الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  وقوله : " وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة " .

                  [ ص: 463 ] والجواب أولا : أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة ، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) الآية [ سورة التوبة : 40 ] .

                  فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته ، وكان له كمال الصحبة مطلقا ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له : " إن الله معنا " [1] ، وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته ، وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي [2] هذه الحال من كمال إيمانه ، وتقواه ما [3] هو الفضيلة .

                  وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم .

                  ويقال : ثانيا : هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه : ( ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) [ سورة النحل : 127 ] ، وقوله : ( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) [ سورة الحجر : 88 ] ونحو ذلك ، بل في قوله تعالى لموسى : ( خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) [ سورة طه : 21 ] .

                  [ ص: 464 ] فيقال : إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه ، وإن كان معصية فقد عصى .

                  ويقال : إنه أمر أن يطمئن ويثبت ، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف .

                  فقوله لموسى ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى ) [ سورة طه : 21 ] هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف .

                  وكذلك قوله : ( فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) [ سورة طه : 67 ، 68 ] هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله .

                  * وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه : " لا تحزن إن الله معنا نهي عن الحزن مقرون بما يوجب زواله * [4] وهو قوله .

                  إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره .

                  وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ سورة القصص : 25 ] وكذلك قوله : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) [ سورة آل عمران : 139 ] قرن النهي عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين . وكذلك قوله : ( ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) [ سورة النحل : 127 ] مقرون بقوله : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [ سورة النحل : 128 ] وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم .

                  وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر : ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) [ سورة آل عمران : 126 ] .

                  ويقال : ثالثا : ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم ، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت ، وإن لم يكن المنهي عنه معصية ، بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب .

                  ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشي والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهي عنه معصية إذا حصل بغير اختياره ، ولم يكن سببه محظورا .

                  فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه .

                  قيل : المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن ، وهو قادر على اكتسابه ، فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب [5] ما يقويه ثبت قلبه وبدنه ، وعلى [ ص: 466 ] هذا فيكون النهي [6] عن هذا أمرا [7] بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه ، وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه .

                  والحزن يؤذي القلب ، فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة ، والحزن [8] إنما حصل بطاعة ، وهو محبة الرسول ونصحه ، وليس هو بمعصية [9] يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم [10] المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك .

                  ويقال : رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله ، وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا ، ثم تابوا كما تقدم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية