الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 263 ] ثم أخذوا يزعمون أن فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم - حجة لهم على الأقانيم التي ادعوها ، وهم ابتدعوا القول بالأقانيم والتثليث قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم .

وذلك معروف عندهم من حين ابتدعوا الأمانة التي لهم ، التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر منهم بحضرة قسطنطين الملك ، فإذا لم يكن لهم مستند عقلي ، ولا سمعي عن الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يكون لهم مستند فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد ابتداعهم الأمانة ؟

لا سيما مع العلم الظاهر المتواتر أن محمدا صلى الله عليه وسلم كفرهم في الكتاب الذي أنزل عليه وضللهم ، وجاهدهم بنفسه وأمر بجهادهم ؛ كقوله تعالى :

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .

وقوله تعالى :

وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون

[ ص: 264 ] وقال : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .

وقال : ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم .

ونحو ذلك من الآيات .

وقالوا : وقد قال في هذا الكتاب أيضا : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا الصالحين .

فيقال لهم : حرفتم لفظ الآية ومعناها ؛ فإن لفظها :

ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون .

فالكلمة التي سبقت لعباده المرسلين قوله :

إنهم لهم المنصورون .

أخبر أنه سبق منه كلمة لعباده المرسلين لينصرنهم ، كما قال تعالى :

ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى [ ص: 265 ] وقوله :

ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب .

وقوله :

وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار .

وقوله :

وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم .

وقوله :

ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .

والكلمة في لغة العرب : هي الجملة المفيدة سواء كانت جملة اسمية أو فعلية ، وهي القول التام ، وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة .

قال سيبويه : واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا ، ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا [ ص: 266 ] ما تسميه العرب حرفا يسمونه كلمة مثل زيد وعمرو ، ومثل : قعد وذهب ، وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ، مثل : إن وثم ، وهل ولعل .

قال تعالى :

وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم .

فسمى هذه الجملة كلمة .

وقال تعالى :

مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة .

وهو قول : لا إله إلا الله .

وقال تعالى :

إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .

وقال تعالى :

قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله

[ ص: 267 ] وقوله تعالى :

وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ، وقال صلى الله عليه وسلم : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل



وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اتقوا النار ولو بشق [ ص: 268 ] تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ، ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل ، وحرف المعنى - صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب ، ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول : وكلمة بها كلام قد يؤم ، فيجعل ذلك من القليل .

ومنهم من يجعل ذلك مجازا ، وليس الأمر كذلك ، بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة ، فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة ، وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره .

فكيف يقال : إن هذا هو المجاز ، وإن هذا قليل وكثير .

كما أن لفظ القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره كما قال [ ص: 269 ] تعالى :

حتى عاد كالعرجون القديم .

وقوله تعالى :

وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم .

وقوله تعالى :

أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون .

ثم إن من أهل الكلام من خص لفظ القديم بما لم يسبقه عدم ، أو ما لم يسبقه غيره ، وصار هذا عندهم هو حقيقة اللفظ ، حتى صار كثير منهم يظن أن استعمال القديم في المتقدم على غيره مطلقا - مجاز .

فتبين أن مراده تعالى بقوله :

ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .

من جنس قوله :

ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما .

فسبق منه كلمته بما سيكون من نصر المرسلين ، وملء جهنم من الجنة والناس أجمعين ونحو ذلك ، فحرف هؤلاء الضلال لفظ الآية فقالوا : لعبادنا الصالحين ، وجعلوا الكلمة هي المسيح وليس في [ ص: 270 ] اللفظ ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه ، ولا في كون المسيح سبق لعبادنا المرسلين - معنى صحيح ، وقد قال تعالى :

ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( 171 ) إنهم لهم المنصورون ( 172 ) وإن جندنا لهم الغالبون

التالي السابق


الخدمات العلمية