الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 319 ] قال سعيد بن البطريق : وذلك مثل ما أن الشعاع المولود من عين الشمس الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، وفي بيت من البيوت يكون فيه ضياء بنوره من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا ; لأنه لم ينقطع من العين ولا من الضوء ، فكذلك سكن الله في الناسوت من غير أن يفارقه الأب ، فهو مع الناسوت ، وهو مع الأب وروح القدس حقا .

فيقال : هذا التمثيل لو قدر أنه صحيح ، فإنما يشبه من بعض الوجوه قول من يقول : إنه بذاته في كل مكان ، كشعاع الشمس الذي يظهر في الهواء والأرض .

وأما النصارى فإنهم يخصونه بناسوت المسيح دون سائر النواسيت ، ولو مثل بهذا من يقول : إنه بذاته في كل مكان - لكان باطلا ، فكيف النصارى ؟ فإن الضوء إنما يكون في الهواء وسطوح الأرض ، لا يكون تحت السقوف والغيران وباطن الأرض .

[ ص: 320 ] ثم هذا التمثيل باطل من وجوه :

أحدها : أن الشعاع ليس متولدا من جرم الشمس ، ولا شعاع النار متولد من جرم النار ، بل هو حادث بائن عن جرم الشمس ، ولكنها سبب في حصوله .

ولهذا يشبه به العلم الحاصل في قلب المتعلم بسبب تعلم العلم من غير أن يكون من ذات علم العالم .

ولهذا يشبه علم العالم بالسراج الذي يقتبس كل أحد من نوره ، وهو لم ينقص .

بخلاف تولد المولود عن والده ، فإنه متولد عن عينه .

والشعاع القائم بالهواء والأرض ، ليس هو قائما بذات الشمس والنار ، بل هو عرض قائم بمحل آخر ، والعرض الواحد لا يكون في محلين .

والنصارى يقولون : إن الكلمة التي هي علم الله أو حكمته ، متولدة منه ، وهي قديمة أزلية ، والصفة قائمة بالموصوف ، فالصفة مثل ما يقوم بذات الشمس من استدارة وضوء ، فذاك صفة لها ، وهو غير الشعاع القائم بالهواء ، فإن ذاك بائن عنها ، فكيف يجعل هذا هو هذا .

فإن قالوا : نحن مقصودنا أن حكمة الله وعلمه ونوره أنزله إلى المسيح وأفاضه على المسيح ، كما يفيض الشعاع عن الشمس .

قيل لهم : فهذا قدر مشترك بين المسيح وسائر الأنبياء ، فلا اختصاص للمسيح بذلك .

[ ص: 321 ] الوجه الثاني : قولهم : الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، وفي بيت من البيوت يكون فيه حقا من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا .

فيقال لهم : الشعاع الذي بين السماء والأرض هو الضوء وهو النور .

فقولكم : إن الشعاع يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، يقتضي أنه شعاع وضوء شعاع ، ونور حدث عن ذلك ، وهذا غلط ، بل ليس هنا إلا جرم الشمس التي في السماء وشعاعها ، وهو الضوء والنور الذي ما بين السماء والأرض .

الثالث : قولكم : ( من غير مفارقة عين الشمس ) يقتضي أن هذا الشعاع هو نفس ما قام بالشمس ، وهذا مكابرة للحس والعقل ، بل الشعاع الذي قام بالهواء والأرض عرض لم يقم بالشمس فقط .

وكل شعاع بقعة ، فليس هو عين الشعاع الذي في البقعة الأخرى ، وإن كان هو نظيره ومثله ، وجنس الشعاع يجمعهما ، كما أن شعاع هذا السراج ، ليس هو شعاع هذا السراج ، وإن قدر اختلاطهما حتى يقوى الضوء ، ولا حركة هذا الهواء هي حركة هذا الهواء ، ونظائر ذلك متعددة .

الرابع : قولكم : ( كذلك الله سكن في الناسوت من غير أن يفارقه الأب ) تمثيل باطل .

[ ص: 322 ] فإن الشمس نفسها لم تكن في الهواء والأرض ، وإنما سكن شعاعها .

فوزانه أن يقال : فكذلك سكن نور الله وبرهانه ، وهداه وروحه .

وهذا إذا قلته ، فهو منقول عن الأنبياء ، تنطق كتبهم بأن نور الله وروحه وهداه في قلوب المؤمنين ، لكن لا اختصاص للمسيح بذلك .

قال الله تعالى : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري .

قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المؤمن .

وفي الترمذي عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ قوله : [ ص: 323 ] إن في ذلك لآيات للمتوسمين .

الخامس : إنكم إذا جعلتم الله نفسه ساكنا في المسيح ، فوزانه أن تكون الشمس نفسها ساكنة في موضع صغير من الأرض .

وهذا التمثيل يبطل قولكم : إن الله أعلى وأعظم وأجل وأكبر . والله أجل وأكبر وأعظم من كل شيء ، والشمس آية من آياته ومخلوق من مخلوقاته ، ومع هذا فلو قال قائل : إن الشمس سكنت في جوف امرأة وخرجت من فرج تلك المرأة ، لكان كل عاقل يعلم فساد قوله ، وينسبه إلى الجهل العظيم أو الجنون ، وسواء قال : إن الشمس نفسها نزلت أو لم تنزل .

وأنتم تقولون : إن رب العالمين سكن في بطن مريم ، ويقول أكثركم - كالملكية واليعقوبية - : إنه خرج من فرج مريم .

ولو قال قائل عما هو من أصغر مخلوقات الله ، كوكب من الكواكب أو جبل من الجبال أو صخرة عظيمة : إن ذلك كان في بطن امرأة وخرج من فرجها - لضحك الناس من قوله ، فكيف بمن يدعي مثل ذلك في رب العالمين ؟ !

وإذا قالوا : إن الله نزل إلى السماء الدنيا ، أو نزل إلى الطور وكلم موسى من العليقة أو في عمود الغمام ، ونحو ذلك - فليس في شيء من [ ص: 324 ] ذلك أنه اتحد بمخلوق ، لا سماء ولا طور ولا شجرة ، ولا كان كلامه قائما بشيء مخلوق ، لا شجرة ولا غيرها .

وعندهم أنه اتحد بالمسيح ، وكان صوت المسيح القائم به ، هو صوت رب العالمين بلا واسطة .

التالي السابق


الخدمات العلمية