الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 221 ] قالوا : والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد ، وخالق واحد ، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا ، أي الذات ، والنطق ، والحياة .

فالذات عندنا : الأب الذي هو ابتداء الاثنين .

والنطق : الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل .

والحياة : هي الروح القدس
.

والجواب عن هذا من وجوه :

الأول أن أسماء الله تبارك و - تعالى - متعددة كثيرة ، فإنه :

هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ( 22 ) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ( 23 ) هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ ص: 222 ] وقال - تعالى - :

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون .

وقال - تعالى - :

قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى .

وقال - تعالى - :

طه ( 1 ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( 2 ) إلا تذكرة لمن يخشى ( 3 ) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا ( 4 ) الرحمن على العرش استوى ( 5 ) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ( 6 ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( 7 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة

[ ص: 223 ] وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه - تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ، وإلا فأسماؤه تبارك و - تعالى - : أكثر من ذلك ، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده ، وأبو حاتم في صحيحه ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدل مكانه فرحا ، قالوا : يا رسول الله ، أفلا نتعلمهن ، قال : بلى ينبغي لمن [ ص: 224 ] سمعهن أن يتعلمهن .

وإذا كانت أسماء الله كثيرة ، كالعزيز والقدير وغيرها ، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل ، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل ، كما قد بسط في موضع آخر .

الوجه الثاني : قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين ، والابن : النطق الذي هو مولود منه ، كولادة النطق من العقل ، كلام باطل ، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا ، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا ، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا ، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما .

فإذا قالوا : إن الأب الذي هو الذات ، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق ، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق ، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له .

وهذا في حق الله باطل .

وكذلك قولهم : إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل ، فإن المولود من غيره متولد منه ، فيحدث بعد أن لم يكن ، كما يحدث النطق [ ص: 225 ] شيئا فشيئا ، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة ، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن ، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة ، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة ، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما ، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة ، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها ، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه ، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه و - تعالى - كاملا .

وذلك دور ممتنع في صريح العقل ، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال ، حتى يكون هو متصفا بها ، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع ، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه ، كتولد النطق من العقل ، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها .

الوجه الثالث : أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له ، فكذلك الحياة صفة لازمة لله ، فيكون روح القدس [ ص: 226 ] أيضا ابنا ثانيا ، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن ، صار عالما بعد أن لم يكن عالما ، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة ، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا .

الوجه الرابع : أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة ، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم .

الوجه الخامس : أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم ، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة ، كان المسيح هو الأب ، وكان المسيح نفسه هو الأب ، وهو الابن ، وهو روح القدس ، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر .

وإن قالوا المتحد به هو العلم ، فالعلم صفة لا تفارق العالم ، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة ، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات ، ودون الحياة .

الوجه السادس : أن العلم أيضا صفة ، والصفة لا تخلق ولا ترزق ، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء ، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض ، فامتنع أن يكون المتحد به صفة ، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر ، وليس هو نفس الحياة ، ولا نفس العلم والكلام .

فلو قال قائل : يا حياة الله ، أو يا علم الله ، أو يا كلام الله ، اغفر [ ص: 227 ] لي ، وارحمني واهدني ، كان هذا باطلا في صريح العقل ، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني ، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام : اغفر لي وارحمني .

والمسيح - عليه السلام - عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا ، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه ، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له : كن فيكون ؟

فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها ، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه ، وكان في أول التوراة أنه قال : ليكن كذا ليكن كذا .

ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة ، بل غايته أن يكون كلمة واحدة ، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل .

الوجه السابع : أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين ، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد ، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه .

وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة [ ص: 228 ] بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم ، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها : أومن بإله واحد ، أب ضابط الكل ، خالق السماوات والأرض ، كل ما يرى وما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء ، الذي من أجلنا نحن البشر ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر ، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب ، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه ، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له ، وممجد ناطق في الأنبياء ، كنيسة واحدة جامعة رسولية ، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا ، وابن جاء لقيامة الموتى ، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا .

[ ص: 229 ] ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض ، خالق ما يرى وما لا يرى ، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره ، ولا رب سواه ، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين ، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره ، كما قال الله - تعالى - :

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .

وقال - تعالى - :

وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .

ثم قلتم : وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من [ ص: 230 ] الأب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو الأب في الجوهر ، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق ، مساو الأب ابن الله الوحيد ، وقلتم : هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه .

وهذا تصريح بالإيمان بإلهين ، أحدهما من الآخر ، وعلم الله القائم به ، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا ، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق ، بل إله واحد وهذا صفة الإله ، وصفة الإله ليست بإله ، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة ، ولأن الإله واحد ، وصفاته متعددة ، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها ، والصفة قائمة بالموصوف ، ولأنكم سميتم الإله جوهرا ، وقلتم : هو القائم بنفسه ، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه .

وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب ، ومولودا وهو الابن ، وجعلوه مساويا له في الجوهر ، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة ، فقالوا : مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر ، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر ، والمساوي ليس هو المساوى .

ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر ، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا ، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي .

وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر ، وثلاثة آلهة ، ويقولون مع ذلك : إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا ، وهذا جمع بين النقيضين ، [ ص: 231 ] فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا ، وإثبات ثلاثة آلهة ، وبين إثبات جوهر واحد ، وبين إثباته ثلاثة جواهر ، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله :

قل هو الله أحد ( 1 ) الله الصمد ( 2 ) لم يلد ولم يولد ( 3 ) ولم يكن له كفوا أحد .

فنزه نفسه أن يلد كما يقولون : هو الأب ، وأن يولد كما يقولون : هو الابن ، وأن يكون له كفوا أحد ، كما يقولون : إن له من يساويه في الجوهر .

وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات ، قيل لكم : قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر ، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة ، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر ، وبين دعوى إثبات جوهر واحد ، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا : هذا بمنزلة قولك : زيد الطبيب الحاسب الكاتب ، ثم تقول : زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب .

فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى ، وقد يفسرون الأقنوم بهذا ، فيقولون : الأقنوم هو الذات مع الصفة ، فالذات مع [ ص: 232 ] كل صفة أقنوم ، فصارت الأقانيم ثلاثة ، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم ، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات : الطب والحساب والكتابة ، وليس هنا ثلاثة جواهر ، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى .

ولا يقول عاقل : إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر ، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر ، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى ، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب ، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم : ( إنه إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل ، وتجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء ، وتأنس وصلب وتألم ) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم ، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما ، وهذا تقر به طوائف منكم ، وطوائف تنكره ، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول .

وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم ، فإن كان روح القدس هو حياة الله ، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته ، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة ، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة [ ص: 233 ] فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله .

وقيل لكم : لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما .

ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي ، فأثبتم ربا ثالثا ، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق : الانفجار ، كالاندفاق والانصباب ، ونحو ذلك ، يقال : بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر ، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه .

ثم قلتم : هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له .

ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه ، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة ، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره ، فإن العلم يتعلق بالمعلومات ، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة ، يقال : علم الله كذا ، وقدر الله على كل شيء ، وكلم الله موسى .

وأما الحياة : فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي ، يقال [ ص: 234 ] حيا يحيا حياة ، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا ، وإنما يقال : أحيا كذا ، والإحياء فعل غير كونه حيا ، كما أن التعليم غير العلم ، والإقدار غير القدرة ، والتكليم غير التكلم ، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء - عليهم السلام - ، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره ، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به ، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم ، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا ، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له .

وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس ، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس ، وهذا تشبيه فاسد ، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس ، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها ، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة ، وإلا فهذا ممنوع .

[ ص: 235 ] والمقصود هنا : بيان فساد كلامهم وقياسهم .

وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها . كالشعاع القائم بالهواء والأرض ، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه :

منها : أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها ، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به ، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته .

ومنها : أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس ، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران .

ومنها : أن هذا ليس هو الشمس ، ولا صفة من صفات الشمس ، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس ، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين ، ولكن ليس للمسيح - عليه السلام - بذلك اختصاص ، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين ، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل ، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت ، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء ، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية