[ ص: 158 ] قال الحسن بن أيوب : ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له : ( أيها الخير ، فقال : ليس الخير إلا الله وحده ، قلت : وبعضهم يترجمه أيها الصالح ، فقال : ليس الصالح إلا الله وحده ) . قال : ومثله قوله في الإنجيل : ( إني لم آت لأعمل بمشيئتي ، لكن بمشيئة من أرسلني ) . قال : ولو كانت له مشيئة لاهوتية ، كما يقولون ، لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك .
قال : ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله ، ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه ، وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله : ( إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ، ويدين الناس [ ص: 159 ] يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم ، ويتولى الحكم بينهم ، وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة ، فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين ، والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية ، فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه ، وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه ، وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية ، وهي الكلمة ، وقد عادت إلى الله كما بدت منه ، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها .
قال : ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها ، هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت ، ما هو ؟ ومن أين أخذتموه ؟ ومن أمركم به ؟ وفي أي كتاب نزل ؟ وأي نبي تنبأ به ؟ أو أي قول للمسيح تدعونه فيه ؟ وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول " متى " التلميذ على المسيح [ ص: 160 ] عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم : ( اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ) .
قال : وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل ، وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم : صلاة فلان القديس تكون معك . ومعنى الصلاة : الدعاء . واسم فلان النبي يعينك على أمورك .
وكما قال الله تبارك وتعالى :
ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين ، أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة ؟
قال : وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه ، أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به ، فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه [ ص: 161 ] الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة ، وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد ، وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح ؟
وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته ، فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته ، كما يقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه ، فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي ، فحكمته الكلمة وهي المسيح ، وروحه روح القدس ، وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير ، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير .
وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه ، فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه [ ص: 162 ] أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له ، وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله ، فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله ، وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية .
قال : وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم ، أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة ، لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها ، وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة ، وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس ، وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين ، وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ، والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا [ ص: 163 ] عنه مفروزا عنه ؟ فكيف يصح على هذا القول قياس ، أو يصح به عقد دين ؟ تقولون مرة مجتمع ، ومرة منفصل ، وما شبهتموه به من الشمس ، فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه ، وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به .
على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث : إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن " متى " التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه : ( سيروا في البلاد ، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس ) . وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا ، ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا ، لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي ، والحي ينقسم لناطق ولا ناطق .
وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق ، فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية .
فنقول لكم في ذلك : إذا كان الحي له حياة ونطق ، فأخبرونا عنه : أتقولون أنه قادر عزيز ، أم عاجز ذليل ؟
فإن قلتم : لا بل هو قادر عزيز ، قلنا : فأثبتوا له قدرة وعزة ، كما أثبتم له حياة وحكمة .
[ ص: 164 ] فإن قلتم : لا يلزمنا ذلك ، لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه ، قلنا لكم : وكذلك فقولوا : إنه حي بنفسه وناطق بنفسه ، ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث ، أو إثبات التخميس ، وإلا فما الفرق ؟ وهيهات من فرق .
وقال الحسن بن أيوب أيضا : إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها ، وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم ، ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما يثبت لكم به حجة ، ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم ، ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال " متى " التلميذ : ( إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال : ماذا يقول الناس في أني ابن البشر ؟ فقالوا : منهم من يقول : إنك يوحنا المعمداني ، وآخرون يقولون : إنك أرميا ، أو أحد الأنبياء . فقال لهم يسوع : فأنتم ماذا تقولون ؟ فأجابه سمعان الصفا ، وهو رئيسهم ، فقال : أنت المسيح ابن الله الحق . فأجابه المسيح وقال : طوبى لك يا سمعان ابن يونان ، إنه لم يطلعك على [ ص: 165 ] هذا لحم ولا دم ، ولكن أبي الذي في السماء ) .
وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال : ( إن سمعان أجابه فقال : أنت مسيح الله ) ، ولم يقل ابن الله ، فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال .
وقوله : إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله ، ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين ، وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا : ( إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم ) ، فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى [ ص: 166 ] النبوة ونجعله مثل من سمي في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره ، بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل : ( أنت ابني بكري ) . وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب ، وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره ، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه ؟
ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به ، قوله في علم الساعة : ( أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون ، ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده ) ، ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له : ( أيها العالم الصالح ، أي الأعمال خير لي ، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين ؟ فقال له : لم تقول لي صالحا ؟ ليس الصالح إلا الله وحده ) ، فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له ، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك .
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت : ( أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه ؟ [ ص: 167 ] فقال لها المسيح : صدقت طوبى لك ) ، ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل ، فقال : ( أمرنا أن لا نجرب الرب ) ، ثم سامه أن يسجد له فقال : ( أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده ، ولا نعبد سواه ) ، ثم صلاته في غير وقت لله ، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها ، فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد ؟
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم ، وهي مدينة بيت المقدس على الأتان ، لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به : ( هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة ) ؟ ثم قوله في بعض الإنجيل : ( اخرجوا بنا من هذه المدينة ، فإن النبي لا يبجل في مدينته ) . وفي موضع آخر أنه قال : ( لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه ) .
وقوله في بعض خطبه : ( إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه [ ص: 168 ] لا يعطى إلا آية يونس ، كما كان يونس لأهل " نينوى " : كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل ، رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم ، لأنهم تابوا على قول يونس النبي ، وإن هاهنا أفضل من يونس ) .
ثم قول داود في نبوته عليه : ( من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته [ ص: 169 ] دون الملائكة قليلا ) . ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة .
ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم : ( امضوا فإني ألحق بكم ، فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا : ما هذا الحال ويح ، ومن الغرق صاحوا . فقال لهم يسوع : اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو ، فأجابه شمعون الصفا وقال له : يا رب إن كنت أنت هو فأذن لي آتيك على الماء . فقال له : تعال ، فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه ، فلم يستطع وجعل يغرق ، فصاح وقال : يا رب أغثني ، فبسط يده يسوع فأخذه وقال له : لم تشككت يا قليل الأمانة ؟ ) . قال : فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا ، ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان ، وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه ، وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها .
وقال في الإنجيل ، وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة ، أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم ، فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا [ ص: 170 ] من الجموع ، لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي .
وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا ، وكانت من تلامذته مع ابنيها ، فقال لها : ( ما تريدين ؟ قالت : أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك . فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، لأنه ليس لي أن أعطيه ، ولكن من وعد له من أبي ) .
قال الحسن بن أيوب : فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم ، ما رضيتم بقوله في نفسه ، ولا بقول تلامذته فيه ، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء ، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله ، [ ص: 171 ] وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي ، فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا ، واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم ، ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم .
فبينوا لنا حجتكم في ذلك ، وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه .
قال : ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا 55 : ( فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي ) فبين أن الله - عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته ، وهذا ما لا شك لكم فيه ، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه ، وفي الأكل والشرب [ ص: 172 ] والنعيم هناك ، ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه : ( أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر ، ولكن : كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون ) ، ولم يقل : إني قادر أن أدفعهم عن نفسي ، ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني ، كما يقول من له القدرة والأمر .
قال : ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام : إنه مولود من أبيه أزلي ، ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها ، لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به ، ولا تجترئ النفوس على ركوب الشبهات فيه ، والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له ، فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله ، إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود ، وإن كان مولودا فليس بأزلي ; لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر .
ومعنى المولود : أنه حادث مفعول ، وكل مفعول فله أول ، فكيف [ ص: 173 ] ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة .
قال : ونسألكم أيضا عن واحدة ، فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه ، فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه ، إذ كان قديما مثله ، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها : إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده ، وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا ، فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول : ولد من أبيه ، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة ، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه ، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا ، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا ؟ . لم سميتم الأب أبا والابن ابنا ؟
ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح ، أن " متى " التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال : كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم ، فنسبه إلى من كان منه على الصحة ، ولم يقل : إنه ابن الله ، ولا إنه إله من إله كما يقولون : فإن قلتم : إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين [ ص: 174 ] كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية ، فقد نسق " متى " على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت ، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا ؟ .
ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها : إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل .
قال : ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان : أن يسوع المسيح بكر الخلائق ، فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز ، وهو محقق لقولنا في عبوديته ، وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم ، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد ، وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق .
كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما ، وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة ، ولأن من المحال أن يقول قائل : بكر ولد آدم ملك من الملائكة ، وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع ، وبكر المخلوقات ليس بمخلوق .
وقد قال الله تعالى في التوراة : [ ص: 175 ] ( يا ابني بكري ) أي إسرائيل ، وقال في موضع آخر : ( إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن ) . فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول ؟
قال : وقلتم : إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع ، فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود ، فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا ، وإن كان غير موجود وإنما هو حادث ، لم يكن ، فهو مخلوق كما قلنا .
قال : ومما يبين قولنا في خلق المسيح : أن هذا الاسم إنما وقع له ، لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى ، وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه : ( من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك ) فأبانداود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله ، وأن ماسحه الله إلهه ، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه ، وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله : ( من [ ص: 176 ] أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك . عهد الرب لداود بالحق ، ولا يرجع عنه ) يعني بمسيحه نفسه ، لأن الله مسحه للنبوة والملك ، وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره ، فسمى نفسه مسيح الله .
قال : وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى ، وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح ، وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات ، ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم ، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد ، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته ، فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل ، لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل ، ويستدل على ما غاب بما حضر ، وعلى ما أشكل بما ظهر ، فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في [ ص: 177 ] كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه ، وأنه ليس كما تأولوه .
ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال : ( أنا بأبي ) ، وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه . قال " يوحنا " في إنجيله : ( إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال : يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا ، كما أنا شيء واحد ، وكما أنك أرسلتني إلى العالم ، وكذلك أرسلهم أنا أيضا . ثم قال بعد هذا أيضا : إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا ، كما أنا شيء واحد ، فأنا بهم وأنت بي )
قال : هو معنى ذلك أنه قال : أنت معي وأنت لي ، كما أنا مع تلاميذي ولهم .
قلت : أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم [ ص: 178 ] وأعلمهم . والباء للسببية ، فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم ، والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم ، وقوله : ليكونوا شيئا واحدا : أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم ، وهذا مفسر ، وقد قال : ليكونوا هم شيئا واحدا ، كما أنا شيء واحد ، فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه .
وهذا يبين أن قوله : كما أنا شيء واحد ، أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك ، لم يرد بذلك اتحاد ذاته به ، كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض ، فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه .
قال : أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم ، كما أن أباه به ، لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه ، وأن أباه به إلى مشاركته في [ ص: 179 ] اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول ، فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل ، وهذا ما لا يكون ولا يجترئ على القول به أحد .
قال : ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحد يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام ، وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه ، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف ، فمنهم من يقول : إنه عبد ، ومنهم من يقول : إنه إله ، ومنهم من يقول : إنه ولد ، ومنهم من يقول : إنه أقنوم وطبيعة ، ومنهم من يقول : إنه أقنومان وطبيعتان .
وكل منهم يكفر صاحبه ويقول : إن الحق في يده ، وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه ، ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة ، وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله له المتأولون ، بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض ، فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له ، ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم ، سبحانه أنى يكون له ولد .
قال الحسن بن أيوب : وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم [ ص: 180 ] مما عقدتم به شريعة إيمانكم ، ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا : قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها ، ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها ، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده .
وهذا أيضا من سوء الاختيار ، وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها .
. فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم ، ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه ، إلا أهل ملل النصرانية فقط
وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه ، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم ، ومثل اختلاف المسلمين في القدر .
فمنهم من قال به ، ومنهم من دفعه .
وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم ، وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد .
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيه ، وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه .
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول ، كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين .
[ ص: 181 ] والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود .
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا ، ثم عرض عليهم دين النصرانية ، لوجب أن يتوقفوا عنه ، إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه .
ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله .
فأما قولنا في باب التوحيد ، واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد ، فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان ، وكل منهم يقر به ويرجع إليه .
إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد . ومنهم من يدخل العلل فيه ، بأن يقول : ثلاثة ترجع إلى واحد ، وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه ، ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها .
وكل منهم مقر بقولنا ، وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها ، وأنه واحد لا شريك له .
فقد صح عقدنا بلا شك منكم ، ولا من أحد من الأمم فيه ، [ ص: 182 ] ولا في شيء منه ، بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه .
والحمد لله رب العالمين على توفيقه ، وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته ، وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين ، إنه على كل شيء قدير ، وكل مستصعب عليه يسير ، وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رءوف رحيم . اهـ .
قلت : هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب ، وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم ، فنقله لقولهم أصح من نقل غيره .
وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية ، وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك .
ونحن نذكر مع ذلك كلام من نقل مذاهبهم من أئمتهم المنتصرين لدين النصرانية ، ونذكر ما ذكروه من حججهم ، مثل ابن البطريق ، [ ص: 183 ] بترك الإسكندرية ، فإنه صنف كتابه الذي سماه " نظم الجوهر " وذكر فيه أخبار النصارى ومجامعهم واختلافهم ، وسبب إحداثهم ما أحدثوه مع انتصاره لقول الملكية والرد على من خالفهم .
قال سعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية في تاريخه المعروف عند النصارى الذي سماه " نظم الجوهر " ، وذكر فيه مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأخبار ملوك الروم وأصحاب الكراسي برومية وقسطنطينية وغيرهما ، ووصف دين النصرانية وفرق أهلها ، وهو ملكي ، رد على سائر طوائف النصارى لما ذكر مولد المسيح صلوات الله عليه وأنه ولد في عهد ملك الروم قيصر المسمى أغسطس لثنتين وأربعين سنة من ملكه ، قال : وملك ستا وخمسين سنة .
[ ص: 184 ] قال : وملك بعده ابنه " طيباريوس " قيصر برومية ، وللمسيح خمس عشرة سنة .
وكان لقيصر هذا صديق يقال له " بلاطس " من قرية على شط البحر الذي تحت " قسطنطينية " ويسمى ذلك البحر " السطس " ولذلك يسمى " بلاطس النبطي " فولاه على أرض " يهوذا " .
قال : وفي خمس عشرة سنة من ملك " طيباريوس " قيصر هذا ظهر " يحيى " ابن زكريا المعمداني ، فعمد اليهود في الأردن لغفران الخطايا .
فجاء المسيح إلى يحيى بن زكريا فعمده يحيى في الأردن ، [ ص: 185 ] ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة ، وذكر قصة قتل يحيى ، وقصة الصلب المعروفة عند النصارى .
إلى أن قال : وكتب بلاطس " إلى " طيباريوس " الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعل تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى .
فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية ، فلم يتابعه أصحابه على ذلك ، وملك اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر .
وذكر أن في عصره بنيت مدينة " طبرية " مشتقة من اسمه .
قال : وملك بعده قيصر آخر أربع سنين وثلاثة أشهر . قتل " بلاطس " وولى شخصا كان شديدا على تلاميذ المسيح ، وقتل رئيس الشهداء والشمامسة ، فرجم بالحجارة حتى مات .
وذكر أنه لقي التلاميذ من اليهود ومن الروم شدة شديدة ، وقتل [ ص: 186 ] منهم خلق كثيرة ، وأنه مات هذا وولي بعده قيصر آخر ، وفي زمنه وقع جوع ووباء وفي زمنه كتب " متى " وبين إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس ، وفسره من العبرانية إلى الرومية " يوحنا " صاحب الإنجيل .
قال : وفي تسع سنين من ملكه كان " مرقس " صاحب الإنجيل بمدينة الإسكندرية يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح ، وأنه أول شخص جعل بطريركا على الإسكندرية ، وأنه صير معه اثني عشر قسيسا وأمرهم إذا مات البطريرك أن يختاروا واحدا من الاثني [ ص: 187 ] عشر قسيسا ، ويضع الاثنا عشر قسيسا أيديهم على رأسه ويباركونه ويصلحونه بطريركا ، ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا ويصيرونه معهم بدل القسيس الذي أصلحوه بتركا ، ليكون اثني عشر أبدا .
فلم يزل رسمهم بالإسكندرية على هذا إلى زمن الثلاثمائة وثمانية عشر .
فأمرهم بطريرك الإسكندرية الذي كان من جملة الثلاثمائة وثمانية عشر أن لا يفعل هذا فيما بعد ، ومنع أن يصلح الأقساء البترك ، بل يختاروا من أي بلد كان رجلا فاضلا ، وإذا مات البترك اجتمع الأساقفة فأصلحوا البترك من أي بلد كان من أولئك الأقسة ، أو من غيرهم .
فانقطع الرسم الأول من إصلاح الأقساء البترك ، وجعل التيسير لهم في إصلاح البترك بابا ، ثم سمى بترك الإسكندرية بابا ، ومعناه الجد .
[ ص: 188 ] ومن حنانيا الذي أصلحه " مرقس البشير " إلى حادي عشر بطركا بالإسكندرية ، لم يكن في عمل مصر أسقف ولم يكن البطاركة قبله أصلحوا أسقفا ، وأن العامة لما سمعت الأساقفة يسمون البطريرك أبا قالوا : إذا كنا نحن نسمي الأسقف أبا ، والأسقف يسمي البطريك أبا ، فيجب علينا أن نسمي البطريرك بابا ; أي الجد ، إذ كان أبا لأبينا ، فسمي بطريرك الإسكندرية من وقت " هرقل " بابا ، أي الجد .
قال : وخرج " مرقس " إلى " برقة " يدعو الناس إلى الإيمان بالسيد المسيح ومات " قلوديوس " قيصر ، وملك بعده ابنه " نارون " ثلاث عشرة سنة .
قال : وهو أول من أهاج على النصارى الشر والبلاء والعذاب .
قال : وفي عصره كتب " بطرس " رئيس الحواريين الإنجيل [ ص: 189 ] ( إنجيل مرقس ) عن مرقس بمدينة رومية ، ونسبه إلى مرقس .
قال : وفي عصر هذا الملك كتب " لوقا " إنجيله بالرومية إلى رجل شريف من عظماء الروم يقال له " فوفيلا " فكتب له أيضا الأبركسس الذي فيه أخبار التلاميذ .
وقد كان " لوقا البشير " صاحب " بولس الرسول " يقول في بعض رسائله أن " لوقا " الطبيب يقول : " عليكم السلام " .
وقال : وأخذ ثارون قيصر لبطرس فصلبه منكسا ، ثم قتله ، لأن بطرس قال له : إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا ، لئلا أكون مثل سيدي المسيح ، فإنه صلب قائما ، وضرب عنق بولس الرسول بالسيف .
وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة .
[ ص: 190 ] قال : وكان مرقس صاحب الإنجيل بالإسكندرية ، وبرقة يدعو الناس إلى الإيمان فأقام سبع سنين .
وفي أول سنة من ملك نارون قيصر قتل مرقس بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار ، وذكر بعده عدة قياصرة ، وذكر أن " طيطس " خرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة ، بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم ، وقتل كل من كان فيها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهم الصخور .
وخرب المدينة والهيكل ، وأضرم بها النار ، وأحصى القتلى على يديه فكانوا ثلاثة آلاف ألف .
وذكر عدة قياصرة بعد ذلك ، وأنه ولي واحد منهم خمس عشرة سنة ، يقال له : " ذوما طيانوس " وكان شديدا جدا على اليهود ، وأنه بلغه أن النصارى يقولون أن المسيح ملكهم ، وأن ملكه إلى الدهر .
فغضب غضبا شديدا وأمر بقتل النصارى ، وأن لا يكون في ملكه نصراني .
[ ص: 191 ] وكان " يوحنا " صاحب الإنجيل هناك فسمع بهذا ، فخاف وهرب إلى أفسس .
ثم إنه أمر بإكرامهم وترك الاعتراض عليهم .
ثم تولى بعده قيصر آخر سنة وبعض أخرى ، ثم ملك آخر بعده تسع عشرة سنة ، يسمى " طرايانوس " .
قال : وهذا الملك أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا ، وقتل شهداء كثيرة ، وقتل بطريرك إنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله مائة وعشرون سنة ، وأمر أن يستعبد النصارى إذ ليس لهم دين ولا شريعة .
[ ص: 192 ] فلشدة ما استعبد النصارى وغلظ ما نالهم من القتل ، رحمتهم الروم وشهد وزراء الملك عنده أن النصارى لهم شريعة ودين ، وأنه لا يحل أن يستعبدوا ، فكف عنهم الأذية .
قال : وفي عصره كتب " يوحنا " إنجيله بالرومية في جزيرة يقال لها : " تيمرا " من أرض الروم من أرض " أثينة " في عصر رجل من عظماء الروم فيلسوف يقال له : " مومودس " .
قال : وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس .
فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة ، عزموا على أن يملكوا منهم ملكا ، فبلغ الخبر " طيباريوس قيصر " فوجه بقائد من قواده بجيش عظيم إلى بيت المقدس ، فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة .
[ ص: 193 ] قال : وخرج على قيصر هذا خارجي مقاتل ببابل ، فخرج إليه بنفسه فوقعت بينهم حرب شديدة ، وقتل من الفريقين خلق عظيم ، وقتل قيصر في الحرب .
وملك بعده " أندريانوس قيصر " عشرين سنة ، فخرج إلى ذلك الخارجي ببابل فهزمه ، وصار إلى مصر فلقي منه أهل مصر شدة شديدة ، وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا ، وأصاب " إيليا " ابنه علة في بدنه ، فكان ينفذ إلى البلدان يطلب شفاء لعلته ، فوصفوا له بيت المقدس .
فلما وافاها رآها خرابا ليس فيها أحد إلا كنيسة للنصارى ، فأمر أن تبنى المدينة وتحصن بحصن قوي .
فلما سمع اليهود أقبلوا من كل بلد وكل مدينة ، فما كان إلا زمان قليل حتى امتلأت منهم المدينة ، فلما كثروا [ ص: 194 ] ملكوا عليهم ملكا .
فاتصل الخبر بإيليا بن قيصر إندريانوس ، فوجه إليهم بقائد من قواده مع خلق كثير ، فحاصر المدينة ، فمات كل من فيها من الجوع والعطش ، ثم فتحها فقتل من اليهود ما لا يحصى ، وهدم الحصن وخرب المدينة حتى صيرها صحراء .
قال : وهذا آخر خراب بيت المقدس ، وهرب من اليهود من هرب إلى مصر وإلى الشام وإلى الجبال وإلى الغور .
وأمر الملك أن لا يسكن المدينة يهودي ، وأن يقتل اليهود ويستأصلوا ، وأن يسكن المدينة اليونانيون ويبنوا على باب الهيكل برجا ، ويجعل فوقه ألواحا ويكتبوا عليه اسم " إيليا الملك " وذلك من ثمان سنين من ملكه .
قال : والبرج اليوم على باب مدينة القدس ، وسمي محراب داود .
قال : فسمي بيت المقدس إلى هذا الوقت " إيليا " .
فمن الخراب الأول الذي أخربه " طيطس " إلى هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة .
وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين ، فنظروا إلى النصارى يأتون [ ص: 195 ] إلى تلك المزبلة التي فيها القبر والأقرانيون ، فيصلون ، فمنعوهم من ذلك .
وبنى اليونانيون على تلك المزبلة هيكلا على اسم الزهرة ، فلم يقدر أحد من النصارى بعد ذلك أن يقرب ذلك الموضع .
قال : ثم مات " إيليا الملك " وملك بعده " أنطونيوس قيصر " برومية اثنين وعشرين سنة .
قال : وفي إحدى عشرة سنة من ملكه صير " يهودا " أسقفا على بيت المقدس ، فأقام سنتين ومات .
قال : فمن يعقوب أسقف المقدس الأول إلى يهودا أسقف بيت المقدس هذا ، كانت الأساقفة الذين صيروا على بيت المقدس مختونين .
وذكر أنه ولي بعد هذا قيصر آخر اسمه " مرقس " تسع عشرة سنة ، وأنه أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا شديدا ، واستشهد في زمانه شهداء كثيرون .
[ ص: 196 ] قال : وكان في أيامه جوع شديد ووباء عظيم لم تمطر السماء سنين ، وكاد الملك وجميع أهل مملكته أن يهلكوا من الجوع .
فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم ، فدعوا فأمطر الله عليهم مطرا عظيما وارتفع الوباء والقحط .
قال : وكان بأيامه بأرض اليونانيين " مغنوس " الحكيم .
قال : وفي خمس سنين من ملكه ، صير " لولياثوس " بطريركا ، وهو أول بطريرك أصلح الأساقفة في عمل مصر ، أقام ثلاثا وأربعين سنة ومات .