[ ص: 430 ] قال الحاكي عنهم : فقلت لهم : إذا كانت هذه النبوات عند اليهود ، وهم مقرون معترفون بها أنها حق ، وأنها عتيدة أن تكمل عند مجيء المسيح فأي حجة لهم يحتجون بها عن الإيمان به ؟
أجابوا قائلين : إن الله اختار بني إسرائيل ، واصطفاهم على الناس له شعبا في ذلك الزمان ، وحيث كانوا في أرض مصر في عبودية فرعون أرسل إليهم موسى النبي دلهم على معرفة الله ، ووعدهم أن الله يخلصهم من عبودية فرعون ، ويخرجهم من مصر ، ويريهم أرض الميعاد التي هي أرض بيت المقدس فطلب موسى من الله ، وعمل العجائب قدام عيونهم
وضرب أهل مصر عشر الضربات ، وهم يرون ذلك جميعه ، ويعلمون أن الله يصنعه لأجلهم ، وأخرجهم من مصر بيد قوية ، وشق لهم البحر ، وأدخلهم فيه ، وصار لهم الماء حائطا عن يمينهم ، وحائطا عن شمالهم ، ودخل فرعون ، وجميع جنوده في البحر ، وبنو إسرائيل ينظرون ذلك موسى وبنو إسرائيل من البحر ، وخلفهم فرعون بجنوده فيه - أمر الله لموسى أن يرد عصاه إلى الماء فعاد الماء كما كان ، وغرق فرعون وجميع جنوده في البحر ، فلما برز وبنو إسرائيل يشهدون ذلك
[ ص: 431 ] فلما غاب عنهم موسى إلى الجبل ليناجي ربه ، وأخذ لهم التوراة من يد الله تركوا عبادة الله ، ونسوا جميع أفعاله ، وكفروا به وعبدوا رأس العجل من بعد ذلك ، ثم عبدوا الأصنام مرارا كثيرة ليس مرة واحدة ، وذبحوا لها الذبائح ليست حيوانات بل بنيهم مع البنات حسبما ذكر فيما قبل ذلك ، وجميع أفعالهم مكتوبة في أخبار بني إسرائيل فلما رأى الله قساوة قلوبهم ، وغلظ رقابهم وكفرهم به ، ورأى أفعالهم النجسة الخبيثة ، غضب عليهم وجعلهم مرذولين ، وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون ، وجعلهم مهانين في جميع الأمم ، وليس لهم ملك ولا بلاد ولا نبي ولا كاهن إلى الأبد حسبما تنبئت عليهم الأنبياء على ما ذكرناه قبل ، وتشهد به كتبهم التي في أيديهم إلى يومنا هذا .
وكذا قال الله لأشعيا : ( اذهب إلى هذا الشعب ، فقل لهم تسمعون سماعا ولا تفهمون ، وينظرون نظرا ولا تبصرون ، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وقد سمعوا بأفهامهم سمعا ثقيلا ، وقد غمضوا أعينهم لئلا يبصروا بها ، وسمعوا بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم ، ويرجعون إلي فأرحمهم ) .
[ ص: 432 ] وقال أشعيا : ( قال الله : هكذا مقتت نفسي سبوتكم ورءوس شهوركم صارت عندي مرذولة ، وقال : ( وفي ذلك اليوم يقول الله : سأبطل السبوت والأعياد كلها وأعطيكم سنة جديدة مختارة لا كالسنة التي أعطيتها لموسى عبدي ( يوم حوريب ) يوم الجمع الكثير ، بل سنة جديدة مختارة أمر بها وأخرجها من صهيون ) فصهيون هي أورشليم ، والسنة الجديدة المختارة : هي السنة التي تسلمناها نحن معشر النصارى من يدي الرسل الحواريين الأطهار الذين خرجوا من أورشليم ، وداروا في سبعة أقاليم العالم وأنذروا بهذه السنة الجديدة . فأي بيان يكون أوضح وأصح من هذا البيان ، إذ قد أوردناه من قول الله ، ولا سيما وأعداؤنا اليهود المخالفون لديننا شهدوا لنا بصحة ذلك جميعه .
وأما حجة اليهود في هذه النبوات يقولون ويعتقدون أنها حق ، وأنها قول الله لكن يقولون : إنها عتيدة ( فهذه النبوات مثلما هي عند اليهود كذلك هي عندنا معشر النصارى في اثنين وسبعين لسانا ، فيراهم جميع [ ص: 433 ] الأمم قولا واحدا وأنها قول الله ، وقالت اليهود نحن مصدقون بها ) أن تكمل وتتم عند مجيء المسيح ، لكن المسيح لم يجئ بعد ، وأن الذي جاء ليس هو المسيح . هذا قولهم ، وكفاهم أنهم يكفرون ويفجرون مع الكفر ، ويقولون : إن المسيح كان ضالا مضلا ، وأما المسيح الحق فعتيد أنه يأتي ويكمل نبوات الأنبياء إذا جاء ، وإذا جاء اتبعناه وكنا أنصاره ، وهذا رأيهم واعتقادهم في السيد المسيح ، فماذا يكون أعظم من هذا الكفر الذي هم عليه ؟
ولأجل ( ذلك في هذا الكتاب سماهم المغضوب عليهم لأجل ) خلافهم لقول الله الذي أرسل نطقه على أفواه الأنبياء ، ولما كنا نحن النصارى متمسكين بما أمرتنا به الرسل الأطهار سمانا في هذا الكتاب المنعم عليهم ، وأما قولنا في الله : ثلاثة أقانيم إله واحد ، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة ، وفي كتب الأنبياء ، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول : ( حيث شاء الله أن يخلق [ ص: 434 ] آدم قال : لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروح قدسه ، وحين خالف آدم وعصى ربه ( ها آدم قد صار كواحد منا ) .
( وهذا واضح أن الله قال هذا القول لابنه ، أي كلمته وروح قدسه ، وقال هذا القول يستهزئ بآدم ، أي طلب أن يصير كواحد منا ) صار عريانا مفتضحا .
وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة : ( وأمطر الرب عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا ) ، [ ص: 435 ] أوضح بهذا ربوبية الأب والابن بذكر ثالث .
والجواب : أن يقال أما كفر اليهود كلهم لما أرسل المسيح عليه السلام إليهم فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك ، إما بقتل النبيين ، وإما بتكذيبهم ، إما بالشرك ، وإما بغير ذلك مما كفروا فيه بما أنزل الله - فهذا حق .
وهذا هو نظير كفر النصارى كلهم الذين بلغتهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقام الله عليهم الحجة به فلم يؤمنوا به ، وكفر من كفر منهم قبل ذلك بما أنزل الله ، إما بتكذيب بعض ما أنزله ، وإما بتبديله بغيره ، وإما بجعل ما لم ينزله الله منزلا منه ، وإما بغير ذلك مما فيه كفر بما أنزل الله عز وجل .
وكذلك ما ذكر من أن الله أقام سنة جديدة ، وعهدا جديدا ، وهو ما بعث به المسيح عليه السلام من الشريعة التي بعث بها ، وفيها تحليل بعض ما حرم الله في التوراة ، كما قال في القرآن عن المسيح :
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم .
فهذا أيضا حق .