الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 230 ] قال : وأمر الملك أن لا يسكن يهودي بيت المقدس ولا يجوز بها ، ومن لم يتنصر يقتل . فتنصر من اليهود خلق كثير ، وظهر دين النصرانية .

فقيل لـ قسطنطين الملك : إن اليهود يتنصرون من فزع القتل وهم على دينهم . قال الملك : كيف لنا أن نعلم ذلك منهم ؟

قال بولس البترك : إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير ، فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتطعمهم منها ، فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية .

فقال الملك : إذا كان الخنزير في التوراة حراما ، فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه للناس ؟

فقال له " بولس " البترك : إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة وجاء بناموس آخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل ، وفي إنجيله المقدس : ( أن كل ما يدخل البطن ليس بحرام ولا ينجس ، وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه ) .

[ ص: 231 ] وقال بولس الرسول في رسالته إلى أهل مدينة " فورينيوس " الأولى : ( الطعام للبطن آلته لها ، والبطن للطعام ، وله يلعن ) . ومكتوب في " الإبركسس " يعني أخبار الحواريين : أن بطرس رئيس الحواريين كان في مدينة " يافا " في منزل رجل دباغ يقال له : " سيمون " ، وأنه صعد إلى المنزل ليصلي وقت ست ساعات من النهار ، فوقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت وإذا إزار قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض .

وفيه : كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والذئاب وغير ذلك من طير السماء . وسمع صوتا يقول له : يا بطرس ، قم فاذبح وكل ، فقال بطرس : يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط فجاء [ ص: 232 ] صوت ثان : كل ما طهره الله فليس بنجس ، وفي نسخة أخرى : ما طهره الله فلا تنجسه أنت .

ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات ، ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء ، فعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه .

فبهذا المنظر وبما قال سيدنا المسيح في إنجيله المقدس ، أمر بطرس وبولس أن نأكل كل ذي أربع قوائم من الخنزير وغيره من جميع الحيوان حلالا لنا .

فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا صغارا وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح ، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير ، فمن لم يأكل منه يقتل ، فقتل لأجل ذلك خلق كثير .

[ ص: 233 ] قال سعيد : وكان لـ " قسطنطين " ثلاثة أولاد أكبرهم " قسطنطين " بن " قسطنطين " وذلك حين ملك " أزدشير بن سابور بن هرمز " على الفرس ، وملك بعده " سابور بن سابور " لخمس سنين من ملك " قسطنطين " .

قال : وفي ذلك العصر اجتمع أصحاب " أريوس " وكل من قال بمقالته إلى الملك " قسطنطين " ، فحملوا له دينهم ومقالتهم ، وقالوا : إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم : إن الابن متفق مع الأب في الجوهر ، فتأمر أن لا يقال هذا ، فإنه خطأ . فأراد الملك أن يفعل ذلك .

قال : وفي ذلك العصر ظهر على " الأقرانيون " وهو الجلجلة نصف النهار صليب من نور من الأرض إلى السماء يفوق ضوءه ضوء الشمس ، فكان يبلغ إلى طور زيتا فرأى ذلك كل من كان في بيت المقدس من كبير وصغير .

[ ص: 234 ] فكتب أسقف بيت المقدس إلى " قسطنطين " بن " قسطنطين " بالخبر وقال : في أيام أبيك السعيد ظهر صليب كواكب من السماء في نصف النهار ، وفي أيامك ظهر أيها الملك على " الأقرانيون " صليب من نور يفوق نوره نور الشمس في نصف النهار .

وكتب إليه أن لا يقبل قول أصحاب " أريوس " فإنهم حائدون عن الحق كفار ، قد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ، ولعنوا كل من يقول بمقالتهم . فقيل قوله .

قال : وفي ذلك الوقت غلبت مقالة " أريوس " على قسطنطينية وأنطاكية وبابل والإسكندرية .

فسمي التابعون لأريوس والقائلون بمقالته " أريوسيين " مشتقا من اسمه .

قال : وفي ثاني سنة من ملك " قسطنطين " صير على أنطاكية بطرك أريوسي ، ثم بعده آخر أريوسي ، ثم بعده آخر مناني ، وصير على قسطنطينية بترك مناني .

[ ص: 235 ] قال ففي عشر سنين من ملكه صير على قسطنطينية بطرك ، وكان يقول : روح القدس مخلوقة ، وأقام عشر سنين ومات .

ونقل بعد ذلك بطرك أنطاكية فصير على قسطنطينية ، وكان منانيا .

قال : وأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم " أريوسيين " و " منانيين " فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى ، وصيروا على إسكندرية بتركا منانيا .

وفي ذلك الزمان قدم من القسطنطينية إلى الإسكندرية قائد ، وكان أريوسيا ، فنفى الملكي وأقام بطركا أريوسيا .

فلما خرج القائد قتل الملكيون ذلك البترك الأريوسي وأحرقوه بالنار .

[ ص: 236 ] ومات الملك " قسطنطين " بن " قسطنطين " وله في الملك أربع وعشرون سنة .

وملك بعده " يوليانوس " الملك الكافر على الروم سنين ، وأراد أن يرد الناس إلى عبادة الأصنام ، وقتل من الشهداء خلقا كثيرا .

وفي أول سنة من ملكه وثب الأريوسيون ببيت المقدس على أسقفها الملكي الذي كتب بظهور الصليب ليقتلوه فهرب منهم ، فصيروا أسقفا أريوسيا .

قال : وفي ثاني سنة من ملكه ، صير على أنطاكية بطركا على الأمانة ، أقام خمسا وعشرين سنة .

وفي إحدى وعشرين سنة من رياسته ، كان المجمع الثاني بقسطنطينية .

قال : وكان في عصره أهل مدينة " نيريار " كلهم صابئون ، فوضع [ ص: 237 ] أسقف " نيريار ميمرا " في ميلاد المسيح ويقول في ابتدائه الميمر : السيد ولد مختونا ، فخذوا المسيح من السماء واستقبلوه على الأرض ، فلما قرأه عليهم استهزأوا به ، وأقبلوا يضحكون منه ، فلما كان عيد الحميم ، وضع " ميمرا " في عيد الحميم ، هتك فيه دين الصابئين وفضحهم فيه ، ومكن فيه دين النصرانية .

قال : وكان في عصر " يوليانوس " الملك الكافر أول راهب سكن برية مصر وبنى الديارات وجمع الرهبان .

وكان آخر بالشام وهو أول من سكن برية " الأردن " وجمع الرهبان وبنى الديارات .

قال : وخرج هذا الملك الكافر لقتال " سابور " ملك الفرس ، فلسوء مذهبه ورداءة دينه وما أراد أن يأخذ بعبادة الأصنام ، ظفر به ملك [ ص: 238 ] الفرس فقتله ، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة .

وذكر أسقف " قيسارية " أنه كان جالسا في محرابه وحذاؤه لوح فيه صورة " ماري مركورس " الشاهد ، فنظر إلى اللوح فلم ير فيه صورة الشاهد ، فعجب من ذلك إذ غابت فلم يكن إلا ساعة حتى عادت صورة الشاهد إلى اللوح ، وفي طرف الحربة المصورة التي في يد الشاهد شبيه بالدم ، فتعجب من ذلك وبقي متحيرا حتى بلغه أن الملك الكافر قتل في الحرب .

فعلم أن " ماري مركوس " الشاهد قتله ; لشدة بغضه الذي كان للنصارى ، وما كان عزم عليه من عبادة الأصنام .

وذكر بعد هذا جماعة من البتاركة والأساقفة ، كان بعضهم أريوسيا وبعضهم منانيا وبعضهم ملكيا ، وذكر فتنا بينهم وتعصب كل طائفة لبتركها حتى يقتل بعضهم بعضا وينفي بعضهم بعضا .

وذكر أنه اختلفت آراء النصارى وكثرت مقالاتهم وغلبت عليهم مقالة " أريوس " ، وأنهم ملكوا عليهم ملكا اسمه " تذوس " ، وأن [ ص: 239 ] الوزراء والقواد اجتمعوا إليه ، ذاكرين أن مقالات الناس اختلفت وفسدت وغلبت عليهم مقالة " أريوس " و " مقدينوس " فينظر الملك في هذا ويذب عن النصرانية ويوضح الأمانة المستقيمة .

وكتب إلى بطرك إسكندرية وأنطاكية ورومية وأسقف بيت المقدس فحضروا مع أساقفتهم بقسطنطينية ، إلا بطرك رومية ، فإنه كتب وأنفذ بالأمانة المستقيمة .

فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفا ، وكان المقدم البطاركة الثلاثة ، فدفع الملك إليهم كتاب بطرك رومية ، فكان صحيحا موافقا ، وكان يزعم أن روح القدس إله ، ولكن مخلوق مصنوع .

فقال بطرك الإسكندرية : ليس روح القدس عندي معنى غير [ ص: 240 ] حياته ، فإذا قلنا : إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة ، وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي ، وإذا زعمنا أنه غير حي ، فقد كفرنا ، ومن كفر وجب عليه اللعن .

فاتفقوا على لعن " مقدونيوس " فلعنوه وأشياعه ، ولعنوا البطاركة الذين كانوا بعده يقولون بقوله ، ولعنوا أسقف لونية وأشياعه ، ولعنوا " بوليناريوس " وأشياعه ، لأنه كان يقول : إن الأب والابن وجه واحد .

ولعنوا " بوليناريوس " وأشياعه ، لأنه كان يقول : إن جسد سيدنا المسيح بغير فعل .

وثبتوا أن روح القدس خالقة غير مخلوقة إله حق ، وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة واحدة .

وزاد في الأمانة التي وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا في مدينة " نيقية " : ( وبروح القدس المحيي المميت المنبثق من الأب ) .

[ ص: 241 ] وثبتوا أن الأب وحده والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص في وحدانية واحدة وكيان واحد ، وثلاثة أقانيم إله واحد جوهر واحد طبيعة واحدة .

وثبتوا أن جسد سيدنا المسيح بنفس ناطقة عقلية .

قال : فمن المجمع الأول إلى هذا المجمع الثاني ثمان وخمسون سنة .

قال : وأطلق بطرك الإسكندرية للبطاركة والأساقفة والرهبان أكل اللحم من أجل المنانية ليعرف المناني منهم ، لأن المنانية لا يرون أكل اللحم ولا شيئا من الحيوان البتة .

وكان أكثر أساقفة مصر منانية ، فأكل بطاركة مصر وأسقفهم اللحم .

وأما بطاركة رومية وقسطنطينية وأساقفتها ورهبانها ، فلم يأكلوا اللحم وأكلوا بدل اللحم السمك ، وأقاموه مقام اللحم إذ كان حيوانا .

قال سعيد بن البطريق : لم يطلق أكل اللحم على أنهم يعتاضون منه بالسمك ، إذ ليس بذبيحة ، ويمنعون أكل اللحم إذ كان قد أخطأ الذين أقاموا السمك مقام اللحم ، وسيدنا المسيح فقد أكل [ ص: 242 ] اللحم ، فوجب ضرورة أكل اللحم اقتداء بالسيد المسيح ، ولو يوما واحدا في السنة ، ليزيلوا الشك من مذهب المنانية .

قال : وفي " الأبركسس " مكتوبا ، ما نظره " بطرس " السليح بـ " يافا " من تنزل السبنية ، وفيها كل ذي أربع قوائم ، ولهذا الحكم كل من لم يأكل اللحم مخالف لشريعة النصرانية ، ومضاهاة لمذهب الصابئة الروم ، وهم لا يغتسلون إلى اليوم ، لأن المنانية لا يرون الغسل بالماء ، فلما طال بهم الزمان أقاموه على هذه السنة .

وقال قوم : إنما تركوا الغسل بالماء ، لشدة برد بلادهم وبرد الماء عندهم ، وأنه لا يتهيأ لهم بالجملة أن يقربوا الماء في الشتاء ; لثلجه وبرده ، فصار سنة جارية شتاء وصيفا .

والمنانية صنفان : السماعون ، والصديقون .

فالسماعون : يصومون في كل شهر أياما معلومة .

والصديقون : يصومون الدهر كله ولا يأكلون إلا ما نبت من الأرض .

[ ص: 243 ] فلما تنصروا خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيعلم بهم ، فجعلوا لأنفسهم صياما ، فصاموا الميلاد والحواريين .

فلما طال بهم الزمان وتربوا في هذا الصوم أكلوا اللحم ، فتبعتهم في ذلك النساطرة واليعاقبة والمارونية ، وصارت سنة استحسنتها الملكية ، فتبعوهم وخاصة المقيمون ببلاد الإسلام .

وأما الروم : فما تركوا أكل اللحم في أيام صوم الميلاد وصوم الحواريين ، وتلك الأيام التي يظن أنها من جملة الصوم الكبير .

فمن أحب أن يصوم الميلاد والحواريين والسيدة ولا يأكل لحما ، فليس بواجب وليس لأحد قطع اللحم طول السنة إلا في صوم الأربعين المقدسة فقط ، ومن فعل بضد ذلك مخالف راجع إلى أصحاب الآراء المختلفة .

قال : وفي ثمان سنين من ملك " ثذوس " ظهرت الفتية الذين كانوا هربوا من " ذاقيوس " الملك واختفوا في الكهف .

[ ص: 244 ] وذلك أن الرعاة على طول الزمان كانوا إذا جازوا بذلك الموضع الذي هو الكهف ، قلعوا الطوب المبني على باب الكهف حتى عاد مفتوحا كالباب .

فلما انتبهت الفتية توهموا أنهم كانوا نياما ليلة واحدة ، فقالوا لصاحبهم الذي كان يذهب يبتاع لهم الطعام : امض واشتر لنا طعاما واستعلم خبر ذاقنوس .

فلما خرج إلى باب الكهف ، نظر إلى البنيان والهدم ثم مضى حتى بلغ باب المدينة وهي " أفسس " فرأى باب المدينة عليه صليب كبير منصوب ، فأنكر ذلك في نفسه وقال : أحسب أني نائم ، فأقبل يمسح عينيه وينظر يمينا وشمالا هل يرى من يعرفه ، فلم ير ، فبقي متحيرا وقال : لعلي أخطأت الطريق ، ولعل هذه مدينة أخرى .

ثم دخل المدينة فدفع دراهم مما كان معه عليها صورة " ذاقيوس " الملك فأنكر عليه ، وقالوا : لعله أصاب كنزا ، ثم قالوا : من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلناك ، فلم يكلمهم .

وصاح الناس ، فاجتمع إليه خلق كثير وكلموه ، فلم يكلمهم ، فصاروا به إلى بطريق المدينة وكلمه فلم يتكلم ، فهدده فلم يتكلم ، فجاء إلى أسقف المدينة فكلمه وخوفه وقال : إنك إن لم تكلمني وتقل لي من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلتك .

[ ص: 245 ] وإنما كان يمتنع من الكلام خوفا من " ذاقيوس " الملك .

فقالوا له : إنه قد مات ، وملك بعده جماعة ملوك ، فضربوه حتى آلمه الضرب فخبرهم بحاله على جليتها .

فقالوا له : إن " دقيانوس " قد مات وملك بعده ملوك كثيرة ، والملك اليوم " ثذوس " الكبير ، وقد ظهر دين النصرانية .

ثم سار معهم إلى الكهف فنظروا إلى أصحابه والصندوق النحاس الذي في الصحيفة الرصاص مكتوب فيها قصتهم وخبرهم .

فكثر تعجبهم ، وكتبوا إلى الملك يعلمونه بخبرهم ، فركب وسار إلى مدينة " أفسس " فنظر إليهم وكلمهم .

وبعد ثلاثة أيام دخل إليهم فوجدهم أمواتا ، فأمر أن يتركوا في الكهف ولا يخرجوا ، ولكن يدفنوا فيه وتبنى عليهم كنيسة ، وتسمى بأسمائهم ، ويعيد لها عيد في كل سنة في ذلك اليوم ، وانصرف إلى قسطنطينية .

قال : فمن وقت هرب الفتية من " ذاقيوس " إلى الكهف إلى الوقت الذي ظهروا فيه وماتوا ، مائة وسبع أو تسع وأربعون سنة .

قلت : هذا مما أخطأ فيه فإن الله تعالى أخبر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا .

[ ص: 246 ] لكن بعض المفسرين زعموا أن هذا قول بعض أهل الكتاب لقوله : ( الله أعلم بما لبثوا ) وليس كذلك ، فإن الله لم يذكر هذا عن أهل الكتاب ، بل ذكره كلاما منه تعالى .

قال سعيد : وفي زمنه كانت قصة بترك قسطنطينية " يوحنا " الملقب بـ " فم الذهب " وتولى بعده ابنه " ثذوس " الصغير اثنين وأربعين سنة لإحدى عشرة سنة من ملك " يزدجرد بن بهرام " .

وفي زمنه جعل " نسطورس " الذي تنسب إليه مقالة النسطورية بطركا على قسطنطينية .

قال : وكان " نسطورس " يقول : إن مريم العذراء ليست بوالدة إلها على الحقيقة ، ولذلك كان اثنان .

أحدهما : الذي هو إله مولود من الأب ، والآخر : الذي هو إنسان مولود من مريم ، وأن هذا الإنسان الذي يقول : إنه مسيح بالمحبة متوحد مع ابن إله ، ويقال له : إله وابن إله ، ليس بالحقيقة ، ولكن موهبة ، واتفاق الاسمين والكرامة شبيها بأحد الأنبياء .

فبلغ قوله بطرك الإسكندرية فأنكر ذلك وكتب إليه يقبح عليه [ ص: 247 ] فعله ومقالته ويعرفه فساد ما هو عليه ويسأله الرجوع إلى الحق ، فجرت بينهما رسائل كثيرة ، ولم يرجع " نسطورس " عن مقالته .

فكتب إلى بطرك أنطاكية يسأله أن يكتب إلى " نسطورس " ويعرفه قبح فعله ورأيه وفساد مقالته ويسأله الرجوع إلى الحق .

فكتب إلى " نسطورس " إن هو لم يرجع اجتمعوا والعنوه ، وجرت بينهما رسائل كثيرة فلم يرجع .

فكتبوا إلى بطرك رومية وأنطاكية وبطرك بيت المقدس أن يجتمعوا في مدينة " أفسس " لينظروا في مقالة " نسطورس " .

فاجتمع بالمدينة مائتا أسقف مقدمهم بطرك الإسكندرية ، وتأخر بطرك أنطاكية فلم ينتظروه وبعثوا إلى " نسطورس " فلم يحضر معهم ، فنظروا في مقالته وأوجبوا عليه اللعن ، فلعنوه ونفوه وثبتوا أن مريم العذراء والدة الإله ، وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحدة في الأقنوم .

وهذا هو خلاف المحبة ، لأن " نسطورس " كان يقول : إن التحيد ( أي الاتحاد ) : اتفاق الوجهين ، وأما التحيد ( أي الاتحاد المستقيم ) : فإنما هو أن يكون أقنوما واحدا من طبيعتين .

فلما لعنوا " نسطورس " قدم " يوحنا " بطرك أنطاكية ، فلما وجدهم قد لعنوه قبل حضوره ، غضب وقال : ظلمتم " نسطورس " ولعنتموه باطلا ، [ ص: 248 ] وتعصب مع " نسطورس " فجمع الأساقفة الذين قدموا معه ، فقطع بطرك إسكندرية وقطع أسقف " أفسس " .

فلما رأى أصحاب بطرك إسكندرية قبح فعاله وقع بينهم شر عظيم ، وخرجوا من " أفسس " وصار أصحاب بطرك إسكندرية والمشرقيون حزبين ، فلم يزل " ثذوس " الملك حتى أصلح بينهم .

وكتب المشرقيون صحيفة وثبتوا فيها الأمانة الصحيحة ، وقالوا فيها : إن مريم العذراء القديسة ولدت إلها ربنا يسوع المسيح ، الذي هو مع أبيه في الطبيعة ، ومع الناس في الناسوت ، وأقروا بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد ، ولعنوا " نسطورس " ووجهوا بالصحيفة إلى بطرك إسكندرية ، فقبل الصحيفة وأجابهم عنها بموافقتهم على ذلك .

وقال قوم : لما قبل صحيفة المشرقيين بدا له ، ولم يقبل طبيعتين ووجها واحدا .

قال سعيد بن البطريق : وهم في ذلك كاذبون ; لأن كتبه تنطق بذلك .

ثم أرسل نسخة صحيفة المشرقيين إلى جماعة من الأساقفة يعلمهم أن المشرقيين رجعوا إلى الإيمان ، وأنهم غير موافقين لنسطورس .

قال : فمن المجمع الثاني إلى المائة والخمسين أسقفا المجتمعين بمدينة قسطنطين ، ولعنوا " مقدونيوس " إلى هذا المجمع المائتين أسقفا المجتمعين بأفسس على " نسطورس " - إحدى وخمسون سنة .

[ ص: 249 ] قال : ولما نفي " نسطورس " صار إلى مصر فأقام بضيعة في صعيد مصر يقال لها : " إخميم " ومات ودفن بها .

وكانت مقالته قد اندرست ، فأحياها من بعده بزمن طويل " مطران نصيبين " في عصر بوسيطيانوس ملك الروم و قباد بن فيروز ملك الفرس ، فبثها بالمشرق ، فلذلك كثر النسطورية بالمشرق وخاصة أرض فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة .

قال سعيد بن البطريق : رأيت أن أرد على النسطورية في هذا الموضع وأبين بطلان قولهم وفساده ; لأن النسطورية في عصرنا هذا خالفوا قول " نسطور " القديم ، وزعموا أن " نسطور " كان يقول : إن المسيح جوهران وأقنومان ، إله تام بأقنومه وجوهره ، وإنسان تام بأقنومه وجوهره .

وإن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ; لأن الأب عندهم ولد إلها ولم يلد إنسانا ، ومريم ولدت إنسانا ولم تلد إلها .

[ ص: 250 ] فيقال لهم : إن كان الأمر على ما تقولون ، فالمسيح مسيحان وابنان ، فمسيح إله وابن إله ، ومسيح إنسان وابن إنسان ; لأنه لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده .

فإن كانت ولدته ، فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا .

فإن كان جسمانيا ، فهو غير الذي ولده الأب ، وذلك يوجب أن يكون مسيحان .

وإن كان روحانيا ، فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد .

والدليل على ذلك صفيحة الحديد التي تتحد بها النار فإنها سيف واحد تحرق وتمنع وتقطع وتضيء .

ولا يجوز أن يكون من الجهة الحديدية هي المحرقة المضيئة من غير جهة النار ، إذ كان ما لم يكن فيه نار من الحديد غير محرق .

ولا الجهة النارية هي القاطعة المانعة ، إذ كان شأن النار الإضاءة والإحراق لا القطع .

فقد ثبت بهذا وصح ما تعتقده الملكية من أن المسيح أقنوم واحد ، وبان زيف قول النسطورية : إن المسيح أقنومان .

[ ص: 251 ] قلت : يقال لهذا : إن قول النسطورية والملكية ، وإن كانا باطلين فقول الملكية أشد بطلانا وأعظم كفرا وتناقضا ، وما ذكره هذا باطل .

أما قوله : لو كان الأمر على ما تقولون ، فالمسيح مسيحان .

فيقال له : هذا إنما يلزم أن لو كان اللاهوت بمجرده يسمى مسيحا ، فإن النسطورية وافقوهم على باطل ، وهو أن الرب ولد إلها ، وهذا باطل ، ولم يقل أحد قط من الأنبياء لا في الإنجيل ولا غيره : إن صفة الله القائمة به مولودة ، ولا أن الرب له مولود قديم أزلي .

ولكن إذا قدر أن الأمر كذلك ، فصفة الله لم يسمها أحد مسيحا .

فإذا قدر أن اللاهوت والناسوت جوهران أقنومان لا اتحاد بينهما ، لم يلزم أن يكون اللاهوت مسيحا ، ولا هناك مسيح هو إله ، ولا مسيح هو ابن إله .

وقد تقدم عن " نسطور " أنه كان يقول : إن هذا الإنسان الذي نقول : إنه مسيح متوحد بالمحبة مع ابن إله ، ويقال له إله وابن إله ، ليس بالحقيقة ، ولكن موهبه .

فقد صرح بأن المسيح هو الإنسان فقط دون اللاهوت ، وأن [ ص: 252 ] المسيح ليس بإله ولا ابن إله في الحقيقة .

فبطل ما ألزمه إياه ، من أنه يلزم أن يكون هنا مسيحان .

وأما قوله : لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده .

فيقال : بل ولدت المسيح ، وهو الإنسان وهو غير اللاهوت الذي تزعمون أن الأب ولده ، وليس في ذلك مسيحان ، بل مسيح واحد إنسان مخلوق .

وأيضا فقوله : فإن كان ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا ، فإن كان روحانيا ، فالمسيح ابن واحد ، أقنوم واحد ، مسيح واحد - تقسيم باطل وحجة فاسدة داحضة .

فإن مريم لم تلد ولادة روحانية ، بل خرج الولد من فرجها كما تخرج أولاد النساء من فروجهن ، سواء كانت عذرتها باقية أو لم تكن .

وأما ما ذكره من التمثيل بصفيحة الحديد ، فلو قدر أنه مثل مطابق لم يدل على صحة قولهم ، بل غايته أنه يدل على إمكانه .

فأين الدليل على أن هذا هو الواقع ؟ فليس فيه ما يدل على صحة قول الملكية وفساد قول خصومهم ، فكيف وهو تمثيل غير مطابق ؟

فإن الحديد إذا اتحدت به النار كان الحديد قد استحال عن صفته فلم يبق حديدا محضا ، وليست نارا محضا ، والخشب [ ص: 253 ] وغيره إذا أحرق وصار نارا ، فليس هو خشبا محضا وليس هو نارا محضة بسيطة .

فمن شأن الشيئين إذا اتحدا ، أن يستحيل كل منها إلى جوهر ثالث وطبيعة ثالثة ليست هذا ولا هذا ، كالماء واللبن إذا اتحدا فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا وطبيعة ثالثة لا لبنا محضا ولا ماء محضا ، وكذلك النار مع الحديد أو الخشب أو غير ذلك ، فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا ليس حديدا محضا ولا خشبا محضا ولا نارا محضة ، لكن الحديد إذا برد هو حديد ، لكنه تغيرت حقيقته ، فالنار تلينه وتذهب خبثه ولا يبقى بعد اتحاده بالنار كما كان قبل ، والخشب يصير فحما وهو جوهر ثالث ، إذ كان من طبع النار أنها تؤثر في كل جسد بحسبه ، فتؤثر في الحديد بحسبه ، وفي الخشب بحسبه .

وكل شيئين اتحدا فإنهما يصيران جوهرا ثالثا وأقنوما ثالثا وطبيعة ثالثة .

فإن كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا - كما زعموا - فقد استحالت صفة اللاهوت واستحالت صفة الناسوت ، فلم يبق اللاهوت لاهوتا ولا الناسوت ناسوتا ، بل صارا جوهرا ثالثا لا لاهوتا ولا ناسوتا ، وهم ينكرون هذا القول ، وهو باطل .

فإن رب العالمين لا يتبدل ولا تستحيل صفاته بصفات [ ص: 254 ] المحدثات ، ولا ينقلب القديم ولا شيء من صفاته محدثا ، ولا يستحيل القديم الرب الخالق والمخلوق المحدث إلى شيء ثالث .

بل صفات الرب التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها لا تتبدل ولا تنقلب ولا تستحيل ، فضلا عن أن تستحيل إلى أمر ثالث .

ثم هذا الثالث ، إن كان قديما خالقا ، صار هنا خالقين قديمين .

وإن كان مخلوقا محدثا ، كان الخالق قد صار مخلوقا محدثا ، ومعلوم أن استحالة الخالق إلى خالق آخر أو إلى مخلوق ، ممتنع ظاهر الامتناع .

ومما يوضح هذا ، أن ما مثلوا به من الحديدة المحماة بالنار ، هي جوهر ثالث يجري على نارها ما يجري على حديدها ، فإذا طرقت ، فالتطريق واقع على نارها كما هو واقع على حديدها ، وكذلك إذا مدت ، وكذلك إذا بصق عليها ، وكذلك إذا ألقيت في الماء .

فإن كان هذا التمثيل مطابقا ، لزم أن يكون ما حل بالناسوت قد حل باللاهوت .

فيكون رب العالمين هو الذي يأكل ويشرب ويبول ويتغوط ، وهو الذي صفع عندهم ، وبصق في وجهه ، وجعل الشوك على رأسه ، وضرب بالسياط ، وصلب ومات وتألم ، كما يحكى مثل هذا عن اليعقوبية .

وهذا لازم لكل من قال بالاتحاد ، حتى النسطورية إن قالوا : إنهما [ ص: 255 ] متحدان بالمشيئة بمعنى أن مشيئة هذا عين مشيئة هذا .

بخلاف ما إذا قالوا : إن مشيئته موافقة لمشيئته ، ليست إياها ، ولهذا قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون . فذكر سبحانه وتعالى : أنهما كانا يأكلان الطعام ; لأن ذلك من أظهر الأدلة على أنهما مخلوقان مربوبان ، إذ الخالق أحد صمد لا يأكل ولا يشرب .

وذكر مريم مع المسيح ; لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر فعبدها كما عبد المسيح .

والذين لا يقولون بهذا - كثير منهم يطلب منها كل ما يطلب [ ص: 256 ] من الله حتى يقول لها : اغفري لي وارحميني ، وغير ذلك ، بناء على أنها تشفع في ذلك إلى ابنها .

فتارة يقولون : يا والدة الإله ، اشفعي لنا إلى الإله ، وتارة يسألونها الحوائج التي تطلب من الله ولا يذكرون شفاعة ، وآخرون يعبدونها كما يعبدون المسيح .

وقد ذكر سعيد بن البطريق هذا عنهم ، لما ذكر اجتماعهم عند " قسطنطين " بـ " نيقية " .

قال : وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان .

فمنهم من يقول : المسيح وأمه إلهان من دون الله ، وهم المريمانيون ويسمون المريمانية ، كذلك قال ابن حزم ، وقد قال تعالى : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد . وهو - سبحانه - لم يحك هذا عن جميع النصارى ، بل سأل [ ص: 257 ] المسيح سؤالا يقرع به من اتخذه وأمه إلهين من دون الله .

قال ابن البطريق : ويقال للنسطورية أيضا : أخبرونا عن الناسوت التي اتحدت بها اللاهوت وسمي مسيحا ، هل لم يزل مسيحا منذ كان في بطن مريم إلى حين وضعته وأرضعته وشب وصلب وقتل ؟ أم كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ، ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا ؟

فإن قالوا : لم يكن مسيحا وهو في بطن مريم ، وإنما ولدت مريم إنسانا كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ، ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا ، تركوا قولهم وكذبوا الإنجيل وبولص وجميع كتب الكنيسة ، وخرجوا عن مقالة النصرانية .

وإن قالوا : إن اللاهوت اتحد في الناسوت عند الحمل ، وإنه كان مسيحا وهو محمول ومولود ومرضع إلى أن صلب وقتل - قد أقروا أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا ، أقنوما واحدا .

فيقال له : هذا التقسيم يدل على بطلان قول النصارى الذي ابتدعه طوائفهم الثلاثة وغيرهم ، فإن الاتحاد يزعمون أنه كان من حين حملت به مريم ، وأنه كان ينمو قليلا قليلا كنمو جسد المسيح ، [ ص: 258 ] والاتحاد باطل ، كما قد قرر غير مرة ، ولو قدر أنه ممكن لظهر أثر ذلك .

فإن الله لما كلم موسى من الشجرة ، ظهر من الآيات والعظمة ما دل على ذلك . ولذلك كان إذا كلم موسى يظهر آيات ذلك .

وكذلك ما أخبر به في التوراة وغيرها من مصاحبته لبني إسرائيل ، وهو مما ظهر أثره ، وإن لم يكن متحدا ولا حالا في شيء من ذلك .

ولما تجلى من طور سينا وأشرق من " ساعير " واستعلن من جبال " فاران " بما أنزله من كتبه ، ظهر آثار ذلك ، وإن لم تكن ذاته متحدة ولا حالة بفاران ولا طور سينا ، باتفاق الأمم .

فكيف تكون ذاته متحدة بما في بطن مريم ، أو حالة فيه ، ولا يظهر أثر ذلك ؟

وأيضا فيقال له : قد يقول النسطورية له : الناسوت كان مسيحا من حين الحمل ، بمعنى أنه كان طاهرا مقدسا ، لا بمعنى اتحاد اللاهوت به .

وإن قالوا : المسيح اسم اللاهوت والناسوت جميعا . فيقال : ليس في كتب الأنبياء ما يقتضي هذا ، والنسطورية يسلمون ذلك ، لكن قد يقولون : إن المسيح اسم لهما كما أن الإنسان اسم للروح والجسد .

ثم قد يقال لجسد الإنسان الميت : هذا الإنسان ، فيقال وهو في بطن مريم أمه قبل نفخ الروح فيه : هذا الجنين وهذا الحمل . فكذلك إذا قيل له : مسيح بدون اللاهوت .

وأيضا فقد تقول النساطرة باقتران اللاهوت من حين الحمل ، ولا يلزم أن يكون قد ولدت إلها ، إذ لم يقولوا بالاتحاد ، بل قالوا : هما [ ص: 259 ] جوهران أقنومان ، ولدت أحدهما ولم تلد الآخر ، كما تقول الملكية معهم : إنه صلب أحدهما ولم يصلب الآخر ، ومات أحدهما ولم يمت الآخر ، وتألم أحدهما ولم يتألم الآخر .

فكيف جوز الملكية حين الموت أن يحل الموت والصلب والأكل والشرب وسائر الأمور البشرية بأحد الجوهرين دون الآخر ، ولم يجوزوا - حين الولادة - أن تلد مريم أحد الجوهرين دون الآخر ؟ وهل هذا إلا من تناقضهم ؟ كقولهم جميعا : إنه صعد إلى السماء وقعد عن يمين أبيه مع قولهم : إن اللاهوت مع الناسوت قعد عن يمين الأب .

ويقولون مع ذلك : إن اللاهوت القاعد عن يمين الآخر هو ذلك الآخر ، وهما جوهر واحد ، وإله واحد ، مع قوله : إنه إله حق من إله حق ، فمناقضتهم كثيرة .

ولا ريب أن قول النسطورية أيضا متناقض ، لكن لا يمكن أن نصحح قول الملكية دون قولهم ، بل قول الملكية أعظم فسادا وتناقضا .

فالنسطورية يقولون : الإله لم يولد ولم يصلب .

واليعقوبية يقولون : ولد وصلب .

والملكية يقولون : ولد ولم يصلب .

ومتى جاز أن يولد ، جاز أن يموت ويصلب ، وإن لم يجز أن يصلب ويموت ، لم يجز أن يولد .

[ ص: 260 ] فتجويز أحدهما ومنع الآخر تناقض .

ويقال للملكية : أنتم تقولون : إن اللاهوت اتحد بالناسوت عند الحمل ، وكان مسيحا وهو مصفوع ومصلوب وميت ومتألم . وتقولون : هذا كان بالناسوت دون اللاهوت ، فهذا التناقض من جنس تناقض النساطرة .

قال ابن البطريق : ويقال للنساطرة أيضا : متى اتحدت الكلمة بالإنسان ؟ أقبل الولادة ، أم في حال الولادة ؟

فإن قالوا : قبل الولادة ، قلنا لهم : قبل الولادة ، قبل الحمل ؟ أو قبل الولادة وهو حمل ؟

فإن قالوا : قبل الولادة وقبل الحمل ، فقد زعموا أنه اتحد قبل أن يكون إنسانا وقبل أن يصور . فإن كان ذلك كذلك ، فسد قول النسطورية : إن القديم اتحد بإنسان جزئي ; لأن الإنسان الجزئي إنما كان إنسانا جزئيا ، لما صار مصورا بشريا .

فيقال له : هذا السؤال لازم للطوائف الثلاثة ، فإنهم يقولون بالاتحاد أعظم من النساطرة .

فإن قيل : هم يقولون : إنه اتحد بإنسان كلي ، كان هذا من أفسد الأقاويل ، فإن المسيح بشر معين جزئي ، يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، لم يكن إنسانا كليا .

[ ص: 261 ] ثم قال : ويلزمهم أن يزعموا أن اللاهوت قد كان حل مع الناسوت تسعة أشهر ونحوها من بدء الحمل مقيما معه في الموضع الذي يحمل فيه الجنين ، ثم ولدا معا ، وهذا خلاف قولهم : إن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته .

فيقال : قد يقولون : إنه ولد الناسوت دون اللاهوت ، كما يقول الملكية : إنه صلب الناسوت دون اللاهوت .

وإن كان هذا متناقضا ، فالنساطرة أقل تناقضا ; لأن الملكية يقولون : إنهما شخص واحد ، أقنوم واحد ، فقد اتحد أحدهما بالآخر .

فإذا جاز مع هذا أن يفارق أحدهما الآخر في الأكل والشرب والصلب والموت ، فمن قال : إنهما جوهران أقنومان ، هو أولى أن يقول ولدت أحدهما دون الآخر .

ثم قال : وإن قالوا : اتحد به وهو حمل صورة تامة .

قلنا لهم : فقد كان الإله حملا قبل الولادة ، وإذا جاز أن يحمل ، جاز أن يولد .

فيقال : هم لا يقولون بأنهما صارا شخصا واحدا ، أقنوما واحدا ، بل يقولون : جوهران أقنومان ، وحينئذ فلا يقولون : حملت بإله ، [ ص: 262 ] ولا ولدت إلها ، كما لا يقول الملكية : صلب اللاهوت ومات اللاهوت ، مع قولهم بأن اللاهوت والناسوت اتحدا .

قال : فإن قالوا : كان الاتحاد في حال الولادة .

قلنا : فقد ولدت مريم الكلمة إذا مع الإنسان ، والكلمة عندنا وعندهم إله ، فقد ولدت مريم إلها .

فإن قالوا : نعم . قلنا : فإذا جاز أن يولد ، فلم لا يجوز أن يكون حملا ؟ فإذا أجازوا ذلك ، تركوا قولهم ، وإن لم يجيزوه ، قلنا : فما الفرق بين أن يكون مولودا وبين أن يكون محمولا ؟ فإن قالوا : ليس الإله مولودا ، ولم يكن الاتحاد قبل الولادة ، وهو أن يكون محمولا ، ولا في حال كونه ولدا في حال الولادة .

قلنا : فهذا نقض قولكم : إن مريم ولدت المسيح ; لأن المسيح - عندكم - ليس هو الإنسان وحده ، ومريم - عندكم - إنما ولدت الإنسان وحده .

وإذا كان المسيح ليس هو الإنسان وحده ، وعندكم إنما ولدت الإنسان وحده قبل الاتحاد ، فإنما ولدت إذا ما ليس بمسيح ، إذ كان إنما كان مسيحا بالاتحاد ، وكان الاتحاد بعد الولادة ، فإنما كان مسيحا بعد الولادة .

فإذا كان هذا - عندكم - فاسدا ، وكانت مريم ولدت المسيح ، فمريم لم تلد الإنسان وحده ، وهذا يوجب أنها قد ولدت الإله مع الإنسان ، ويوجب أن الاتحاد كان قبل الولادة .

[ ص: 263 ] قال : فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية من أن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وصح أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا .

قال : ويقال لهم : إذا زعمتم أن المسيح جوهران ، جوهر قديم وجوهر محدث ، ثم زعمتم أن مريم ولدت المسيح ، فقد أقررتم أن مريم ولدت هذين الجوهرين اللذين هما المسيح ، وإذا ولدتهما وأحدهما إله ، فقد ولدت إلها قديما ، ولا يجوز أن تلد إلا ما كان محمولا ، فهذا يوجب أنها قد كانت حاملة لذلك الإله .

فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية ، أن مريم لم تحمل إلها ولم تلده ، وصح ما تعتقده الملكية أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا وابنا واحدا ، أقنوما واحدا .

فيقال له : ليس هذا التناقض من النسطورية بأعظم من تناقض الملكية فإنهم - مع قولهم باتحاد اللاهوت والناسوت ، وأنهما شخص واحد - يقولون : إن أحدهما كان يأكل ويشرب ويصوم ويصلي ويتصرف ، وأنه أخذ وصفع ووضع الشوك على رأسه وصلب وتألم ومات دون الآخر .

فإذا كان قول النسطورية متناقضا ، فقول الملكية أعظم تناقضا ، فإذا منعوا أن تحمل المرأة وتلد الناسوت دون اللاهوت لأجل الاتحاد الذي بينهما ، وجب أن يمنعوا أن يأكل ويشرب ويصلب ويقتل أحدهما [ ص: 264 ] دون الآخر لأجل الاتحاد بطريق الأولى .

وكون الصلب والقتل أعظم منافاة للربوبية من حمل مريم به وولادته إياه ، لا يمنع كون كل ذلك ممتنعا على الله .

ومن جوز عقله أن يكون رب العالمين خرج من فرج مريم وهي بكر ، فقد جعل رب العالمين يخرج من ثقب صغير ، وهذا أعظم ما يكون من الامتناع .

ومن جوز عليه هذا ، جوز عليه أن يخرج من كل ثقب مثل ذلك الثقب وأكبر منه ، وجوز أن يخرج رب العالمين من فم كل حيوان وفرجه ، ومن شقوق الأبواب وغير ذلك من الثقوب .

وإن قالوا : ذاك مكان طاهر . قيل : أفواه الأنبياء والصالحين أطهر من كل فرج في العالم ، فيجوز أن يخرج من فم كل نبي وولي لله ، ومن أذنه ومن أنفه ، فإن هذه الخروق والثقوب أفضل من فروج النساء ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

فهؤلاء النصارى يقولون : إن كون الله مولودا من فرج مريم ، غير كونه مولودا في الأزل من الأب ، بل هما ولادتان روحانية وجسمانية .

وهم إذا طولبوا بتفهيم ما يقولونه ، وقيل لهم : هذا لا يتصور ؛ أن يكون رب العالمين يخرج من ثقب ضيق ، لا فرج ولا فم ولا أذن ولا غير ذلك من الأثقاب . قالوا : هذا فوق العقل ، واعترفوا بأن هذا لا يتصوره العقل .

فيقال لهم : هذا الكلام لم يقله نبي من الأنبياء ، ولم ينطق به نبي من الأنبياء بأن مريم حملت برب العالمين وولدته ، بل ولا نطق [ ص: 265 ] نبي من الأنبياء بأن الله مولود ولا شيء من صفاته مولود ، لا علمه ولا حياته ولا غير ذلك .

ولا نطق نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره بأن الله اتحد بشيء من المخلوقات .

وليس في الإنجيل وغيره مما ينقل عن الأنبياء شيء من ذلك ، بل غاية ما فيها كلمات مجملة متشابهة ، كقوله : ( أنا وأبي واحد ) كما قال الله لمحمد : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله فإذا قال بعض ملاحدة المسلمين من الشيعة أو المتصوفة [ ص: 266 ] أو غيرهم : إن الله اتحد بمحمد ; لقوله : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله كان هذا من جنس قول النصارى .

والآية لم تدل على ذلك ، بل مبايعة الرسول مبايعة لله ; لأن الرسول أمر بما أمر الله ، ونهى عما نهى الله عنه .

فليس في كلام الأنبياء أن الله ولا شيئا من صفاته مولود الولادة التي يسمونها ولادة عقلية وروحانية ، ولا في كتبهم أن شيئا من صفات الله تسمى ابنا لله ، ولا أن اللاهوت ابن الله ، فضلا عن أن ينطقوا بأن الله مولود من امرأة ولادة ، وخرج من فرجها ، فيكون مولودا ولادة جسمانية .

ولهذا لما تنازعت النصارى في ذلك ، لم يكن لمن ادعاه على من نفاه حجة من نصوص الأنبياء ، غاية ما عندهم التمسك بألفاظ متشابهة وتغيير ألفاظ صريحة محكمة ، تبين أن المولود إنما هو بشر .

فإذا قالوا في الألفاظ المتشابهة : لا نعلم مراد الرسول بها ، كان هذا مما قد يعذرون به ، فإن المتشابه من النصوص لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم .

فإذا قالوا : لسنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله [ ص: 267 ] - كانوا شاهدين على أنفسهم بعدم العلم ، وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة .

بخلاف القول الذي تكلموا به هم ، وزعموا أن معناه يدل عليه كلام الأنبياء أو يدل عليه العقل ، فإن عليهم أن يبينوا معناه الذي عنوه به ، وعليهم أن يبينوا أنه قد دل على ذلك شرع أو عقل .

فإذا قالوا : نفس الكلام الذي قلناه لا نتصور معناه ، كانوا معترفين أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون ، وهذا حرام عليهم .

وإن قالوا : إن كلام الأنبياء دل على ذلك ، كان غاية ما عندهم التمسك بالمتشابه ، وحينئذ فيطالبون بتفسير المتشابه ، والجمع بينه وبين المحكم على وجه صحيح معلوم ، وإلا فإذا قالوا : هذا فوق العقل لا نفهمه ، قيل لهم : فدعوا المتشابه لا تحتجوا به ، ولا تذكروا له معنى تزعمون أنكم لا تعقلونه .

فمتى ثبت عن الأنبياء قول وقال قوم : إنا لا نفهمه - فإنهم يصدقون على أنفسهم .

وأما إذا فسروا كلام الأنبياء بقول عبروا به على مراد الأنبياء وقالوا : هذا مرادهم مع تعبيرهم عنه بعبارات أخرى - طولبوا بأن يبينوا ذلك المعنى ، وقيل لهم : إن فهمتم ما قلتموه فبينوه ، وإن لم تفهموه فلا تتكلموا بلا علم .

[ ص: 268 ] قال سعيد بن البطريق : إن أئمة الضلالة - أعني " نسطوريوس " و " أرطيوس " و " ديسقورس " و " سورس " و " يعقوب البرادعي " وأشياعهم - الذين أرادوا أن يقيموا الزيف والمحال ، ولم يرجعوا إلى خشية الله ، وزاغوا عن سبيل الحق لسوء رأيهم ، فقد تورطوا في بحر الضلالة .

وهم - جميعا - فيما ارتطموا فيه من ضلالتهم يضمرون جهلا منهم باتحاد لاهوت سيدنا المسيح بناسوته ، ويتورط كل واحد منهم في وجه من وجوه الخلطة ، ويتمسك به .

فقد رأيت أن أوضح وجه الخلطة ، وأبين ذلك ; لتقف على فساد قولهم : إن من عظيم تدبير الله وكمال عدله وجليل رحمته ، أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء ، وهي التي من جوهره ليست مخلوقة ، ولكن مولودة منه قبل كل الدهور ، ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ، ولا كانت الكلمة برية منه قط ، ولا من روحه الخالقة ، ولا من جوهره ، فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت ، الذي لم يزل ولا يزال ، فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة [ ص: 269 ] مختارة من نسل داود ، اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين ، وطهرها بروح القدس ، روحه الجوهرية ، حتى جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها ، فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها ، بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس ، خلقا جديدا من غير نطفة آدمية جرت عليها الخطيئة ، ومن غير مجامعة بشرية ولا انفكاك عذرة تلك الجارية المقدسة ، فهو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية التي من صورة الله في الإنسان وشبهه ، فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم .

واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ، ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه فيما يظهر لأهل الأثقال من غليظ الخلق .

وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية ألطف من لطيف الخلق ، فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله ، فكانت لها حجابا ولمن هو ألطف منها ، وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا .

فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية ، وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها ; لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقوام من كلمة الله الذي خلقها وكونها [ ص: 270 ] لا من شيء ، لا سبق قبل ذلك في بطن مريم ، ولا من شيء كان لها من نطفة ، ولا من غير ذلك ، غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي ، فذلك القوام معدود معروف مع الناس ، لما ضم إليه وخلقه له ؛ التحم به من جوهر الإنسان ، فهو - بتوحيد ذلك القوام الواحد - قوام لكلمة الله الخالقة ، واحد في التثليث بجوهر لاهوته ، واحد في الناس بجوهر ناسوته ، وليس باثنين ، ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق ، وجوهر الناسوت المخلوق ، بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله قبل الأدهار كلها ، وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس .

قلت : فهذا كلام سعيد بن البطريق الذي قرر به دين النصارى ، وفيه من الباطل ما يطول وصفه ، لكن نذكر من ذلك وجوها .

الوجه الأول : قوله : إن من عظيم تدبير الله أن بعث كلمته الخالقة ، التي بها خلق كل شيء من جوهره ، ليست مخلوقة ، ولكن مولودة منه ، فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم ، فالتحمت من مريم العذراء .

فيقال : قد جعلت الكلمة الخالقة ، وقلت - بعد هذا - : ولا كانت الكلمة برية منه ، ولا من روحه الخالقة ، وقلت - بعدها - : [ ص: 271 ] فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق ، خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس جميعا ، خلقا جديدا .

فيقال لهم : أخالق العالم - عندكم - خالق واحد وهو إله واحد ، أم للعالم ثلاثة آلهة خالقون ؟ .

فإن قالوا : إن الخالق واحد ، وهم ثلاثة آلهة خالقون ، كما أنهم في كثير من كلامهم يصرحون بثلاثة آلهة ، وثلاثة خالقين ، ثم يقولون : إله واحد ، وخالق واحد .

فيقال : هذا تناقض ظاهر ، فإما هذا ، وإما هذا .

وإذا قلتم : الخالق واحد ، له ثلاث صفات ، لم ننازعكم في أن الخالق له صفات ، لكن لا يختص بثلاثة .

فإن قالوا بثلاثة آلهة خالقين ، كما قد كثر منهم في كثير من كلامهم ، بان كفرهم وعظم شركهم ، وبان أن شركهم أعظم من كل شرك في العالم ، فغاية المجوس الثنوية - إثبات اثنين ، نور وظلمة ، وهؤلاء يثبتون ثلاثة .

ثم الأدلة السمعية في التوراة والإنجيل والزبور وسائر كلام الأنبياء مع الأدلة العقلية المبينة لكون الخالق واحدا ، كثيرة جدا لا يمكن حصرها هنا .

وإن قالوا : إن الخالق واحد ، له صفات ، قيل لهم : فهذا مناقض لقولكم : إنه بعث كلمته الخالقة ، وقولكم : ( ولا كانت الكلمة برية منه [ ص: 272 ] ولا من روحه الخالقة ) وقولكم : ( فهبطت الكلمة الخالقة ) ، وقولكم : ( فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق ، خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة الروح ) . فهذا يقتضي أن الكلمة خالقة وأن الروح خالقة ، وأنها خلقت بمسرة الأب الخالق ومؤازرة الروح الخالقة ، وهذا الخالق هبط والأب لم يهبط .

فإذا كان الخالق واحدا له صفات ، لم يكن هنا إلا خالق واحد .

الوجه الثاني : قولكم : ( بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء ) ، وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه ، فيقول لها : ( كن فيكون ) ، هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما .

لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه ، ليس كلامة خالقا .

ولا يقول أحد قط : إن كلام الله خلق السماوات والأرض .

والتوراة كلام الله ، والإنجيل كلام الله ، ولا يقول أحد : إن شيئا من ذلك خلق السماوات والأرض ، ولا يقول أحد : يا كلام الله اغفر لي وارحمني .

فقول هؤلاء : إن كلمته هي الخالقة وإنه خلق بها - كلام متناقض .

فإنها إن كانت هي الخالقة ، لم تكن هي المخلوق به ، فالمخلوق به ليس هو الخالق .

الوجه الثالث : أن يقال : قولكم : ( كلمة الله الخالقة ) أهي [ ص: 273 ] كلام الله كله ، أم هي بعض كلام الله ، أم هي المعنى القائم بالذات القديم الأزلي ، الذي يثبته ابن كلاب ، أم حروف وأصوات قديمة أزلية كما يقوله بعض الناس ، أم هي الذات المتكلمة ؟ .

فإن كانت هي الذات المتكلمة ، فهي الأب والرب ، وتكون هي الموصوفة بالحياة ، فلا يكون هناك كلام مولود ، ولا كلمة أرسلت ، ولا غير ذلك مما ذكره ، وهذا خلاف قولهم كلهم ، فإن الكلمة المتحدة بالمسيح ليست هي الأب عندهم .

وإن قالوا : بل هي كلام الله كله .

قيل لهم : فيكون المسيح هو التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله ، وهذا لا يقولونه ، ولم يقله أحد ولا يقوله عاقل .

وإن قالوا : إنها هي المعنى الواحد القديم الأزلي ، أو الحروف والأصوات القديمة الأزلية .

قيل لهم : هذان القولان ، وإن كانا باطلين ، فإن قلتم بهما لزمكم أن يكون المسيح هو كلام الله كله ، فإن هذين - عند من يقول بهما - هما جميع كلام الله .

والتوراة والإنجيل وسائر كلام الله ، عبارة عن ذلك المعنى القائم بذات الله ، وهو الحروف والأصوات القديمة القائمة بالذات عند من يقول بهذين .

[ ص: 274 ] إن قلتم : إن المسيح بعض كلمات الله ، فحينئذ لله كلمات أخر غير المسيح ، فاجعلوا كل كلمة خلقا كما جعلتم الكلمة المتحدة بالمسيح خالقا ، إذ كنتم تقولون : ( الكلمة هي الخالقة وهي المخلوق بها ) ، فقولوا عن سائر كلمات الله إنها خالقة مخلوق بها ، وحينئذ فيتعدد الخالق بتعدد كلمات الله .

وإذا كانت كلمات الله لا نهاية لها ، كان الخلق خالقين لا نهاية لهم ، وهذا غاية الباطل والكفر .

وبالجملة ، أي شيء فسروا به الكلمة تبين به فساد قولهم ، ولكنهم يتكلمون بما لا يفهمونه ، ويقولون الكذب والكفر المتناقض ، وإنما عندهم تقليد من أضلهم ، كما قال تعالى : قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل .

الوجه الرابع : أن يقال لهم : ما لم يعلم بالمعقول ، فليس في المنقول ما يدل عليه ، وأنتم لا تدعون أنكم عرفتموه بالعقل ، لكن بما نقل عن الأنبياء ، وأنتم قد فسرتم كلمته بعلمه وحكمته ، وروح القدس بحياته ، فمن أي نبي تنقلون أن علم الله وحكمته مولودة منه ، وأنه يسمى ابنا ، وأن علمه أو حكمته خلق كل شيء ، وأن حياته خلقت كل شيء ، وأن علمه خالق وإله ورب ، وحياته خالقة وإله ورب ، وليس [ ص: 275 ] في الأنبياء من سمى شيئا من صفات الرب ولدا له ولا ابنا ، ولا ذكر أن الله ولد شيئا من صفاته . فدعواكم أن صفته القديمة الأزلية ولدت مرتين ، مرة ولادة قديمة أزلية ، وولادة حادثة من فرج مريم - كذب معلوم على الأنبياء ، لم يقل أحد منهم : إن الله ولد ، ولا إن شيئا من صفاته ولده ، لا ولادة روحانية ، ولا ولادة جسمانية .

وهذا وإن أبطل قول الملكية ، فهو لقول اليعقوبية أشد إبطالا ، وهو مبطل أيضا لقول النسطورية ، فإنهم يقولون بالأمانة التي فيها أنه مولود قديم أزلي ، فإن طوائفهم الثلاثة متفقون على الأمانة التي ابتدعوها في زمن " قسطنطين " بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من المسيح .

الوجه الخامس : قولكم : بعث كلمته الخالقة فهبطت كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء ، ليست مخلوقة ، ولكن مولودة منه ، ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط .

من قال من الأنبياء : إنه لم يكن بلا روحه قط ، أو إن روحه صفة له قديمة ، أو إنها حياته ؟

وكلام الأنبياء كله ينطق بأن روح الله وروح القدس ونحو ذلك هو ما ينزله على الأنبياء ، كالوحي والتأييد ، أو الملائكة ، فليست روح الله صفة قائمة به ولا غيرها ، ولكنها أمر بائن عنه .

الوجه السادس : أنه إذا كان قد بعث كلمته الخالقة وهبطت والتحمت من مريم ، فهو نفسه رب العالمين هبط والتحم من مريم ، أم [ ص: 276 ] رب العالمين نفسه لم يهبط ولم يلتحم من مريم ، وإنما هبط والتحم الكلمة التي أرسلها ؟

فإن قلتم : هو نفسه هبط والتحم ، كان الأب الوالد للكلمة ، هو الذي هبط والتحم ، وكان الأب هو الكلمة ، وهذا مناقض لأقوالكم .

وإن قلتم : إن المبعوث الهابط الملتحم ليس هو الأب ، بل هو كلمة الرب ، فقد جعلتموه الخالق ، فيكون هناك خالقان ، خالق أرسل فهبط والتحم ، وخالق أرسل ذلك ولم يهبط ولم يلتحم ، وقد أثبتم خالقا ثالثا ، وهو الروح ، وهذا تصريح بثلاثة آلهة خالقين .

الوجه السابع : أنه قال : إن الله بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء فمع كونه جعلها خالقة ، جعل أنه بها خلق كل شيء ، والذي خلق بها كل شيء هو خالق ، فجعلها خالقة ، وجعل خالقا آخر ، وجعل أحد الخالقين قد خلق الآخر به كل شيء ، وجعل هذا الخالق قد بعث ذاك الخالق الذي به خلق كل شيء ، وجعل الكلمة الخالقة احتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا .

وإذا كانت هي الخالقة بمسرة الأب الخالق على الخلق ، فالأب لم يخلقه ، بل سر بذلك ، وروح القدس وازرت ذلك ، والخالق خلق الخلق .

ومعلوم أنه إذا كان للخالق من يوازره على الخلق ، لم يكن مستقلا بالخلق ، بل يكون له فيه شريك .

فهذه الكلمة ، تارة يقولون : هي الخالقة ، وتارة يقولون : خلق بها [ ص: 277 ] الخالق فخلقت ، وتارة يقولون : إن روح القدس وازرها في الخلق ، فهذه أربعة أقوال ينقض بعضها بعضا .

فإن كان الله هو الخالق لكل شيء فالخالق واحد ، فليس هناك خالق آخر ولا شريك له في الخلق .

والخالق إذا خلق الأشياء بقوله : ( كن ) لم يكن كلامه خالقا ، ولو كانت كل كلمة إلها خالقا ، لكان الآلهة الخالقون كثيرين لا نهاية لهم .

ثم قال : ليست بمخلوقة ولكن مولودة منه من قبل كل الدهور .

فيقال : من من الأنبياء سمى شيئا من صفات الله مولودا قديما أزليا ؟ فكيف يكون مولودا قديما أزليا ؟ وهل يعقل مولود إلا محدثا ؟ .

وأيضا فإذا جاز أن تكون الكلمة التي يفسرونها بالعلم أو الحكمة مولودة منه ، فكذلك حياته مولودة منه ، وإن كانت حياته منبثقة منه ، فكلمته منبثقة منه .

فجعل إحدى الصفتين الأزليتين مولودة من الأزل غير منبثقة ، والأخرى ليست مولودة من الأزل ، بل منبثقة - مع كونه باطلا فهو متناقض ، وتفريق بين المتماثلين .

فإنه إن جاز أن يقال للصفة القديمة الأزلية : إنها مولودة منه فالحياة مولودة .

[ ص: 278 ] وإن جاز أن يقال : إنها منبثقة ، فالكلمة منبثقة .

وأيضا فكون الصفة إلها خالقا ، وإثبات ثلاثة آلهة خالقين مع قولهم : إن الخالق واحد - تناقض آخر .

وأيضا فقوله : ( ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ) إن أراد بروحه حياته ، فهذا صحيح ، لكن من من الأنبياء سمى حياة الله روحه ؟ ومن الذي جعل الله روحا قديمة أزلية ؟ وهل هذا إلا افتراء على الأنبياء ؟

وليس لقائل أن يقول : إن هذا نزاع لفظي فلا اعتبار به ; لأن هذا تفسير لكلام الأنبياء ، فهم الذين تكلموا بروح الله وروح القدس ونحو ذلك ، ولم يرد أحد بذلك حياة الله قط .

فتسمية حياة الله روحا ، وتفسير مراد الأنبياء بذلك - افتراء على الله ورسله .

الوجه الثامن : قوله ( فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزول ، فالتحمت من مريم العذراء ، وهي جارية طاهرة ، مختارة من نسل داود ، اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس ، روحه الجوهرية ، التي جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها ، فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا ) .

فيقال : إن الكتب دلت على أن المسيح تجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء البتول ، وهكذا هو في الأمانة التي لهم ، وبهذا أخبر القرآن حيث أخبر في غير موضع ، أنه نفخ في مريم من روحه مع إخباره أنه أرسل إليها روحه .

قال تعالى : [ ص: 279 ] واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .

وقال تعالى : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

وقال تعالى : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

فالكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا .

لكن دعواكم أن روح القدس ، روح الله الجوهرية ; ( أي حياته القديمة الأزلية ) - أمر مخالف لجميع كتب الله وأنبيائه .

فلم يفسر أحد منهم روح القدس بصفة الله ، لا جوهرية ولا غير [ ص: 280 ] جوهرية ، ولا قديمة ولا غير قديمة ، ولا أرادوا بذلك حياة الله .

فقولكم هذا ، تبديل لكلام الله وكلام أنبيائه ورسله ، كما أنكم في قولكم : إن كلمة الله أو علمه أو حياته مولودة منه ، وإن صفته القديمة الأزلية هي ابنه - مما حرفتم فيه كلام الأنبياء ، فلم يرد أحد منهم هذا المعنى بهذا اللفظ قط ، ولم يطلق في جميع الكتب التي عندكم لفظ الابن المولود إلا على محدث مخلوق لا على شيء قديم أزلي ، لا موصوف ولا صفة ولا علم ، ولا كلام ولا حكمة ، ولا غير ذلك .

وكل ولادة في الكتب الإلهية التي عندكم وغيرها ، فهي ولادة حادثة زمانية ، وكل مولود ، فهو محدث مخلوق زماني ، ليس في الكتب ولادة قديمة أزلية ولا مولود قديم أزلي ، كما أنكم ذكرتم ذلك في أمانتكم وغيرها .

فلو كان ما ذكرتموه ممكنا في العقول ، لم يجز أن تجعلوه موجودا واقعا ، وتقولوا : الأنبياء أرادوا ذلك ، إلا أن يكونوا بينوا أن ذلك مرادهم .

فإذا كان كلامهم صريحا في أنهم لم يريدوا ذلك ، والمعقول الصريح يناقض ذلك ، كان ما قلتموه كذبا على الله وعلى أنبيائه ورسله ومسيحه ، وكان باطلا في المعقول ، وكنتم ممن قيل فيه : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ ص: 281 ] ثم يقال : أنتم قلتم : ( إن الكلمة الخالقة هبطت فالتحمت من مريم ، واحتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها ) ، وقلتم : ( إن مريم حملت بالإله الخالق وولدته الذي هو الابن ) .

فإذا جوزتم أن تكون مريم هي أما للخالق الذي هو الابن حملته وولدته - فلم لا يجوز أن تكون زوجة للخالق الذي هو الأب مع أن الخالق التحم من مريم ؟ وقد قلتم : لم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ، ولا كانت الكلمة برية منه قط ، ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره .

فجعلتم الروح خالقة ، والله الذي هو الأب خالقا ، والمسيح قد تجسد من الروح الخالقة ومن مريم ، فكما أن مريم أمه ، فالروح الخالقة بمنزلة أبيه .

وأيضا فمريم لها اتصال بالأب وبروح القدس ، وكلاهما أب للمسيح على ما ذكرتموه .

فإذا كانت مريم متصلة بكل واحد ممن جعلتموه أبا للمسيح ، وقلتم : إن الخالق التحم من مريم ، فهذا أبلغ ما يكون من جعل الخالق زوج مريم .

ومهما فسرتم به اتحاد اللاهوت بناسوت المسيح المخلوق منها ، كان تفسير التحام اللاهوت بناسوت مريم حتى يصير زوجا لمريم أولى وأحرى ، وليس في ذلك نقص ولا عيب إلا وفي كون اللاهوت ابن مريم ، ما هو أبلغ منه في النقص والعيب .

ومعلوم أن أم الإنسان أعلى قدرا عنده من زوجته ، وأن تسلطه [ ص: 282 ] على زوجته أعظم منه على أمه ، فإن الرجل مالك للزوجة ، قوام عليها ، والمرأة أسيرة عند زوجها ، بخلاف أمه .

فإذا جعلتم اللاهوت الخالق القديم الأزلي ابنا لناسوت مريم بحكم الاتحاد مع كونه خالقا لها بلاهوته وابنا لها بناسوته ، ولم يكن هذا ممتنعا عندكم ولا قبيحا ، فأن تكون مريم صاحبة له وزوجة وامرأة بحكم الالتحام بالناسوت أولى وأحرى .

وإن كان هذا ممتنعا وقبيحا ، فذاك أشد امتناعا وقبحا .

ولهذا ذهب طوائف من النصارى إلى أن مريم امرأة الله وزوجته ، وقالوا أبلغ من ذلك حتى ذكروا شهوته للنكاح .

ولقد قال بعض أكابر عقلاء الملوك ممن كان نصرانيا : إنهم كانوا إذا نبهوا على قولهم : إن عيسى ابن الله ، لم يفهم من ذلك إلا أن الله أحبل أمه وولدت له المسيح ابنه ، كما يحبل الرجل المرأة وتلد له الولد ، فيكون قد انفصل من الله جزء في مريم بعد أن نكحها ، وذلك الجزء الذي من الله ومن مريم ولدته مريم كما تلد المرأة الولد الذي منها ومن زوجها ، وقد قالت الجن المؤمنون : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [ ص: 283 ] فنزهوه عن هذا وهذا ، وهؤلاء الجن المؤمنون أكمل عقلا ودينا من هؤلاء النصارى .

وقال تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

فقوله : ( أنى يكون له ولد ) ، تقديره من أين يكون له ولد ؟ فـ ( أنى ) في اللغة بمعنى : من أين ذلك ؟ وهذا استفهام إنكار .

فبين سبحانه أنه يمتنع أن يكون له ولد ، ولم تكن له صاحبة مع أنه خالق كل شيء ، وأن هذا الولد يمتنع أن يكون ، وأن هذا الامتناع مستقر في صريح المعقول .

ثم إذا كانت الكلمة التي هي الخالق المخلوق به قد حلت في جوف مريم والتحمت من مريم ، وخلقت منها إنسانا هو المسيح خلقته لنفسها واحتجبت به واتحدت به ، فهل كان خلقها لهذا الإنسان قبل الاتحاد والاحتجاب ، أم حين ذلك ؟

فإنه بعد ذلك ظاهر الامتناع ، محال أنها بعد الاحتجاب به والاتحاد خلقته ، بل لا بد أن تكون خلقته قبله أو معه .

فإن كان معه ، لزم كون المخلوق متحدا بالخالق دائما ، لم تمر [ ص: 284 ] عليه لحظة إلا وهو متحد به .

فإذا أمكن أن يقارن المخلوق خالقه - وعندهم أنه أقام تسعة أشهر حملا كعامة الناس ، وقد ذكر ذلك سعيد بن البطريق هذا - فإذا كان كذلك ، كان الرب متحدا بالمضغة والجماد الذي لا روح فيه .

وإذا جاز عليه هذا ، جاز أن يتحد بسائر الجمادات ، وهذا على قول الأكثرين الذين يقولون : إن الروح إنما نفخت فيه بعد أربعة أشهر ، ومن قال : إنها نفخت فيه من حين أخذ الجسد من مريم ، وهذا يشبه قول جمهور النصارى الذين يقولون : إن المسيح مات وصلب وفارقته الروح الناطقة المنفوخة فيه ، والإله المتحد به لم يفارقه أبدا ، فإنهم يقولون : إنه من حين اتحد بناسوت المسيح لم يفارقه ، بل هو الآن متحد به ، وهو في السماء قاعد عن يمين أبيه ، وذلك القاعد هو الخالق القديم ، والأب هو الإله الخالق القديم الأزلي ، وهما مع ذلك إله واحد .

والمقصود هنا أنهم يقولون باتحاد اللاهوت بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت إلى أن قام من قبره ، فعادت الروح إليه ، وحينئذ [ ص: 285 ] لم يظهر من تلك المضغة شيء من العجائب .

وهم يستدلون على إلهية المسيح بالعجائب ، مع أنه كان الإله متحدا به قبل أن يظهر العجائب ، وحينئذ فلا يلزم من عدم ظهور العجائب من شيء الجزم بأن الرب لم يتحد به مع إمكان الاتحاد .

ويلزم أن كل جامد وحي ظهرت منه العجائب أن يكون ذلك دليلا على أن الرب اتحد به .

وحينئذ فعباد العجل أعذر من النصارى ، وإن كان من عباد الأصنام من يقول : إن الصنم خلق السماوات والأرض ، فهو أعذر من النصارى ; لأن ظهور العجائب من الحيوان الأعجم والجماد أعظم من ظهورها من الإنسان الناطق ، لا سيما الأنبياء والرسل ، فإن الأنبياء والرسل معروفون بظهور العجائب على أيديهم ، فإذا ظهرت على يد من يقول : إني نبي مرسل ، كانت دليلا على نبوته لا على إلهيته .

والمسيح كان يقول : إني نبي مرسل ، كما ذكر ذلك في الإنجيل في غير موضع ، فأما الحيوان الأعجم والجماد ، فلا يجوز أن يكون نبيا .

فإن جاز الاتحاد بالمضغة والجسم المقبور الذي لا روح فيه ، فاتحاده بالعجل وبالصنم أولى ، وحينئذ فخوار العجل عجيب منه .

فاستدلال عباد العجل بذلك على أنه إله ، خير من استدلال النصارى على إلهية المضغة إن قدر ظهور شيء من العجائب التي قد يستدلون بها .

[ ص: 286 ] وإن كانت تلك لا تدل إلا على نبوته - صلى الله عليه وسلم تسليما -

الوجه التاسع : قوله : ( فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها ) ، وقوله : ( فكانت مسكنا في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم ) .

يقال لهم - أولا - : من أين لك أن روح الإنسان ألطف من جميع المخلوقات ، وأنها ألطف من الملائكة والروح الذي قال الله فيه : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وأنها ألطف من الروح التي نفخ في آدم منه بقوله : ونفخت فيه من روحي وبتقدير أن تكون ألطف ، فأنت لا تقول : إن الاحتجاب والاتحاد كان بروح الإنسان مجردة ، بل بالجسد الناسوتي الدموي الغليظ ، وتقول : ( إن الخالق التحم من مريم العذراء ) فتجعل الخالق قد التحم من لحم مريم ، ومن رحمها الذي هو لحم ودم [ ص: 287 ] وهذه أجساد كثيفة ، بل جمهورهم يقول : إنه اتحد بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت وقبل أن يقوم من قبره .

وحينئذ فقولك : ( فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم ) - وصف ممنوع ، والتعليل به باطل ، فإنه لو كان مسكنا للطفه ، لم يجز أن يسكن إلا في الروح اللطيفة ، فلما أثبت اتحادا بالجسد الكثيف ، بطل قولك : ( إنه اتحد بالإنسان للطفه ) .

الوجه العاشر : قولكم : ( واعلم أنه لا يرى شيئ من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ، ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلط منه ) .

يقال لهم : إما أن يكون الله لما اتحد بالمسيح عندكم قد رآه الناس وعاينوه ، أو لم يره أحد .

فإن قلتم : قد رآه الناس وعاينوه ، فهذا مخالف للحس والشرع والعقل .

أما الحس ، فإن أحدا ممن رأى المسيح لم ير شيئا يتميز به المسيح عن غيره من البشر غير العجائب التي ظهرت على غيره ، منها ما هو أعظم مما ظهر عليه ، ولم ير إلا بدن المسيح الظاهر ، لم ير باطنه ، لا قلبه ولا كبده ولا طحاله ، فضلا عن أن يرى روحه ، فضلا عن [ ص: 288 ] أن يرى الملائكة الذين يوحون إليه ، فضلا عن أن يرى الله ، إن قدر أنه كان متحدا به أو حالا فيه .

فدعوى المدعي أن من رأى المسيح فقد رأى الله عيانا ببصره - في غاية المباهتة والمكابرة والكذب ، لو قدر أن الله حال فيه ، أو متحد به .

فإنه من المعلوم أن الملائكة تنزل على المسيح وغيره وتتصل بأرواحهم ، والناس لا يرون الملائكة ، بل الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم ، وإنما يرون جسد المصروع .

وكل إنسان معه قرينه من الملائكة ، وقرينه من الجن ، وهو نفسه لا يرى ذلك ، ولا يراه من حوله .

وتحضره الملائكة وقت الموت ولا يراهم من حوله مع أنه هو يراهم ، قال تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين . فإذا كانت هذه المخلوقات التي اتفق أهل الملل على اقترانها بالإنسان واتصالها بهم ، وأن رؤيتها ممكنة - لا يراها الناس ، فكيف يقال : إن المسيح الذي لم ير الناس منه إلا ما رأوه من أمثاله من الرسل كإبراهيم وموسى ، ولم يكن له قط شيء يتميز به عن جنس الرسل ، فكيف يقال : إن الذين رأوه ، رأوا الله عيانا بأبصارهم ؟

[ ص: 289 ] وأما الشرع ، فموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء أخبروا أن أحدا لا يرى الله في الدنيا .

وأما العقل ، فإن رؤية بعض ملائكة الله ، أو بعض الجن - يظهر لرائيها من الدلائل والأحوال ما يطول وصفه ، فكيف بمن رأى الله ؟

والذين رأوا المسيح لم يكن حالهم إلا كحال سائر من رأى الرسل ، منهم الكافر به المكذب له ، ومنهم المؤمن به المصدق له ، بل هم يذكرون من إهانة ناسوته ما لا يعرف عن نظرائه من الرسل ، مثل ضربه ، والبصاق في وجهه ، ووضع الشوك على رأسه ، وصلبه ، وغير ذلك .

وأيضا فمعلوم أن من رأى الله إما أن يعرف أنه الله ، أو لا يعرف .

فإن عرف أنه رأى الله ، كان الذين رأوا المسيح قد علموا أنه الله ، ولو علموا ذلك لحصل لهم من الاضطراب ما يقصر عنه الخطاب .

وإن كانوا لم يعرفوه ، فهذا في غاية الامتناع ، حيث صار رب العالمين لا يميز بينه وبين غيره من مخلوقاته ، بل يكون كواحد منهم ، ويميز بينه وبينهم ، ولا يعرف الرائي أن هذا هو الله .

ولوازم هذا القول الفاسدة كثيرة جدا .

وإن قالوا : إن الله لم ير لما اتحد بالمسيح ، وإنما رئي جسد المسيح الذي احتجب به الله . فقولهم بعد ذلك : ( واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ، ولا يرى ما هو لطيف من [ ص: 290 ] اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه ) - كلام لا فائدة فيه . إذ كان هذا مثلا ضربوه لله ليبينوا أنه يرى .

فإذا سلموا أنه لم ير ، لم يكن في هذا المثل فائدة ، بل كان هذا استدلالا على شيء يعلمون أنه باطل .

وأيضا فما ذكروه من أن اللطيف لا يرى إلا في الغليظ - باطل ، فإن اللطيف كروح الإنسان لا ترى في الدنيا ، وإن علم وجودها وأحس الإنسان بروحه وصفاتها ، فرؤيتها بالبصر غير هذا . يبين ذلك :

الوجه الحادي عشر : قولهم : ( وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية - يعنون النفس الناطقة - ألطف من لطيف الخلق ) ، فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله ، فكانت له حجابا ، وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا .

فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة نفس الإنسان الكاملة لجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية ، وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها ; لأنها لم تخلق ، ولم تك شيئا إلا بقول من كلمة الله الذي خلقها وقومها ، لا من شيء سبق قبل ذلك في بطن مريم ، ولا من سبب كان لها من غير ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي .

[ ص: 291 ] فيقال لهم : هذا الكلام يقتضي أن الخالق احتجب بالنفس الناطقة ، والنفس الناطقة احتجبت بالبدن .

وأنتم تصرحون بأن نفس الكلمة التي هي الخالق ، وهي الله عندكم ، التي خلقت لنفسها إنسانا احتجبت به ، وقلتم : هو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية ، وروحه الكلمانية ، أي نفسه الناطقة التي هي صورة الله في الإنسان وشبهه ، فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه .

فصرحتم بأن البدن مع الروح مسكن لله في حلوله واحتجابه ، وأنه هو الذي خلق ذلك البدن والروح ، وقلتم : إن هذه الكلمة الخالقة المحتجبة التي قلتم : إنها الله ، التحمت من مريم العذراء .

فإذا كان الله الخالق قد التحم من مريم العذراء ، فمعلوم أن ذلك قبل نفخ النفس الناطقة التي سميتموها الروح الكلمانية في المسيح .

وإذا كان الخالق - تعالى - قد التحم بجسد لا روح فيه ، والتحامه به أبلغ من حلوله فيه ، ثم اتخذ الجسد حجابا قبل نفخ الروح الكلمانية فيه ، فكيف يقال : إنما حل في الروح لا في البدن ، وهو قد التحم بالبدن واتخذ منه جزءا مسكنا له وحجابا قبل أن ينفخ فيه الروح الكلمانية ؟

وقلتم أيضا : فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية .

وهذا تصريح بأن الخالق خالط الإنسان بجسده ودمه وروحه .

[ ص: 292 ] فكيف تقولون : إنما احتجبت بالروح اللطيفة ، مع تصريحكم بأن الخالق اختلط بالجسد والدم .

وهذا أيضا يناقض قول من قال : إنه اتحد به اتحادا بريا من الاختلاط .

فقد صرحتم هنا أنه اختلط به ، وسيأتي نظائر هذا في كلامهم يصرحون فيه باختلاط اللاهوت بالناسوت .

الوجه الثاني عشر : قولكم : ( غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي ، فذلك القوام معدود معروف مع الناس ، لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان ، فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته ، واحد من الناس بجوهر ناسوته ، وليس باثنين ، ولكن واحد مع الأب والروح ، وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين ، من جوهر اللاهوت الخالق ، وجوهر الناسوت المخلوق ، بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة ، التي هي الابن المولود من الله من قبل كل الدهور ، وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ، ولا من روح القدس .

فيقال : في هذا الكلام ، بل فيما تقدم ذكره ، ما يطول تعداده ووصفه من التناقض والفساد ، والكلام الباطل ، والكلام الذي تكلم به قائله ، وهو لا يتصور ما يقول مع سوء التعبير عنه ، كقوله : ( وهو إياه ) ، [ ص: 293 ] فيضع الضمير المنفصل موضع المتصل ، ويعطف أحدهما على الآخر بلا واو عطف ، إلى أمثال ذلك مما يطول ذكر معانيه ، وذلك أن قولهم في نفسه باطل لا حقيقة له ، وهم لم يتصوروا معنى معقولا ثم عبروا عنه حتى يقال : قصروا في التعبير ، بل هم في ضلال وجهل لا يتصورون معقولا ، ولا يعرفون ما يقولون ، بل ولا لهم اعتقاد يثبتون عليه في المسيح ، بل مهما قالوه من بدعهم كان باطلا ، وكانوا هم معترفون بأنهم لا يفقهون ما يقولون .

لهذا يقولون : ( هذا فوق العقل ) . ويقولون : ( قد اتحد به بشر لا يدرك ) ، فما لا يدرك وما هو فوق العقل ، ليس لأحد أن يعتقده ولا يقوله برأيه .

لكن إذا أخبرت الرسل الصادقون بما يعجز عقل الإنسان عنه ، علم صدقهم ، وإن نقل عنهم ناقل ما يعلم بصريح العقل بطلانه ، علم أنه يكذب عليهم ، إما في اللفظ والمعنى ، وإما في أحدهما .

وأما إذا كان هو يقول القول الذي يذكر أنه علم صحته ، أو أنه فسر به كلام الأنبياء ، وهو لا يتصور ما يقوله ، ولا يفقهه ، فهذا قائل على الله وعلى رسله ما لا يعلم ، وهذا قد ارتكب أعظم المحرمات ، قال تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

[ ص: 294 ] وقال تعالى عن الشيطان : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

وقال تعالى : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .

وقد اتفق أهل الملل على أن القول على الله بغير علم حرام ، والله - سبحانه - نهاهم أن يقولوا على الله إلا الحق ، فكان هذا نهيا أن يقولوا الباطل ، سواء علموا أنه باطل ، أو لم يعلموا .

فإنهم إن لم يعلموا أنه باطل ، فلم يعلموا أنه حق أيضا ، إذ الباطل يمتنع أن يعلم أنه حق ، وإن اعتقد معتقد اعتقادا فاسدا أنه حق ، فذلك [ ص: 295 ] ليس بعلم ، فلا تقولوا على الله ما لا تعلمون .

وإن علموا أنه باطل فهو أجدر أن لا يقولوه .

وعامة النصارى ضلال لا يعلمون أن ما يقولونه حق ، بل يقولون على الله ما لا يعلمون .

والمقصود أن الباطل في كلامهم كثير ، كقولهم : ( فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد - قوام لكلمة الله الخالقة ) .

والمسيح عندهم اسم للاهوت والناسوت جميعا ، اسم للخالق والمخلوق ، وأحدهما متحد بالآخر ، فهو بتوحيد ذلك القوام ، قوام لكلمة الله الخالقة .

وسواء أريد بذلك أن الناسوت واللاهوت قوام للاهوت ، أو أن الناسوت قوام للاهوت ، وهم يمثلون ذلك بالروح والجسد والنار والحديد ، فيكون كما لو قيل : إن الجسد والروح ، أو الجسد - قوام للروح ، أو النار والحديد ، أو الحديد - قوام للنار .

فيقال : الخالق الأزلي الذي لم يزل ولا يزال ، هل يكون المحدث المخلوق قواما له ؟ فيكون المخلوق المصنوع المحدث المفتقر إلى الله من كل وجه - قواما للخالق الغني عنه من كل وجه ؟ وهل هذا إلا من أظهر الدور الممتنع ؟

فإنه من المعلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء ، أن المخلوق [ ص: 296 ] لا قوام له إلا بالخالق ، فإن كان الخالق قوامه بالمخلوق ، لزم أن يكون كل من الخالق والمخلوق قوامه بالآخر ، فيكون كل منهما محتاجا إلى الآخر ، إذ ما كان قوام الشيء به ، فإنه محتاج إليه .

وهذا مع كونه يقتضي أن الخالق يحتاج إلى مخلوقه وهو من الكفر الواضح ، فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل ، وهذا لازم للنصارى ، سواء قالوا بالاتحاد ، أو بالحلول بلا اتحاد ، وإن كانت فرقهم الثلاث يقولون بنوع من الاتحاد ، فإنه مع الاتحاد كل من المتحدين لا بد له من الآخر ، فهو محتاج إليه كما يمثلون به في الروح مع البدن ، والنار مع الحديد .

فإن الروح التي في البدن محتاجة إلى البدن ، كما أن النار في الحديد محتاجة إلى الحديد .

وكذلك الحلول ، فإن كل حال محتاج إلى محلول فيه ، وهو من الكفر الواضح ، فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل .

فإن ذلك المخلوق إن قدر أنه موجود بنفسه قديم أزلي ، فليس هو مخلوقا ، ومع هذا فيمتنع أن يكون كل من القديمين الأزليين محتاجا إلى الآخر ، سواء قدر أنه فاعل له ، أو تمام الفاعل له ، أو كان [ ص: 297 ] مفتقرا إليه بوجه من الوجوه ; لأنه إذا كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه ، لم يكن موجودا إلا به .

فإن الموجود لا يكون موجودا إلا بوجود لوازمه ، ولا يتم وجوده إلا به ، فكل ما قدر أنه محتاج إليه لم يكن موجودا إلا به .

فإذا كان كل من القديمين محتاجا إلى الآخر ، لزم أن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر ، وأن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر .

والخالق لا يكون خالقا حتى يكون موجودا ، ولا يكون موجودا إلا بلوازم وجوده ، فيلزم أن لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا ، ولا يكون ذاك موجودا حتى يجعله الآخر موجودا ، إذ كان جعله لما لم يتم به وجوده يتوقف وجوده عليه ، فلا يكون موجودا إلا به ، فلا فرق بين أن يحتاج أحدهما إلى الآخر في وجوده ، أو فيما لا يتم وجوده إلا به ، وهذا هو الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء .

وأما الدور المعي ، وهو أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ، ولا هذا إلا مع هذا ، كالأبوة مع البنوة ، وكصفات الرب بعضها مع بعض ، وصفاته مع ذاته ، فإنه لا يكون عالما إلا مع كونه قادرا ، ولا يكون عالما قادرا إلا مع كونه حيا ، ولا يكون حيا إلا مع كونه عالما قادرا ، ولا تكون صفاته موجودة إلا بذاته ، ولا ذاته موجودة إلا بصفاته ، فهذا جائز في المخلوقين اللذين يفتقران إلى الخالق الذي يحدثهما جميعا ، كالأبوة والبنوة ، وجائز في الرب الملازم لصفاته تعالى .

وأما إذا قدر قديمان أزليان ربان فاعلان ، امتنع أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر ، إذ كان وجوده لا يتم إلا بما يحتاج وجوده إليه ، ولا يكون فاعلا لشيء إن لم يتم وجوده ، فيمتنع مع نقص كل منهما عن [ ص: 298 ] تمام وجوده ، أن يكون فاعلا لغيره تمام وجود ذلك الغير ، ولهذا لم يقل بهذا أحد من الأمم .

ولكن الذي قاله النصارى ، إنهم جعلوا قوام الخالق - تعالى - بالمخلوق .

فيقال لهم : هذا أيضا ممتنع في صريح العقل أعظم من امتناع قيام كل من الخالقين بالآخر ، وإن كان هذا أيضا ممتنعا ، فإن المخلوق مفتقر في جميع أموره إلى الخالق ، فيمتنع مع فقره في وجوده وتمام وجوده إلى الخالق أن يكون قوام الخالق به ; لأن ذلك يقتضي أن يكون مقيما له ، وأن يكون تمام وجوده به ، فيكون المخلوق لا وجود لشيء منه إلا بالخالق .

فالقدر الذي يقال : إنه يقيم به الخالق - هو من الخالق ، والخالق خالقه وخالق كل مخلوق ، فلا وجود له ولا قيام إلا بالخالق ، فكيف يكون به قيام الخالق ؟

وليس هذا كالجوهر وأعراضه اللازمة ، أو كالمادة والصورة عند من يزعم أن الصورة جوهر إذا كانا متلازمين ، فإن هذا من باب الدور المعي ، كالنبوة مع الأبوة ، وهذا جائز كما تقدم ، إذ كان الخالق لهما جميعا هو الله .

وأما مع كون كل منهما هو الخالق ، فهو ممتنع ، ومع كون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا ، فهو أشد امتناعا .

والرب - تعالى - غني عن كل ما سواه من كل وجه ، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه ، وهذا معنى اسمه " الصمد " ، فإن الصمد الذي يصمد إليه كل شيء ; لافتقاره إليه ، وهو غني عن كل شيء ، لا يصمد [ ص: 299 ] إلى شيء ، ولا يسأله شيئا - سبحانه وتعالى - فكيف يكون قوامه بشيء من المخلوقات ؟

وهذا الاتحاد الخاص من النصارى يشبه - من بعض الوجوه - قول أهل الوحدة والاتحاد العام ، الذين يقولون كما يقوله ابن عربي صاحب " الفصوص " و " الفتوحات المكية " : إن أعيان المخلوقات ثابتة في العدم ، ووجود الحق فاض عليها ، فهي مفتقرة إليه من حيث الوجود المشترك العام ، وهو وجوده ، وهو مفتقر إليها من حيث الأعيان الثابتة في العدم ، وهو ما يختص به كل عين عين ، فيجعل كل واحد من الخالق والمخلوق مفتقر إلى الآخر .

ويقولون : الوجود واحد ، ثم يثبتون تعدد الأعيان ، ويقولون : هي مظاهر ومجال .

فإن كان المظهر والمجلى غير الظاهر ، فقد ثبت التعدد ، وإن كان [ ص: 300 ] هو إياه ، فلا تعدد ، فلهذا يضطرون إلى التناقض كما يضطر إليه النصارى ، حيث يثبتون الوحدة مع الكثرة ، وينشدون : ( فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده ) . وهؤلاء بنوا قولهم على أصلين فاسدين .

أحدهما : أن أعيان الممكنات ثابتة في العدم ، كقول من يقول من أهل الكلام : إن المعدوم شيء ثابت في العدم ، وهذا القول فاسد عند جماهير العقلاء .

وإنما حقيقة الأمر ، أن المعدوم يراد إيجاده ويتصور ، ويخبر به ، ويكتب قبل وجوده ، فله وجود في العلم والقول والخط ، وأما في الخارج فلا وجود له .

والوجود هو الثبوت ، فلا ثبوت له في الوجود العيني الخارجي ، وإنما ثبوته في العلم ; أي يعلمه العالم قبل وجوده .

والأصل الثاني : أنهم جعلوا نفس وجود رب العالمين الخالق القديم الأزلي الواجب بنفسه ، هو نفس وجود المربوب المصنوع الممكن ، كما قال ابن عربي : ومن عرف ما قررناه في الأعداد ، وأن نفيها عين إثباتها ، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه . فالأمر [ ص: 301 ] للخالق هو المخلوق ، والأمر المخلوق هو الخالق ، كل ذلك من عين واحدة ، لا بل هو العين الواحدة ، وهو العيون الكثيرة ، وهو : ( يا أبت افعل ما تؤمر ) . إلى أن قال : وما ذبح سوى نفسه : وما نكح سوى نفسه .

وقال : ومن أسمائه الحسنى العلي ، على من يكون عليا ، وما هو إلا هو ؟ أو عن ماذا يكون عليا ، وما ثم إلا هو ؟ فعلوه لنفسه ، وهو من حيث الوجود عين الموجودات ، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو .

وقد نقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل له : بماذا عرفت ربك ؟

قال : بجمعه بين الأضداد ، وقرأ قوله : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .

أراد بذلك أنه مجتمع في حقه - سبحانه - ما يتضاد في حق غيره ، فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا .

وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : ( أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك [ ص: 302 ] شيء ) ، فجاء هذا الملحد وفسر قول أبي سعيد بأن المخلوق هو الخالق ، فقال : قال أبو سعيد ، وهو وجه من وجوه الحق ، ولسان من ألسنته ، ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها ، فهو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره ، وما ثم من يراه غيره ، وما ثم من باطن عنه سواه ، فهو ظاهر لنفسه باطن عن نفسه ، وهو المسمى أبو سعيد الخراز ، وغير ذلك من أسماء المحدثات ، ولهذا قال بعض النصارى لمن يقول مثل هذا ويحكيه عن شيوخه ويقول : إنه مسلم ( أنتم كفرتمونا لأجل أن قلنا : إن الله هو المسيح ، وشيوخكم يقولون : إن الله هو أبو سعيد الخراز ، والمسيح خير من أبي سعيد ) .

وهؤلاء يجيبون النصارى بجواب يتبين به أنهم أعظم إلحادا من النصارى .

فيقولون للنصارى : ( أنتم خصصتموه بالمسيح ، ونحن نقول : هو وجود كل شيء ، لا نخص المسيح .

ولهذا قال بعضهم لأحذق هؤلاء " التلمساني " الملقب بالعفيف : أنت نصيري .

[ ص: 303 ] فقال : نصير جزء مني . فإن النصيرية أتباع أبي شعيب " محمد بن نصير " يقولون في علي بن أبي طالب نظير ما يقوله النصارى في المسيح ، كذلك سائر الغلاة في علي ، أو في أحد من أهل بيته ، أو في الإسماعيليةبني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ، كالحاكم وغيره ، [ ص: 304 ] أو في الحلاج ، أو في بعض من الشيوخ الذين يقولون في واحد من هؤلاء باتحاد اللاهوت به أو حلوله فيه ، نظير ما تقوله النصارى في المسيح .

وهؤلاء يقولون بأن الحلول والاتحاد محدث ، وأن القديم حل أو اتحد بالمحدث ، بعد أن لم يكونا متحدين .

وأما أولئك فيقولون بالوحدة المطلقة ، فمحققوهم يقولون : إنه وجود كل شيء ، لا يقولون باتحاد وجودين ، ولا بحلول أحدهما بالآخر .

بل قد يقولون : إن الوجود هو ثبوت وجود الحق وثبوت الأشياء ، اتحدا ، وكل منهما مفتقر إلى الآخر .

فالحق إذا ظهر كان عبدا ، والعبد إذا بطن كان ربا .

ويقولون : إذا حصل لك التجلي الذاتي ، وهو هذا ، لم تضرك عبادة الأوثان ولا غيرها ، بل يصرحون بأنه عين الأوثان والأنداد ، وأن [ ص: 305 ] أحدا لم يعبد غيره ، كما يقول ابن عربي مصوبا لقوم نوح الكفار : ومكروا مكرا كبارا ، قال : لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو ، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ( ادعوا إلى الله ) فهذا عين المكر ، فأجابوه ( مكرا ) كما دعاهم ( مكرا ) فقالوا في مكرهم : لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا إذا تركوهم جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء .

فإن للحق في كل معبود وجها ، يعرفه من عرفه ، ويجهله من جهله ، كما قال في المحمديين : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه . ; أي حكم فما حكم الله بشيء إلا وقع . فالعارف يعرف من عبد ، وفي أي صورة ظهر حتى عبد ، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة ، وكالقوى المعنوية في الصور الروحانية ، فما عبد غير الله في كل معبود .

وصوب هذا الملحد فرعون في قوله : أنا ربكم الأعلى . [ ص: 306 ] قال : ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت ، وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي ، لذلك قال : أنا ربكم الأعلى . ; أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما ، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم .

قال : ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه ، وأقروا له بذلك وقالوا له : إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . فاقض ما أنت قاض . فالدولة لك .

قال : فصح قول فرعون : أنا ربكم الأعلى . وإن كان فرعون عين الحق .

وصوب أيضا أهل العجل في عبادتهم العجل ، وزعم أن موسى رضي بذلك ، فقال : ولما كان موسى أعلم بالأمر من هارون لعلمه بأن الله قضى أن لا نعبد إلا إياه ، وما حكم الله بشيء إلا وقع ، كان عتبه على هارون لإنكاره وعدم اتساعه ، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء ، بل من يراه عين كل شيء .

ومن هؤلاء طائفة لا يقولون بثبوت الأعيان في العدم ، بل يقولون : ما ثم وجود إلا وجود الحق .

لكن يفرقون بين المطلق والمعين ، فيقولون : هو الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة ، كالحيوانية الثابتة في كل حيوان ، والإنسانية الثابتة في كل إنسان ، وهذا الذي يسمى الكلي الطبيعي .

[ ص: 307 ] ويسمون هذا الوجود : الإحاطة ، فيقولون : هو الوجود المطلق ، إما بشرط الإطلاق عن كل قيد ، وهذا يسمى الكلي العقلي .

وهذا عند عامة العقلاء لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ، ولكن يحكى عن شيعة " أفلاطون " أنهم أثبتوا هذه الكليات المجردة عن الأعيان في الخارج ، وقالوا : إنها قديمة أزلية إنسانية مطلقة ، وحيوانية مطلقة ، ويسمونها المثل الأفلاطونية ، والمثل المعلقة .

وقد رد ذلك عليهم إخوانهم " أرسطو " وشيعته وجماهير العقلاء ، وبينوا أن هذه إنما هي متصورة في الأذهان لا موجودة في الأعيان ، كما يتصور الذهن عددا مطلقا ومقادير مطلقة ، كالنقطة والخط والسطح والجسم التعليمي ، ونحو ذلك مما يتصوره الذهن ، وليس من ذلك شيء في الموجودات الثابتة في الخارج .

وهذا المطلق بشرط الإطلاق ، يظن هؤلاء ثبوته في الخارج ، وقد يسمونه الإحاطة ، وهو الوجود المجرد عن جميع القيود ، ثم بعده الوجود المطلق لا بشرط ، وهو العام المنقسم إلى واجب وممكن ، [ ص: 308 ] إلى قديم وحادث ونحو ذلك ، كانقسام الحيوان إلى ناطق وأعجم .

وهذا المطلق لا بشرط يوجد في الخارج ، فإن الاسم المفرد يصدق عليه فيقال : هذا حيوان ، هذا إنسان ، وإن كان الاسم العام شاملا لأنواعه وأشخاصه ، لكن لا يوجد في الخارج إلا مقيدا معينا .

ومن قال : إنه يوجد في الخارج كليا ، فقد غلط ، فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وليس في الخارج إلا شيء معين ، إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ، ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات ، فيكون كليا مشتركا في الأذهان .

وهؤلاء يجعلون الوجود الواجب هذا ، وقد يجعلونه بعد هذا ، فيقولون : هذا فرق الواجب .

وهذا الوجود الكلي إذا قيل : إنه لا يوجد في الخارج إلا معينا فلا موجود في الخارج سوى الموجودات المعينة المشخصة بما فيها من الصفات القائمة بها .

وإن قدر وجوده في الخارج ، فهو إما جزء من المعينات ، وإما صفة لها .

فعلى الأول ، لا يكون في الخارج موجود هو رب الموجودات المعينة .

وعلى الثاني ، يكون رب الموجودات جزءها أو صفة لها .

ومعلوم بصريح العقل أن صفة الشيء القائمة به لا تخلق [ ص: 309 ] الموصوف وأن جزء الشيء لا يخلق الشيء ، بل جزء الشيء جزء من الشيء .

فإذا كان هو الخالق للجملة ، كان خالقا لنفسه ، وكان بعض الشيء خالقا لكله .

ومن هؤلاء من يقول : إن الرب في العالم كالزبد في اللبن ، والدهن في السمسم ونحو ذلك ، فيجعلونه جزءا من العالم المخلوق . ونفس تصور هذا يكفي في العلم بفساده .

لكن هؤلاء يقولون لمن تبعهم : إن لم تترك العقل والنقل ، لم يحصل لك التحقيق والتجلي الذي حصل لنا . ويقولون : ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل .

فقلت لبعضهم : إن الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - أكمل الناس كشفا ، وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته ، لا بما يعرف في عقولهم أنه باطل ، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول .

فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف ، يعلم بصريح العقل بطلانه - علم أن كشفه باطل .

وأما إن كان لم يعلم بطلانه ، فهذا قد يمكن فيه إصابته ، وقد [ ص: 310 ] يمكن خطؤه ; لأن غير الأنبياء ليس بمعصوم .

وهؤلاء سمعوا باسم الله وقصدوا عبادته ومعرفته ، فوقفوا على أثره في مصنوعاته ، فظنوا أنه هو كمن سمع بالشمس ، فلما أن رأى الشعاع المنبسط في الهواء والأرض ، ظن أن ذلك هو الشمس ، ولم يصعد بصره وبصيرته إلى الشمس التي في السماء .

وكذلك هؤلاء لم تصمد بصائر قلوبهم إلى رب العالمين ، الذي فوق كل شيء المباين لمخلوقاته .

وسر ذلك ، أنهم يشهدون بقلوبهم وجودا مطلقا بسيطا ليس له اسم خاص ، كالحي والعليم والقدير . ولا له صفة ، ولا يتميز فيه شيء عن شيء ، وهذا هو الوجود المشترك .

لكن هذا الشهود هو في نفوسهم ، لا حقيقة له في الخارج ، وكثير ممن يخاطبهم لا يتصور ما يشهدونه ، فيظنون أنه لم يفهم ما شهدوه .

وقد خاطبت غير واحد منهم ، وبينت له أن هذا الذي يشهدونه هو في الذهن ، وبتقدير أن يكون موجودا في الخارج ، فهو صفة للموجودات ، أو جزء منها ، ويظنون مع ظنهم أنه موجود في الخارج ، أنه لم يبق في الخارج غير ما شهدوه ، فإنهم يغيبون عن الحس الذي يدرك المعينات ، ويغيبون عقولهم عن تصورها ، حتى لا يميزوا بين موجود وموجود ، ويقولون : الحس فيه تفرقة ، ثم يشهدون هذا الوجود [ ص: 311 ] المطلق مع عزلهم الحس ، فيظنون أن هذا المطلق هو نفس المعينات ، وأنه ما بقي موجودا أصلا .

فيقال لهم : لو قدر أن الوجود الكلي ثابت في الخارج كليا ، وأنكم شهدتم ذلك ، فمعلوم عند كل عاقل أن وجود الكلي المشترك لا يناقض وجود المعين المختص .

فالحيوانية والإنسانية المشتركة المطلقة ، لا تناقض أعيان الحيوان وأعيان الإنسان ، وحينئذ فثبوت أعيان الموجودات حاصل في الخارج .

وهب أنكم غبتم عن هذا ولم تشهدوه ، فالغيبة عن شهود الشيء لا يوجب عدمه في نفسه .

فإذا لم يشهد العبد الشيء ، أو لم يرده ، أو لم يعلمه ، أو لم يخطر بقلبه ، أو فني عن شهوده ، أو اصطلم ، أو غاب ، لم يلزم من ذلك أن يكون الشيء صار في نفسه معدوما فانيا لا حقيقة له ، بل الفرق ثابت بين أن يعدم الشيء في نفسه ويفنى ويتلاشى ، وبين أن يعدم شهود الإنسان له وذكره ومعرفته .

وهؤلاء - من ضلالهم - يظنون أنه إذا فني شهودهم للموجودات ، كانت فانية في أنفسها ، فلم يكن موجودا إلا [ ص: 312 ] ما تخيلوه من الوجود المطلق .

ويقولون : الكثرة والتفرقة في الحس ، فإذا فني شهود القلب عن الحس ، لم يبق تفرقة ولا كثرة ، ويظنون أن شهود الحس حينئذ خطأ ، والعقل هو الذي يشهد الكليات والمطلقات دون الحس ، فإذا أبطلوا ما شهده الحس ، لم يبق معهم إلا الوجود الكلي .

ثم يظنون مع ذلك أنه هو الله ، فيبقى الرب عندهم وهما وخيالا في نفوسهم ، لا حقيقة له في الخارج ، كما قال بعض حذاقهم وهو التستري صاحب ابن سبعين : ( وهمك هو بتشخيص ما تحته [ ص: 313 ] شيء ) وقال :

ترى الوجود واحدا وأنت ذاك وليس عليك زائد ما ثم سواك

وقلت لبعض حذاقهم : هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج ، وأنه عين الموجودات المشهودة ، فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض وكل شيء ؟

فاعترف بذلك وقال : هذا ما فيه حيلة .

والحس الباطن أو الظاهر إن لم يقترن به العقل الذي يميز بين المحسوس وغيره ، وإلا دخل فيه من الغلط من جنس ما يدخل على النائم والممرور والمبرسم وغيرهم ممن يحكم بمجرد الحس الذي لا عقل معه .

والبهائم قد تكون أهدى من هؤلاء ، كما قال تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون . [ ص: 314 ] وهؤلاء يصرحون برفض السمع والعقل فدخلوا في قوله : أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا . ويلزمون أنفسهم الغيبة عن العقل والحس الظاهر والشرع ، فلهذا يقول أحذقهم التلمساني :

فقل لحسك غب وجدا وذب طربا     فيها وقل لزوال العقل لا تزل
واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة     فإن وجدت لسانا قائلا فقل

وهؤلاء لبسط الكلام عليهم موضع آخر

والمقصود هنا أن النصارى زعموا أن اللاهوت محتاج إلى ما اتحد به من الناسوت ، وهؤلاء زعموا أن رب العالمين محتاج إلى كل ما سواه من الأعيان الثابتة في العدم .

فإن كل من قال : إن رب العالمين اتحد بغيره فكل من المتحدين مفتقر إلى الآخر ، مع استحالة كل منهما ، وتغير حقيقته ، ولا كذلك الحلول المعقول ، فإن الحلول لا يعقل إلا إذا كان الحال قائما بالمحل محتاج إليه ، سواء أريد بذلك حلول الصفات والأعراض في الموصوفات والجواهر ، أو أريد به حلول الأعيان .

[ ص: 315 ] فإن كون أحد الجسمين محلا للآخر ، كحلول الماء في الظرف ، هو يوجب افتقاره إليه .

وما يحل في قلوب المؤمنين من معرفة الرب والإيمان به ، هو قائم بقلوبهم محتاج إليه

وكذلك ما يثبته الفلاسفة من الهيولى والصورة ، ويقولون : إن الهيولى محل للصورة ، ويعترفون - مع ذلك - بأن الصورة محتاجة إلى الهيولى .

والقائلون بوحدة الوجود ، قد يجعلون الخالق مع المخلوقات كالصورة مع الهيولى ، كما يشير إليه ابن سبعين ويقول : هو في الماء ماء ، وفي النار نار ، وفي كل شيء بصورة ذلك الشيء ، كما قد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا الكتاب .

وإذا قالوا : إن الرب حل في المسيح كما حل في غيره ، وهو الحلول الموجود في كلام داود عندهم ، حيث قالوا : أنت تحل في قلوب القديسين ، فقد عرف أن هذا حلول الإيمان به ومعرفته وهداه [ ص: 316 ] ونوره والمثال العلمي ، كما قد بسط في موضع آخر ، ولهذا يسمى ظهورا والشعاع الحال على الأرض والهواء عرض قائم بذلك ، وهو مفتقر إلى الأرض والهواء .

والرسل - صلوات الله عليهم - أخبروا بأن الله فوق العالم بعبارات متنوعة ، تارة يقولون : هو العلي وهو الأعلى ، وتارة يقولون : هو في السماء ، كقوله : أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا .

وليس مرادهم بذلك أن الله في جوف السماوات ، أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات ، بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضا ، كما قال تعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . وقد قال تعالى : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .

وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت [ ص: 317 ] الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ) ، فأخبر أنه لا يكون شيء فوقه .

ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف : إنه ينزل إلى السماء الدنيا ، ولا يخلو العرش منه ، فلا يصير تحت المخلوقات وفي جوفها قط ، بل العلو عليها صفة لازمة له حيث وجد مخلوق ، فلا يكون الرب إلا عاليا عليه .

وقول الرسل : ( في السماء ) أي في العلو ، ليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك ، بل السماء العلو ، وهو إذا كان فوق العرش ، فهو العلي الأعلى وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورا في شيء من المخلوقات ، ولا هو في جهة موجودة ، بل ليس موجودا إلا الخالق والمخلوق ، والخالق بائن عن مخلوقاته ، عال عليها ، فليس هو في مخلوق أصلا ، سواء سمي ذلك المخلوق جهة ، أو لم يسم جهة .

ومن قال : إنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه ، فهو مخطئ .

كما أن من قال : ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إله ، ومحمد لم يعرج به إلى ربه ، ولا تصعد الملائكة إليه ، ولا تنزل الكتب منه ، ولا يقرب منه شيء ، ولا يدنو إلى شيء - فهو أيضا مخطئ .

ومن سمى ما فوق العالم جهة ، وجعل العدم المحض جهة ، وقال [ ص: 318 ] هو في جهة - بهذا المعنى - أي هو نفسه فوق كل شيء ؛ فهذا معنى صحيح .

ومن نفى هذا المعنى بقوله : ليس في جهة فقد أخطأ .

بل طريق الاعتصام أن ما أثبته الرسل لله ، أثبت له ، وما نفته الرسل عن الله ، نفي عنه .

والألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات ، كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك ، لا يطلق نفيا ولا إثباتا إلا بعد بيان المراد .

فمن أراد بما أثبت معنى صحيحا ، فقد أصاب في المعنى ، وإن كان في اللفظ خطأ .

ومن أراد بما نفاه معنى صحيحا ، فقد أصاب في المعنى ، وإن كان في لفظه خطأ .

وأما من أثبت بلفظه حقا وباطلا ، أو نفى بلفظه حقا وباطلا ، فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق ، مخطئ فيما عناه من الباطل ، قد لبس الحق بالباطل ، وجمع في كلامه حقا وباطلا .

والأنبياء كلهم متطابقون على أنه في العلو .

وفي القرآن والسنة ما يقارب ألف دليل على ذلك ، وفي كلام الأنبياء المتقدمين ما لا يحصى .

التالي السابق


الخدمات العلمية