وهذا أمر اتفق عليه الناس كلهم المسلمون ، واليهود ، والنصارى ، وغيرهم ، اتفقوا على أن ، لا يكذب على الله خطأ ولا عمدا ، فإن مقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك ، كما قال الرسول لا بد أن يكون صادقا معصوما فيما يبلغه عن الله موسى عليه السلام لفرعون : يافرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق .
وفي القراءة المشهورة : يخبر أنه جدير وحري وثابت ومستقر على أن لا يقول على الله إلا الحق ، وعلى القراءة الأخرى أخبر أنه واجب عليه أن لا يقول على الله إلا الحق .
[ ص: 142 ] وقال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين .
وقال تعالى : أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته .
وقال تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .
وقال تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي .
وهذا لبسطه موضع آخر .
وإنما المقصود هنا : أن احتجاجهم بكلمة واحدة مما جاء به [ ص: 143 ] محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يصح بوجه من الوجوه ، فإنه إن كان رسولا صادقا في كل ما يخبر به عن الله عز وجل ، فقد علم كل واحد أنه جاء بما يخالف دين النصارى ، فيلزم إذا كان رسولا صادقا أن يكون دين النصارى باطلا ، وإن قالوا في كلمة واحدة مما جاء به أنها باطلة ، لزم أن لا يكون عندهم رسولا صادقا مبلغا عن الله وحينئذ ، فسواء قالوا : هو ملك عادل ، أو هو عالم من العلماء ، أو هو رجل صالح من الصالحين ، أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين ، فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة ، متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله : إنه رسول الله ، وأنه بلغ هذا القرآن عن الله ، ومن كان كاذبا في قوله : إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين ، ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة ألبتة ، لكن له أسوة أمثاله .
فإن عرف صحة ما يقوله بدليل منفصل ، قبل القول ; لأنه عرف صدقه من غير جهته ، لا لأنه قاله ، وإن لم يعرف صحة القول لم يقبل
فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله .
[ ص: 144 ] وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب ، وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا ، فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب ، وأكثرهم يعظمون محمدا صلى الله عليه وسلم ، لما دعا إليه من توحيد الله تعالى ، ولما نهى عنه من عبادة الأوثان ، ولما صدق التوارة والإنجيل ، والمرسلين قبله ، ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به ، ومحاسن الشريعة التي جاء بها ، وفضائل أمته التي آمنت به ، ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات ، والبراهين ، والمعجزات ، والكرامات ، لكن يقولون مع ذلك : إنه بعث إلى غيرنا ، وإنه ملك عادل ، له سياسة عادلة ، وإنه مع ذلك حصل علوما من علومأهل الكتاب وغيرهم ، ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه ، كما وضع أكابرهم لهم القوانين ، والنواميس التي بأيديهم
ومهما قالوه من هذا ، فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به ، ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله ; لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال : إنه رسول الله إلى جميع الناس ، وأن الله أنزل عليه القرآن ، فإن كان صادقا في ذلك ، فمن كذبه في كلمة واحدة ، فقد كذب رسول الله ، ومن كذب رسول الله ، فهو كافر ، وإن لم يكن صادقا في ذلك ، لم يكن رسولا لله ، بل كان كاذبا ، ومن كان كاذبا على الله ، يقول : الله أرسلني بذلك ، ولم يرسله به ، لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله .