[ ص: 248 ] قالوا : وقوله : على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني .
فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس ، وهذا لم يقل روح القدس ، بل قال روح الله .
، كما قال في القرآن : وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .
فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا ، وتبين أنه رسوله .
فعلم أن المراد بالروح ملك ، هو روح اصطفاها فأضافها إليه ، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها .
كقوله : ناقة الله وسقياها .
وقوله : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود .
[ ص: 249 ] وقوله : عينا يشرب بها عباد الله .
والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة ، كان صفة له ، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره ، كالبيت والناقة والعبد والروح ، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه ، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره ، حتى استحق الإضافة ، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم ( بيت الله ) و ( ناقة الله ) و ( عباد الله ) ، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله .
بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار ، فإنها مخلوقة لله ، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة ، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة ، ولا نوق الناس ، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته .
كما قال - تعالى - : هذه ناقة الله لكم آية .
[ ص: 250 ] وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة ، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي ، وهو يعلمني ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رواه إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ، ثم قال : يا رب أذكر أو أنثى ، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب أجله ؟ فيقول ربك ما شاء ، ويكتب الملك ، ثم يقول : يا رب رزقه ؟ فيقول ربك ما يشاء ، ويكتب الملك ، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزاد على أمر ولا ينقص من حديث مسلم حذيفة بن أسيد الغفاري .
وقد يقال : من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة : ترسل روحك فيخلقون ، وفي المزمور أيضا هو قال : فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك .
ومن هذا الباب قوله - تعالى - :
[ ص: 251 ] أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله ، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله .
ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني ، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم ، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة ، فإن الملائكة رسل الله في الخلق ، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة ، وإلى الرب أخرى ، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن :
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .
وفي موضع آخر :
حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون .
وفي موضع ثالث :
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون .
[ ص: 252 ] والجميع حق ، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء ، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم ، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم ، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا ، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات .