الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 257 ] قالوا : وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار : ( اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به ) .

فيقال لهم : هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصا ولا ظاهرا ، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله ، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ولا سموا كلامه ابنه ، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده ابنه أو بنيه وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله وكلامه - دعوى في غاية الكذب على المسيح ، وهو حمل للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازا ، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا .

ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنا ، وقدرته ابنا ، فتخصيص العلم ، بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثان لو كان [ ص: 258 ] لفظ الابن يستعمل في صفة الله ، فكيف إذا لم يكن كذلك .

وكذلك روح القدس لم يستعملوها في حياة الله ، ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته ، وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء ، ويؤيدهم به كما في قول داود : ( روحك القدس لا تنزع مني ) ، وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين ، وقد قدمنا أن روح القدس يراد به الملك ، ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة ، ومنه قوله في بعض النبوات : ( وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس ) وفي زبور داود ( روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة .

يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم : ( الذي من أجلنا - نحن البشر - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء ) وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة ، والذي في الكتب [ ص: 259 ] المقدسة لا يكون إلا حقا ، ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن ، وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم فنفخ فيها فحملت بالمسيح عليه السلام ، قال تعالى :

فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ( 19 ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( 20 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( 21 ) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا .

إلى آخر القصة ، وقال تعالى :

والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين .

وقال تعالى :

ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

[ ص: 260 ] وهذا الروح هو الرسول كما قال : قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .

ونفخ فيها من هذا الروح فكان المسيح مخلوقا من هذا الروح ، ومن أمه مريم كما قالوا في الأمانة : إنه تجسد من مريم ، ومن روح القدس ، لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله ، وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه ، بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا ، وهو أيضا مناقض لقولهم إن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة ، وهو العلم ، فإن كان قد تجسد من مريم ، وأقنوم الكلمة لم يكن متجسدا من روح القدس ، وإن كان من روح القدس لم يكن من الكلمة ، وإن كان منهما جميعا كان المسيح أقنومين : أقنوم الكلمة وأقنوم الروح .

والنصارى بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون : إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة ، فتبين تناقضهم في أمانتهم ، وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء .

وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد خاتم النبيين لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء ، كما أنه لا يناقض [ ص: 261 ] شيئا من كلامهم صريح المعقول ، وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ الابن وروح القدس وغيره على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه ، وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم ، وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه وتبديل معاني كلام الله ، فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء ، ولا أرادوه به ، ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما .

وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء ، ويفتري الكذب عليهم ؟ بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به - في لغتهم - الرب ، والابن الذي يريدون به - في لغتهم - المربي ، وهو هنا المسيح وروح القدس وهو روح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك ، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية