الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 42 ] قالوا : وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال :

وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني

فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي : " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ، ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه .

وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره ، لأنه حيث قال :

أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله

أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت .

[ ص: 43 ] والجواب : أن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها ، فهو حجة عليهم لا لهم ، وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم ، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه ، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور ، فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب ، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله - تعالى .

إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه ، وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض ، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض ، فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به ، كما قال تعالى عن النصارى :

ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة ، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله [ ص: 44 ] وسلامه عليهم أجمعين ، فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا ، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به ، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر ، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه ، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده .

وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه ، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه ، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا ، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه ، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه ، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه .

فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم ، فإذا عرف هذا ، فنقول :

الجواب عما ذكروه هنا من وجوه :

أحدها : أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ، ولا خلقا عاما ، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ ص: 45 ] وقال تعالى :

هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى

. فذكر نفسه بأنه الخالق البارئ المصور ، ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا ، وكذلك قال تعالى :

الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض

. وقال تعالى :

وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

. ووصف نفسه بأنه رب العالمين ، وبأنه مالك يوم الدين ، وأنه له الملك وله الحمد ، وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ، ونحو ذلك من خصائص الربوبية ، ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من [ ص: 46 ] الخصائص التي يختص بها ، التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى

وأما المسيح عليه السلام فقال فيه :

وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني

وقال المسيح عن نفسه :

أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله ، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك ؟

الوجه الثاني : أنه خلق من الطين كهيئة الطير ، والمراد به تصويره بصورة الطير ، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس ، فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير ، وغير الطير من الحيوانات ، ولكن هذا التصوير محرم ، بخلاف تصوير المسيح ، فإن الله أذن له فيه .

والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين ، فإن هذا مشترك ، وقد لعن [ ص: 47 ] النبي صلى الله عليه وسلم المصورين ، وقال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون

. الوجه الثالث : أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله ، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل

. وقال تعالى :

ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات . [ ص: 48 ] وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله ، وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله ، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء ، وصريح بأن الآذن غير المأذون له ، والمعلم ليس هو المعلم ، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه ، كما ليس هو والدته .

الوجه الرابع : أنهم قالوا : أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ، ثم قالوا في قوله : بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت ، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن ، لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، ففرق بين المسيح وبين الله ، وبين أن الله هو الآذن للمسيح ، وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن ، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن .

الوجه الخامس : أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه ، فإنهم يقولون : هو إله واحد ، وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه ؟

الوجه السادس : أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات ، فإن كان هو الكلام ، فالكلام [ ص: 49 ] صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ، ولو لم تتحد بالناسوت ، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا ، فكيف وهو ممتنع ؟

فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه .

وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام ، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين ، وعندهم هو الأب ، والمسيح عندهم ليس هو الأب ، فلا يكون هو الخالق لكل شيء ، والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير ، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته ، فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه .

الوجه السابع : قولهم : فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم ، لأنه كذا قال على لسان داود النبي : " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " . يقال لهم : هذا النص عن داود حجة عليكم ، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم ، فإن داود عليه السلام قال : " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " ولم يقل : إن كلمة الله هي الخالقة ، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله .

والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض ، أمر ظاهر معروف ، كالفرق بين القادر [ ص: 50 ] والقدرة ، فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته ، وليست القدرة هي الخالقة ، وكذلك الفرق بين المريد والإرادة ، فإن الله خلق الأشياء بمشيئته ، وليست مشيئته هي الخالقة .

وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته ، فالناس كلهم يقولون : يا الله يا ربنا يا خالقنا ، ارحمنا واغفر لنا ، ولا يقول أحد : يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ، ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا ، والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه ، وليست صفاته هي الخالقة .

الوجه الثامن : أن قول داود عليه السلام : " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء : أن الله يقول للشيء : كن فيكون ، وهذا في القرآن في غير موضع ، وفي التوراة قال الله : " ليكن كذا ليكن كذا "

الوجه التاسع : قولهم : لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه ، إن أرادوا بكلمته كلامه ، وبروحه حياته ، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته ، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله ، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه . ثم يقال : هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته ، وحينئذ فالخالق هو الله وحده ، وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل [ ص: 51 ] معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه ، فإن الله لا شريك له .

ولهذا لما قال الله تعالى : " الله خالق كل شيء " دخل كل ما سواه في مخلوقاته ، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه ، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له ، بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال ، فإن تلك لا حقيقة لها ، ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته ، فيمتنع تحقق ذاته دونها ، ولهذا لا يقال : الله وعلمه خلق ، والله وقدرته خلق .

وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح ، فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل ، والله وحده هو الخالق ، وإن شئت قلت : إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله ، فتلك داخلة في مسمى اسمه ، وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت .

الوجه العاشر : أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح ; لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت ، [ ص: 52 ] وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا ، والاتحاد فعل حادث عندهم ، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا ، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ، ولكن غايتهم أن يقولوا : أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح ، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله :

يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل ، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم ، والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت ، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية