فصل .
قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه [1] : وقد زعم بعض الرافضة أن إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ سورة التوبة : 40 ] لا يدل على إيمان أبي بكر ، فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر . قوله تعالى : (
كما قال تعالى : ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ) [ سورة الكهف : 32 ، 35 ] إلى قوله : [ ص: 470 ] ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ) [ سورة الكهف : 37 ] الآية .
فيقال : معلوم أن لفظ " الصاحب " في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه ، أو عدوه ، أو مؤمن ، أو كافر ، إلا لما يقترن به .
وقد قال تعالى : ( والصاحب بالجنب وابن السبيل ) [ سورة النساء : 36 ] ، وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة ، وليس فيه دلالة على إيمان ، أو كفر [2] .
وكذلك قوله تعالى : ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ) [ سورة النجم : 1 ، 2 ] وقوله : ( وما صاحبكم بمجنون ) [ سورة التكوير : 22 ] المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي ، وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه .
وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم [3] ، وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ) [ سورة التوبة : 128 ] ، وقال : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) [ سورة إبراهيم : 4 ] فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم ، وأمكنه [ ص: 471 ] أن يخاطبهم بلسانهم [4] ، فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا [5] عنه ، فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم ، والإحسان إليهم .
وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى : ( لا تحزن إن الله معنا ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه [6] ، وقوله : " ؟ " هل أنتم تاركي لي صاحبي [7] وأمثال ذلك .
فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه [8] وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له ، وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به .
والقرآن يقول فيه : ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ سورة التوبة : 40 ] فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه ، وهذه المعية تتضمن النصر والتأييد ، وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ، ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ، ويزيل السكينة فعلم أن . لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه
[ ص: 472 ] وأيضا فقوله : " لا تحزن " دليل على أنه وليه ، وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له : ( لا تحزن إن الله معنا ) ، ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له : ( لا تحزن إن الله معنا ) ، لأن كون الله [9] مع نبيه مما يسر النبي ، وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله : ( لا تحزن ) ، ثم قوله : ( إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ) [ سورة التوبة : 40 ] .
ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف [ لا ] ينصر [10] على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ، ولم يفارقوه [11] ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره ؟ .
وقوله : ( ثاني اثنين ) حال من الضمير في أخرجه ، أي : أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين ، فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا [12] أخرجوهما .
وذلك هو الواقع ، فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) [ سورة الحشر : 8 ] .
[ ص: 473 ] وقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) [ سورة الحج : 39 ، 40 ] .
وقال : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ) [ سورة الممتحنة : 9 ] .
وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان ، وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم ( * إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه ، والكفار إنما أخرجوا * ) [13] أعداءهم لا من كان كافرا منهم .
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر .