[ ص: 495 ] وأما قولهم : ولنا هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم .
فيقال : لا يصح استشهادهم بهذا الكتاب واستدلالهم بوجه من الوجوه ، فإن الذي قد جاء به ، قد تواتر عنه أنه أخبر أنه مرسل إليهم ، وأنهم كفار إذا لم يؤمنوا به ، مستحقون للجهاد ، ومن لم يستحل جهادهم فهو كافر ، والقرآن مملوء بكفرهم ، فإن كان هذا رسولا من الله ، وقد أخبر بكفرهم ؛ ثبت أنهم كفار .
فإن ، ومن الرسول لا يقول على الله إلا حقا ، لا يكذب على الله في شيء ولو في كلمة واحدة فهو من الكذابين المفترين على الله الكذب ، مستحق لعقوبة الكذابين ، كما قال [ ص: 496 ] تعالى : كذب على الله
ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( 44 ) لأخذنا منه باليمين ( 45 ) ثم لقطعنا منه الوتين ( 46 ) فما منكم من أحد عنه حاجزين .
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته .
وقال تعالى :
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ( 101 ) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .
وقال تعالى :
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 ) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون
فمتى كانت كلمة من كلمات هذا الكتاب كذبا على الله لم يكن كتاب الله ، ولم يكن جاء به رسول الله ، فإن الكاذب قد يصدق في أكثر [ ص: 497 ] ما يقوله ، لكن إذا كذب في بعض ما يقوله كان كاذبا ، والله تعالى لا يرسل من يكذب عليه ، فإن المخلوق لا يرضى أن يرسل من يعلم أنه يكذب عليه ، ولو فعل ذلك دل على جهله أو عجزه ، فكيف يرسل رب العالمين من يعلم أنه يكذب عليه .
وحينئذ ، وكفر الذين يقولون : إن الله هو فمتى كذبوا بكلمة واحدة مما في الكتاب لم يصح استشهادهم واستدلالهم بشيء مما في الكتاب ، وإن صدقوا بالكتاب كله لزمهم الإيمان بما جاء به ، واتباع شريعته ، والاعتراف بكفر الذين كذبوه المسيح ابن مريم ، وإن الله ثالث ثلاثة .
وهذا بخلاف من آمن بالرسول ، ولم يثبت عنده بعض ما نقل عنه أو لم يعرف معناه ، فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه بالرسول .
فالمسلمون إذا كذبوا ببعض ما نقل عن موسى والمسيح فهو لطعنهم في الناقل ، لا في النبي المنقول عنه .
وأما النصارى فيعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن ، فطعنهم في بعضه طعن في الرسول نفسه وكفر به ، وليس هذا بمنزلة ما مثلوا به من الوثيقة التي كتب وفاؤها في ظهرها ، فإن الذي له الدين أقر بالاستيفاء المسقط له ، فلم يبق هناك حق له يدعيه ، بخلاف ما يخبر به الذي [ ص: 498 ] يقول : إنه رسول الله ، فإنه يقول : إن الله أنزل علي هذا الكتاب كله ، وأرسلني بكذا وكذا إلى كذا وكذا ، فإن كذب في شيء مما أخبر به عن الله لم يكن الله أرسله ، فإن الذي أرسله هو الذي جعله يبلغ عنه ما يقوله ، بلا زيادة ولا نقص ، وإرسال الله للرسول يتضمن شيئين :
إنشاء الله للرسالة ، والله حكيم ، وهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، لا يجعلها إلا فيمن هو من أكمل الخلق وأصدقهم .
ويتضمن إخبار الله عنه بأنه صادق عليه ، فيما يبلغه عنه مما يقول : إن الله أرسله به ، فكما صدقه بالآيات المعجزات في قوله : إنه أرسلني ، فقد صدقه بما يقول : إنه أرسلني به ، إذ التصديق بكونه أرسله من غير معرفة بصدقه فيما يخبر به - لا فائدة فيه ، ولا يحصل به مقصود الإرسال .
والله تعالى عليم بما يشهد به لمن أرسله بخلاف المخلوق الذي يبعث من يظنه يصدق فيما يبلغه عنه ، فيظهر أنه كذب عليه ، والله يعلم عواقب الأمور ، والرسالة صادرة من علمه وحكمته ، وهو عليم حكيم ، ومن يكذب على الله ولو في كلمة لم يبلغ عنه ما يقوله ، على هذا الوجه فلا يكون رسوله .
ولهذا ، فكان تمثيل هذا بالوثيقة تمثيلا باطلا ، فإن المدعي للإسقاط لم يدع كلاما [ ص: 499 ] متناقضا ، بل قال : أقررت بهذا الدين ، ثم وفيتك إياه ، وأنت تقر بوفائه ، وإقرارك مكتوب في ظهرها ، فليس لك أن تحتج بإقراري بالدين دون إقرارك بالوفاء ، بل إما أن تعتبر ما في الوثيقة من إقراري وإقرارك وإما أن تبطل الأمرين المتعارضين . اتفق أهل الملل على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله ، لا يكذبون عليه عمدا ولا خطأ ، فإن هذا مقصود الرسالة
وهذا كلام عدل كالشريكين المتفاوضين ، مثل شريكي العنان ، إذا قال لصاحبه : إن حصل ربح فهو لي ولك ، وإن لم يحصل ربح فلا لي ولا لك .
وكذلك البائع والمؤاجر الذي يقول : إن كان بيننا معاوضة فعليك تسليم ما بذلته ، وعلي تسليم ما بذلته ، لا يستحق هذا إلا بهذا ، فهذا كله كلام عادل وإنصاف ، بخلاف الشخص الذي يقال فيه : إنه رسول الله ، والكتاب الذي يقال : إنه كلام الله ، وإن الله أنزله ، فإن هذا إن كان رسولا صادقا فجميع ما بلغه من الله حق ، وإن كان كاذبا لم يكن الله أرسله ، فجميع ما بلغه عن الله كذب على الله ، فلا يجوز بمجرد خبره أن ينسب إلى الله شيء ولا يحتج بما يخبر به عن الله على شيء .
ألا ترى أن من ادعى الرسالة وعلم أنه كاذب كالأسود العنسي [ ص: 500 ] ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ، والحارث الدمشقي ، وبابا الرومي ، وغير هؤلاء - لا يجوز لأحد أن يحتج بشيء مما ذكروا أن الله أرسلهم به ، وإن كان ذلك القول قد علم أنه حق من جهة أخرى ، فإنه قد علم بكذبهم أن الله لم يرسلهم ، فأي شيء قالوا إن الله أنزله عليهم - كانوا كاذبين فيه ، ومتى علم أنه كاذب في نفس الخبر المعين لم يجز أن يحتج بجنس الذي علم أنه كذب فيه .
وكذلك لو قال رجل عندي : إن موسى أو داود أو المسيح ( كذبوا على الله في بعض ما يخبرون به عن الله ، كانوا بمنزلة ) من لم يرسلهم الله بشيء ، لكن كذبوا في قولهم إن الله أرسلهم ، فإذا أراد مع هذا أن يحتج بما ينقل من التوراة والزبور والإنجيل عن الله كان متناقضا ، وكان احتجاجه باطلا غير مقبول ، بل لو قال : أنا أشك في بعض ما أخبروا به عن الله ، هل كذبوا فيه أم لا ؟ كان كذلك شكا في أن الله أرسلهم ، فإن من أرسله الله لا يكذب في شيء لا خطأ ولا عمدا ، ومع شكه في [ ص: 501 ] ذلك لا يجوز أن يحتج بشيء مما ينقلونه عن الله لتجويز أن يكونوا كاذبين في نفس ذلك الذي نقلوه عن الله ، وليس هذا مثل رسول الواحد من الآدميين ، فإنه قد يكون أرسله ، ثم إن الرسول صدق في بعض ما بلغه عن مرسله ، وكذب في البعض .
ويجوز على الآدمي أن يرسل من يكذب عليه لعدم علمه بكذبه ، أو عدم حكمته في إرساله .
، وكذلك الشاهد والمخبر الذي قد علم أنه تارة يصدق وتارة يكذب - يمكن أن يستدل ببعض أخباره الذي يظهر فيها صدقه لدلالات تقترن بذلك ، بخلاف الرسول ، فإنه إذا كذب كذبة واحدة امتنع أن يكون الله أرسله ، فصار جميع ما يبلغه عن الله هو كاذب في أن الله أرسله به ، فكذبه في كلمة واحدة يوجب أنه كاذب في جميع ما بلغه عن الله ، وأن جميع ما حكاه ورواه عن الله قد كذب فيه ، وإن قدر أن ذلك الكلام في نفسه حق ، لكن تبليغه عن الله ونقله وروايته وحكايته عن الله كذب على الله . وأما الرب تعالى : فلا يجوز أن يرسل نبيا يكذب عليه لا عمدا ، ولا خطأ
[ ص: 502 ] وقد أخبر الله أنه ينسخ ما يلقيه الشيطان ، مما يناقض مقصود التبليغ ، بقوله تعالى :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( 52 ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( 54 ) ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم
وإن قالوا : خبره يناقض بعضه بعضا كان الجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذا أيضا إن كان حقا ، فإنه يقدح في رسالته ، فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا ، ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به . وإن كان باطلا لم يرد عليه .
فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب - في غاية الفساد ، وهو جمع بين النقيضين واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب .
وإذا كانت النتيجة تستلزم فساد بعض مقدمات الدليل بطل [ ص: 503 ] الاستدلال بذلك الدليل ، الذي لا يصح إلا بصحة مقدماته ، فإذا كانت مقدمته لا تصح إلا مع فساد نتيجته ، ونتيجته مستلزمة لفساد مقدمته - كان الجمع بين صحة المقدمة ، والنتيجة جمعا بين النقيضين .
وكذلك من استدل بشيء من الكتاب على ما يناقض ما في الكتاب ، النصارى بآيات فيه على صحة دينهم ، كان تناقضا ، فإنه إن صح ذلك الدليل ، بأن مدح دينهم مع ذمه كان متناقضا ، والكتاب المتناقض لا يكون كتاب الله . كاستدلال
وإن فسد أحدهما ، إما فساد دينهم ، وإما فساد مدحه ، فالكتاب الذي فيه فساد لا يكون كتاب الله ، فيلزم أن لا يكون كتاب الله على التقديرين ، فلا يصح الاستدلال به من جهة كونه خبر الله ، وأما الاستدلال به من جهة كون المتكلم به رجلا عالما حكيما ، وهذا لا يفيد العلم ، إذ ليس معصوما إلا الأنبياء عليهم السلام .
والنصارى يجوزون أن يكون معصوما غير الأنبياء ، فبتقدير أن يكون كذلك فهو حجة عليهم ، وإن قالوا : هو رجل عالم ليس برسول من الله قيل لهم فهذا قوله ليس بحجة لجواز أن يخطئ ، ولكن يعتضد بقوله ، وأما إذا ادعى أن الله أرسله ، وهو لم يرسله بهذا الكتاب كله - فهذا كذاب لا يحتج بشيء من كلامه ، ولا يكون مثل هذا عدلا [ ص: 504 ] فضلا عن أن يكون حكيما ، بل هو من الذين افتروا على الله كذبا :
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .
والجواب الثاني : أنا قد بينا أن ما ذكروه لا يناقض شيئا مما أخبر به ، وأنه ليس في هذا الكتاب تناقض يحتجون به بوجه من الوجوه .
وأما قولهم : وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .
فيقال : بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم ، فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، وخبر الله حق ، ووعد الله صدق ، والله لا يخلف الميعاد ، فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم .
ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الذي بعث به المسيح ، وسائر الأنبياء قبله ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم ، مصدقا لما جاء به المسيح ، وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه ( أحمد ) صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته ، وكذبوه فيما بشر به ، فجعل الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق النصارى إلى يوم القيامة .
[ ص: 505 ] كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة ، والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا متبعين المسيح ، لكنهم أتبع له من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه ، فإنهم كذبوه أولا ، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ثانيا ، فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود .
والمؤمنون أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، هم المتبعون للمسيح عليه السلام ، ومن سواهم كافر به فأمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة ، ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم ، وأخذوا منهم خيار الأرض : الأرض المقدسة ، وما حولها من مصر والجزيرة ، و أرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى ، ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين ، [ ص: 506 ] وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم ، ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم .
ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح عليه السلام ، والمسلمون كفارا به - لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين ؛ لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى ، فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى
[