وذلك معروف عندهم من حين ابتدعوا الأمانة التي لهم ، التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر منهم بحضرة قسطنطين الملك ، فإذا لم يكن لهم مستند عقلي ، ولا سمعي عن الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يكون لهم مستند فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد ابتداعهم الأمانة ؟
لا سيما مع العلم الظاهر المتواتر أن محمدا صلى الله عليه وسلم كفرهم في الكتاب الذي أنزل عليه وضللهم ، وجاهدهم بنفسه وأمر بجهادهم ؛ كقوله تعالى :
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .
وقوله تعالى :
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
[ ص: 264 ] وقال : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .
وقال : ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم .
ونحو ذلك من الآيات .
وقالوا : وقد قال في هذا الكتاب أيضا : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا الصالحين .
فيقال لهم : حرفتم لفظ الآية ومعناها ؛ فإن لفظها :
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون .
فالكلمة التي سبقت لعباده المرسلين قوله :
إنهم لهم المنصورون .
أخبر أنه سبق منه كلمة لعباده المرسلين لينصرنهم ، كما قال تعالى :
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى [ ص: 265 ] وقوله :
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب .
وقوله :
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار .
وقوله :
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم .
وقوله :
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
والكلمة في لغة العرب : هي الجملة المفيدة سواء كانت جملة اسمية أو فعلية ، وهي القول التام ، وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة .
قال : واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا ، ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا [ ص: 266 ] ما تسميه العرب حرفا يسمونه كلمة مثل زيد وعمرو ، ومثل : قعد وذهب ، وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ، مثل : إن وثم ، وهل ولعل . سيبويه
قال تعالى :
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
فسمى هذه الجملة كلمة .
وقال تعالى :
مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة .
وهو قول : لا إله إلا الله .
وقال تعالى :
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
وقال تعالى :
قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
[ ص: 267 ] وقوله تعالى :
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ، وقال صلى الله عليه وسلم : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أصدق كلمة قالها شاعر كلمةوقال النبي صلى الله عليه وسلم : ، ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل ، وحرف المعنى - صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب ، ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول : وكلمة بها كلام قد يؤم ، فيجعل ذلك من القليل . اتقوا النار ولو بشق [ ص: 268 ] تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة
ومنهم من يجعل ذلك مجازا ، وليس الأمر كذلك ، بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة ، فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة ، وهكذا نقل عنهم أئمة النحو وغيره . كسيبويه
فكيف يقال : إن هذا هو المجاز ، وإن هذا قليل وكثير .
كما أن لفظ القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره كما قال [ ص: 269 ] تعالى :
حتى عاد كالعرجون القديم .
وقوله تعالى :
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم .
وقوله تعالى :
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون .
ثم إن من أهل الكلام من خص لفظ القديم بما لم يسبقه عدم ، أو ما لم يسبقه غيره ، وصار هذا عندهم هو حقيقة اللفظ ، حتى صار كثير منهم يظن أن استعمال القديم في المتقدم على غيره مطلقا - مجاز .
فتبين أن مراده تعالى بقوله :
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .
من جنس قوله :
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما .
فسبق منه كلمته بما سيكون من نصر المرسلين ، وملء جهنم من الجنة والناس أجمعين ونحو ذلك ، فحرف هؤلاء الضلال لفظ الآية فقالوا : لعبادنا الصالحين ، وجعلوا الكلمة هي المسيح وليس في [ ص: 270 ] اللفظ ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه ، ولا في كون المسيح سبق لعبادنا المرسلين - معنى صحيح ، وقد قال تعالى :
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون