فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى ، وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك ; فإنها من باب الوسائل لا المقاصد ، كالمال والسلطان ، والقوة والصحة ونحو ذلك ، فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه .

                  قال الله تعالى : ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ سورة الحجرات : 13 ] .

                  [ ص: 215 ] وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الناس أكرم ؟ فقال : " أتقاهم لله " . قيل : ليس عن هذا نسألك [32] . قال : " يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله " .

                  قيل : ليس عن هذا نسألك [33] . قال : " أفعن [34] معادن العرب تسألوني [35] ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
                  " [36] .

                  بين لهم أولا : أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ، وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي ، فإبراهيم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم على الله من يوسف ، وإن كان أبوه آزر ، وهذا أبوه يعقوب . وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل ، وإن كان هذا أولاده أنبياء ، وهذا أولاده ليسوا بأنبياء .

                  فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب ، قال لهم : فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء ، وليس في ولد آدم مثل يوسف ; فإنه نبي ابن نبي ابن نبي .

                  فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم ، قال : " أفعن معادن العرب تسألوني ؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " بين أن الأنساب كالمعادن ، فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة . [ ص: 216 ] ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة . فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل ، كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول . لكن هذا سبب ومظنة وليس هو لازما ; فربما تعطلت أرض الذهب ، وربما قل نبتها ; فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة . والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر .

                  فلهذا كان أهل الأنساب [37] الفاضلة يظن بهم الخير ، ويكرمون لأجل ذلك . فإذا تحقق من أحدهم [38] خلاف ذلك ، كانت الحقيقة مقدمة على المظنة . وأما [ ما ] [39] عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل ، إنما يثبت على ما يعلمه هو من الأعمال الصالحة ، فلا يحتاج إلى دليل ، ولا يجتزئ بالمظنة .

                  فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم [40] . فإذا قدر [41] تماثل اثنين عنده في التقوى ، تماثلا في الدرجة ، وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه ، لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه .

                  ولهذا حصل لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قنتن لله ورسوله وعملن صالحا ، لا لمجرد المصاهرة ، بل لكمال الطاعة . كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضوعف لهن العذاب ضعفين ; لقبح المعصية .

                  [ ص: 217 ] فإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى ، كان تقواه أكمل من تقوى غيره . كما أن الملك إذا عدل كان عدله أعظم من عدل الرجل في أهله . ثم إن الرجل إذا قصد الخير قصدا جازما [42] ، وعمل منه ما يقدر عليه ، كان له أجر كامل [43] .

                  كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " إن بالمدينة رجالا [44] ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " . قالوا : وهم في المدينة ؟ قال : " وهم بالمدينة ، حبسهم العذر " [45] .

                  ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا " [46] . وهذا مبسوط في موضع آخر .

                  [ ص: 218 ] ولهذا لم يثن الله على أحد في القرآن بنسبه أصلا : لا على ولد نبي ، ولا على أبي نبي ، وإنما أثنى على الناس بإيمانهم وأعمالهم . وإذا ذكر صنفا وأثنى عليهم ; فلما فيهم من الإيمان والعمل ، لا لمجرد النسب .

                  ولما ذكر الأنبياء - ذكرهم في الأنعام - وهم ثمانية عشر قال : ( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) [ سورة الأنعام : 87 ] . فبهذا حصلت الفضيلة باجتبائه سبحانه وتعالى ، وهدايته إياهم إلى صراط مستقيم ، لا بنفس القرابة .

                  وقد يوجب النسب حقوقا ، ويوجب لأجله حقوقا ، ويعلق فيه أحكاما من الإيجاب والتحريم والإباحة ، لكن الثواب والعقاب والوعد والوعيد على الأعمال لا على الأنساب .

                  ولما قال تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ سورة آل عمران : 33 ] ، وقال : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ سورة النساء : 54 ] ، كان هذا مدحا لهذا المعدن الشريف ، لما فيهم من الإيمان والعمل الصالح .

                  ومن لم يتصف بذلك منهم لم يدخل في المدح [47] ، كما في قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ) [ سورة الحديد : 26 ] ، وقال تعالى : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) [ سورة الصافات : 113 ] .

                  [ ص: 219 ] وفي القرآن الثناء والمدح للصحابة بإيمانهم وأعمالهم في غير آية ، كقوله : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ سورة التوبة : 100 ] .

                  وقوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] .

                  وقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) [ سورة الفتح : 18 ] .

                  وقوله : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) [ سورة الفتح : 4 ] .

                  وقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 8 - 9 ] . وقوله : ( محمد رسول الله والذين معه ) [ سورة الفتح : 29 ] الآية .

                  وهكذا في القرآن الثناء على المؤمنين من الأمة ، أولها وآخرها ، على المتقين والمحسنين ، والمقسطين والصالحين ، وأمثال هذه الأنواع .

                  وأما النسب ففي القرآن إثبات حق لذوي القربى كما ذكروا هم في [ ص: 220 ] آية الخمس والفيء . وفي القرآن أمر لهم [48] بما يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا . وفي القرآن الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فسر ذلك بأن يصلى عليه وعلى آله . وفي القرآن الأمر بمحبة الله ومحبة رسوله ، ومحبة أهله من تمام محبته . وفي القرآن أن أزواجه أمهات المؤمنين .

                  وليس في القرآن مدح أحد لمجرد كونه من ذوي القربى وأهل البيت ، ولا الثناء عليهم بذلك ، ولا ذكر استحقاقه الفضيلة عند الله بذلك ، ولا تفضيله على من يساويه في التقوى بذلك .

                  وإن كان قد ذكر ما ذكره من اصطفاء آل إبراهيم واصطفاء بني إسرائيل ، فذاك أمر ماض ، فأخبرنا به في [49] جعله عبرة لنا ، فبين مع ذلك أن الجزاء والمدح بالأعمال .

                  ولهذا ذكر ما ذكره من اصطفاء بني إسرائيل ، وذكر ما ذكره من كفر من كفر منهم وذنوبهم وعقوبتهم ، فذكر فيهم النوعين : الثواب والعقاب .

                  وهذا من تمام تحقيق أن النسب الشريف قد يقترن به المدح تارة إن كان صاحبه من أهل الإيمان والتقوى ، وإلا فإن ذم صاحبه أكثر ، كما كان الذم لمن ذم من بني إسرائيل وذرية إبراهيم ، وكذلك المصاهرة .

                  قال تعالى : ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) [ سورة التحريم : 10 - 11 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية