[ ص: 319 ] سعيد بن البطريق : وذلك مثل ما أن الشعاع المولود من عين الشمس الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، وفي بيت من البيوت يكون فيه ضياء بنوره من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا ; لأنه لم ينقطع من العين ولا من الضوء ، فكذلك سكن الله في الناسوت من غير أن يفارقه الأب ، فهو مع الناسوت ، وهو مع الأب وروح القدس حقا . قال
فيقال : هذا التمثيل لو قدر أنه صحيح ، فإنما يشبه من بعض الوجوه قول من يقول : إنه بذاته في كل مكان ، كشعاع الشمس الذي يظهر في الهواء والأرض .
وأما النصارى فإنهم يخصونه بناسوت المسيح دون سائر النواسيت ، ولو مثل بهذا من يقول : إنه بذاته في كل مكان - لكان باطلا ، فكيف النصارى ؟ فإن الضوء إنما يكون في الهواء وسطوح الأرض ، لا يكون تحت السقوف والغيران وباطن الأرض .
[ ص: 320 ] ثم هذا التمثيل باطل من وجوه :
أحدها : أن الشعاع ليس متولدا من جرم الشمس ، ولا شعاع النار متولد من جرم النار ، بل هو حادث بائن عن جرم الشمس ، ولكنها سبب في حصوله .
ولهذا يشبه به العلم الحاصل في قلب المتعلم بسبب تعلم العلم من غير أن يكون من ذات علم العالم .
ولهذا يشبه علم العالم بالسراج الذي يقتبس كل أحد من نوره ، وهو لم ينقص .
بخلاف تولد المولود عن والده ، فإنه متولد عن عينه .
والشعاع القائم بالهواء والأرض ، ليس هو قائما بذات الشمس والنار ، بل هو عرض قائم بمحل آخر ، والعرض الواحد لا يكون في محلين .
والنصارى يقولون : إن الكلمة التي هي علم الله أو حكمته ، متولدة منه ، وهي قديمة أزلية ، والصفة قائمة بالموصوف ، فالصفة مثل ما يقوم بذات الشمس من استدارة وضوء ، فذاك صفة لها ، وهو غير الشعاع القائم بالهواء ، فإن ذاك بائن عنها ، فكيف يجعل هذا هو هذا .
فإن قالوا : نحن مقصودنا أن حكمة الله وعلمه ونوره أنزله إلى المسيح وأفاضه على المسيح ، كما يفيض الشعاع عن الشمس .
قيل لهم : فهذا قدر مشترك بين المسيح وسائر الأنبياء ، فلا اختصاص للمسيح بذلك .
[ ص: 321 ] الوجه الثاني : قولهم : الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، وفي بيت من البيوت يكون فيه حقا من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا .
فيقال لهم : الشعاع الذي بين السماء والأرض هو الضوء وهو النور .
فقولكم : إن الشعاع يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا ، يقتضي أنه شعاع وضوء شعاع ، ونور حدث عن ذلك ، وهذا غلط ، بل ليس هنا إلا جرم الشمس التي في السماء وشعاعها ، وهو الضوء والنور الذي ما بين السماء والأرض .
الثالث : قولكم : ( من غير مفارقة عين الشمس ) يقتضي أن هذا الشعاع هو نفس ما قام بالشمس ، وهذا مكابرة للحس والعقل ، بل الشعاع الذي قام بالهواء والأرض عرض لم يقم بالشمس فقط .
وكل شعاع بقعة ، فليس هو عين الشعاع الذي في البقعة الأخرى ، وإن كان هو نظيره ومثله ، وجنس الشعاع يجمعهما ، كما أن شعاع هذا السراج ، ليس هو شعاع هذا السراج ، وإن قدر اختلاطهما حتى يقوى الضوء ، ولا حركة هذا الهواء هي حركة هذا الهواء ، ونظائر ذلك متعددة .
الرابع : قولكم : ( كذلك الله سكن في الناسوت من غير أن يفارقه الأب ) تمثيل باطل .
[ ص: 322 ] فإن الشمس نفسها لم تكن في الهواء والأرض ، وإنما سكن شعاعها .
فوزانه أن يقال : فكذلك سكن نور الله وبرهانه ، وهداه وروحه .
وهذا إذا قلته ، فهو منقول عن الأنبياء ، تنطق كتبهم بأن نور الله وروحه وهداه في قلوب المؤمنين ، لكن لا اختصاص للمسيح بذلك .
قال الله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري الله نور السماوات والأرض .
قال : مثل نوره في قلب المؤمن . أبي بن كعب
وفي عن الترمذي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أبي سعيد إن في ذلك لآيات للمتوسمين . اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ قوله : [ ص: 323 ]
الخامس : إنكم إذا جعلتم الله نفسه ساكنا في المسيح ، فوزانه أن تكون الشمس نفسها ساكنة في موضع صغير من الأرض .
وهذا التمثيل يبطل قولكم : إن الله أعلى وأعظم وأجل وأكبر . والله أجل وأكبر وأعظم من كل شيء ، والشمس آية من آياته ومخلوق من مخلوقاته ، ومع هذا فلو قال قائل : إن الشمس سكنت في جوف امرأة وخرجت من فرج تلك المرأة ، لكان كل عاقل يعلم فساد قوله ، وينسبه إلى الجهل العظيم أو الجنون ، وسواء قال : إن الشمس نفسها نزلت أو لم تنزل .
وأنتم تقولون : إن رب العالمين سكن في بطن مريم ، ويقول أكثركم - كالملكية واليعقوبية - : إنه خرج من فرج مريم .
ولو قال قائل عما هو من أصغر مخلوقات الله ، كوكب من الكواكب أو جبل من الجبال أو صخرة عظيمة : إن ذلك كان في بطن امرأة وخرج من فرجها - لضحك الناس من قوله ، فكيف بمن يدعي مثل ذلك في رب العالمين ؟ !
وإذا قالوا : إن الله نزل إلى السماء الدنيا ، أو نزل إلى الطور وكلم موسى من العليقة أو في عمود الغمام ، ونحو ذلك - فليس في شيء من [ ص: 324 ] ذلك أنه اتحد بمخلوق ، لا سماء ولا طور ولا شجرة ، ولا كان كلامه قائما بشيء مخلوق ، لا شجرة ولا غيرها .
وعندهم أنه اتحد بالمسيح ، وكان صوت المسيح القائم به ، هو صوت رب العالمين بلا واسطة .