الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 430 ] قال الحاكي عنهم : فقلت لهم : إذا كانت هذه النبوات عند اليهود ، وهم مقرون معترفون بها أنها حق ، وأنها عتيدة أن تكمل عند مجيء المسيح فأي حجة لهم يحتجون بها عن الإيمان به ؟

أجابوا قائلين : إن الله اختار بني إسرائيل ، واصطفاهم على الناس له شعبا في ذلك الزمان ، وحيث كانوا في أرض مصر في عبودية فرعون أرسل إليهم موسى النبي دلهم على معرفة الله ، ووعدهم أن الله يخلصهم من عبودية فرعون ، ويخرجهم من مصر ، ويريهم أرض الميعاد التي هي أرض بيت المقدس فطلب موسى من الله ، وعمل العجائب قدام عيونهم

وضرب أهل مصر عشر الضربات ، وهم يرون ذلك جميعه ، ويعلمون أن الله يصنعه لأجلهم ، وأخرجهم من مصر بيد قوية ، وشق لهم البحر ، وأدخلهم فيه ، وصار لهم الماء حائطا عن يمينهم ، وحائطا عن شمالهم ، ودخل فرعون ، وجميع جنوده في البحر ، وبنو إسرائيل ينظرون ذلك فلما برز موسى وبنو إسرائيل من البحر ، وخلفهم فرعون بجنوده فيه - أمر الله لموسى أن يرد عصاه إلى الماء فعاد الماء كما كان ، وغرق فرعون وجميع جنوده في البحر ، وبنو إسرائيل يشهدون ذلك

[ ص: 431 ] فلما غاب عنهم موسى إلى الجبل ليناجي ربه ، وأخذ لهم التوراة من يد الله تركوا عبادة الله ، ونسوا جميع أفعاله ، وكفروا به وعبدوا رأس العجل من بعد ذلك ، ثم عبدوا الأصنام مرارا كثيرة ليس مرة واحدة ، وذبحوا لها الذبائح ليست حيوانات بل بنيهم مع البنات حسبما ذكر فيما قبل ذلك ، وجميع أفعالهم مكتوبة في أخبار بني إسرائيل فلما رأى الله قساوة قلوبهم ، وغلظ رقابهم وكفرهم به ، ورأى أفعالهم النجسة الخبيثة ، غضب عليهم وجعلهم مرذولين ، وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون ، وجعلهم مهانين في جميع الأمم ، وليس لهم ملك ولا بلاد ولا نبي ولا كاهن إلى الأبد حسبما تنبئت عليهم الأنبياء على ما ذكرناه قبل ، وتشهد به كتبهم التي في أيديهم إلى يومنا هذا .

وكذا قال الله لأشعيا : ( اذهب إلى هذا الشعب ، فقل لهم تسمعون سماعا ولا تفهمون ، وينظرون نظرا ولا تبصرون ، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وقد سمعوا بأفهامهم سمعا ثقيلا ، وقد غمضوا أعينهم لئلا يبصروا بها ، وسمعوا بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم ، ويرجعون إلي فأرحمهم ) .

[ ص: 432 ] وقال أشعيا : ( قال الله : هكذا مقتت نفسي سبوتكم ورءوس شهوركم صارت عندي مرذولة ، وقال : ( وفي ذلك اليوم يقول الله : سأبطل السبوت والأعياد كلها وأعطيكم سنة جديدة مختارة لا كالسنة التي أعطيتها لموسى عبدي ( يوم حوريب ) يوم الجمع الكثير ، بل سنة جديدة مختارة أمر بها وأخرجها من صهيون ) فصهيون هي أورشليم ، والسنة الجديدة المختارة : هي السنة التي تسلمناها نحن معشر النصارى من يدي الرسل الحواريين الأطهار الذين خرجوا من أورشليم ، وداروا في سبعة أقاليم العالم وأنذروا بهذه السنة الجديدة . فأي بيان يكون أوضح وأصح من هذا البيان ، إذ قد أوردناه من قول الله ، ولا سيما وأعداؤنا اليهود المخالفون لديننا شهدوا لنا بصحة ذلك جميعه .

وأما حجة اليهود في هذه النبوات يقولون ويعتقدون أنها حق ، وأنها قول الله لكن يقولون : إنها عتيدة ( فهذه النبوات مثلما هي عند اليهود كذلك هي عندنا معشر النصارى في اثنين وسبعين لسانا ، فيراهم جميع [ ص: 433 ] الأمم قولا واحدا وأنها قول الله ، وقالت اليهود نحن مصدقون بها ) أن تكمل وتتم عند مجيء المسيح ، لكن المسيح لم يجئ بعد ، وأن الذي جاء ليس هو المسيح . هذا قولهم ، وكفاهم أنهم يكفرون ويفجرون مع الكفر ، ويقولون : إن المسيح كان ضالا مضلا ، وأما المسيح الحق فعتيد أنه يأتي ويكمل نبوات الأنبياء إذا جاء ، وإذا جاء اتبعناه وكنا أنصاره ، وهذا رأيهم واعتقادهم في السيد المسيح ، فماذا يكون أعظم من هذا الكفر الذي هم عليه ؟

ولأجل ( ذلك في هذا الكتاب سماهم المغضوب عليهم لأجل ) خلافهم لقول الله الذي أرسل نطقه على أفواه الأنبياء ، ولما كنا نحن النصارى متمسكين بما أمرتنا به الرسل الأطهار سمانا في هذا الكتاب المنعم عليهم ، وأما قولنا في الله : ثلاثة أقانيم إله واحد ، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة ، وفي كتب الأنبياء ، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول : ( حيث شاء الله أن يخلق [ ص: 434 ] آدم قال : لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا ، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروح قدسه ، وحين خالف آدم وعصى ربه ( ها آدم قد صار كواحد منا ) .

( وهذا واضح أن الله قال هذا القول لابنه ، أي كلمته وروح قدسه ، وقال هذا القول يستهزئ بآدم ، أي طلب أن يصير كواحد منا ) صار عريانا مفتضحا .

وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة : ( وأمطر الرب عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا ) ، [ ص: 435 ] أوضح بهذا ربوبية الأب والابن بذكر ثالث .

والجواب : أن يقال أما كفر اليهود كلهم لما أرسل المسيح عليه السلام إليهم فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك ، إما بقتل النبيين ، وإما بتكذيبهم ، إما بالشرك ، وإما بغير ذلك مما كفروا فيه بما أنزل الله - فهذا حق .

وهذا هو نظير كفر النصارى كلهم الذين بلغتهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأقام الله عليهم الحجة به فلم يؤمنوا به ، وكفر من كفر منهم قبل ذلك بما أنزل الله ، إما بتكذيب بعض ما أنزله ، وإما بتبديله بغيره ، وإما بجعل ما لم ينزله الله منزلا منه ، وإما بغير ذلك مما فيه كفر بما أنزل الله عز وجل .

وكذلك ما ذكر من أن الله أقام سنة جديدة ، وعهدا جديدا ، وهو ما بعث به المسيح عليه السلام من الشريعة التي بعث بها ، وفيها تحليل بعض ما حرم الله في التوراة ، كما قال في القرآن عن المسيح :

ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم .

فهذا أيضا حق .

التالي السابق


الخدمات العلمية