الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 248 ] قالوا : وقوله : على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني .

فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس ، وهذا لم يقل روح القدس ، بل قال روح الله .

وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها ، كما قال في القرآن :

فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .

فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا ، وتبين أنه رسوله .

فعلم أن المراد بالروح ملك ، هو روح اصطفاها فأضافها إليه ، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها .

كقوله : ناقة الله وسقياها .

وقوله : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود .

[ ص: 249 ] وقوله : عينا يشرب بها عباد الله .

والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة ، كان صفة له ، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره ، كالبيت والناقة والعبد والروح ، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه ، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره ، حتى استحق الإضافة ، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم ( بيت الله ) و ( ناقة الله ) و ( عباد الله ) ، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله .

بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار ، فإنها مخلوقة لله ، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة ، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة ، ولا نوق الناس ، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته .

كما قال - تعالى - : هذه ناقة الله لكم آية .

[ ص: 250 ] وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة ، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي ، وهو يعلمني ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب أذكر أو أنثى ، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب رزقه ؟ فيقول ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزاد على أمر ولا ينقص رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري .

وقد يقال : من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة : ترسل روحك فيخلقون ، وفي المزمور أيضا هو قال : فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك .

ومن هذا الباب قوله - تعالى - :

[ ص: 251 ] أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .

فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله ، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله .

ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني ، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم ، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة ، فإن الملائكة رسل الله في الخلق ، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة ، وإلى الرب أخرى ، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن :

الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .

وفي موضع آخر :

حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون .

وفي موضع ثالث :

قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون .

[ ص: 252 ] والجميع حق ، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء ، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم ، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم ، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا ، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات .

التالي السابق


الخدمات العلمية