فاليهود  كذبوا بدين النصارى  ، وقالوا ليسوا على شيء ، والنصارى  كذبوا بجميع ما تميز به اليهود  عنهم  ، حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح  ، بل أمرهم بالعمل بها ، وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم ، حتى كذبوا بما جاء به عيسى  عليه السلام من الحق . 
لكن النصارى   - وإن بالغوا في تكفير اليهود  ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال - فلا ريب أن اليهود  لما كذبوا المسيح  صاروا كفارا ، كما قال تعالى للمسيح   : إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا   . 
وقال تعالى : قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين   . 
 [ ص: 116 ] وكفر النصارى  بتكذيب محمد  صلى الله عليه وسلم ، وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود  بمجرد تكذيب المسيح   ، فإن المسيح  لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا ، وسائر شرعه إحالة على التوراة ، ولكن عامة دين النصارى  أحدثوه بعد المسيح   ، فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود  له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره . 
قال الله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون   . 
والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها ; ولهذا علماء النصارى  يقرنون بين موسى  ومحمد  صلى الله عليه وسلم ، كما قال  النجاشي  ملك النصارى  لما سمع القرآن   : إن هذا والذي جاء به  [ ص: 117 ] موسى  ليخرج من مشكاة واحدة . 
وكذلك قال ورقة بن نوفل   ، وهو من أحبار نصارى العرب  ، لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى  ، يا ليتني فيها جذعا ، حين يخرجك  [ ص: 118 ] قومك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أومخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا  . 
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن ، في مثل قوله فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا  ويعني التوراة والقرآن ، وفي القراءة الأخرى ( قالوا ساحران ) أي محمد   [ ص: 119 ] وموسى   . 
وقالوا إنا بكل كافرون  قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين   . 
فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن . 
ثم قال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين   . 
وهؤلاء النصارى  ، ذكر كاتب كتابهم في كتابه : أنه لما سأله سائل أن يفحص له فحصا بينا عما يعتقده النصارى  المسيحيون المختلفة ألسنتهم المتفرقة في أربع زوايا العالم ، من المشرق إلى المغرب ، ومن الجنوب الى الشمال ، والقاطنون بجزائر البحر  ، والمقيمون بالبر المتصل إلى مغيب الشمس ، وإن الأسقف  [ ص: 120 ] دميان الملك الرومي  اجتمع بمن اجتمع به من أجلائهم ورؤسائهم ، وفاوض من فاوض من أفاضلهم ، وعلمائهم ، فيما علمه من رأي القوم الذين رآهم بجزائر البحر  قبل دخوله إلى قبرص  ، وخاطبهم في دينهم وما يعتقدونه ويحتجون به عن أنفسهم ، قال الكاتب على لسان الأسقف : إنهم يقولون إنا سمعنا أن قد ظهر إنسان من العرب اسمه محمد  يقول إنه رسول الله ، وأتى بكتاب ، فذكر أنه منزل عليه من الله ، فلم نزل إلى أن حصل الكتاب عندنا ، قال فقلت لهم إذا كنتم قد سمعتم بهذا الكتاب ، وهذا الإنسان واجتهدتم على تحصيل هذا الكتاب الذي أتى به عندكم ، فلأي حال لم تتبعوه ولا سيما وفي الكتاب يقول :  [ ص: 121 ] ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين   . 
أجابوا قائلين : لأحوال شتى ، قال : فقلت وما هي ؟ قالوا : منها أن الكتاب عربي ، وليس بلساننا حسب ما جاء فيه ، يقول : إنا أنزلناه قرآنا عربيا   . 
وقال : بلسان عربي مبين   . وقال في سورة الشعراء : ولو نزلناه على بعض الأعجمين  فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين   . 
وقال في سورة البقرة : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون   . وقال في سورة آل عمران : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته   . وقال تعالى في سورة القصص : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون   .  [ ص: 122 ] وقال في سورة السجدة : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون   . 
وقال في سورة يس : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون   . 
قالوا : فلما رأينا هذا علمنا أنه لم يأت إلينا ، بل إلى جاهلية العرب ، الذين قال إنه لم يأتهم رسول ولا نذير من قبله ، وإنه لا يلزمنا اتباعه ; لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله ، خاطبونا بألسنتنا ، وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا ، وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغاتنا ، على ما يشهد لهم هذا الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم   . 
وقال في سورة النحل : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا   . 
وقال في سورة الروم : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات   . 
 [ ص: 123 ] فقد صح في هذا الكتاب ، أنه لم يأت إلا في الجاهلية من العرب ، وأما قوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين   . 
فيريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم ، لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه . 
ونعلم أن الله عدل ، وليس من عدله أن يطالب يوم القيامة أمة باتباع إنسان لم يأت إليهم ، ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم  ، ولا من جهة داع من قبله . 
هذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول ، وهذا الفصل لم يتعرضوا فيه لا لتصديقه ولا لتكذيبه ، بل زعموا أن في نفس هذا الكتاب أنه لم يقل إنه مرسل إليهم ، بل إلى جاهلية العرب  ، وإن العقل أيضا يمنع أن يرسل إليهم . 
فنحن نبدأ بالجواب عن هذا ، ونبين أنه صلى الله عليه  [ ص: 124 ] وسلم أخبر أنه مرسل إليهم ، وإلى جميع الإنس والجن ، وأنه لم يقل قط أنه لم يرسل إليهم ، ولا في كتابه ما يدل على ذلك . 
وأن ما احتجوا به من الآيات التي غلطوا في معرفة معناها ، فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه ، التي تبين أنه مرسل إليهم ، من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء ، حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة ، وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه . 
ومعلوم أن الكلام في صدق مدعي الرسالة وكذبه متقدم على الكلام في عموم رسالته وخصوصها ، وإن كان قد يعلم أحدهما قبل الآخر لكن هؤلاء القوم ادعوا خصوص رسالته ، وذكروا أن القرآن يدل على ذلك . فنجيب عما ذكروه على حسب ترتيبهم فصلا فصلا فنقول وبالله التوفيق : 
الكلام فيمن خاطب الخلق بأنه رسول الله إليهم ، كما فعل محمد  صلى الله عليه وسلم وغيره ممن قال إنه رسول الله ، كإبراهيم  وموسى  ، ونحوهما من الرسل الصادقين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وآل كل من الصالحين ، وكمسيلمة الكذاب   [ ص: 125 ] والأسود العنسي  ، ونحوهما من المتنبئين الكذابين ، ينبني على أصلين : 
أحدهما : أن نعرف ما يقوله في خبره وأمره فنعرف ما يخبر به ويأمر به ، وهل قال إنه رسول الله إلى جميع الناس ، أو قال إنه لم يرسل إلا إلى طائفة معينة لا إلى غيرها ؟ 
والثاني : أن يعرف هل هو صادق أو كاذب ؟ 
وبهذين الأصلين يتم الإيمان المفصل وهو معرفة صدق الرسول ومعرفة ما جاء به . 
وأما الإيمان المجمل ، فيحصل بالأول ، وهو معرفة صدقه فيما جاء به ، كإيماننا بالرسل المتقدمة ، وقد نعلم صدقه أو كذبه  [ ص: 126 ] وهؤلاء بدءوا في كتابهم هذا بما ذكره الرسول ، مما زعموا أنه حجة لهم على عدم وجوب اتباعه ، وعلى مدح دينهم الذي هم اليوم عليه بعد النسخ ، والتبديل ، ثم ذكروا حججا مستقلة على صحة دينهم ثم ذكروا ما يقدح فيه وفي دينه ; فلهذا قدمنا الجواب عما احتجوا به من القرآن ، كما قدموه في كتابهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					