وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة ، وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك - لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما ، بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين .
[ ص: 421 ] وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون ، منهم الغالي في النفي والتعطيل ، ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل .
. والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل ، وكذلك طائفة من أهل الكتاب
والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية ، التوراة وغيرها ، كما جاءت في القرآن ، لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص .
ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد ، فإن ذلك مختص بهم .
وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث ; لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء ، فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا ؟
الوجه الرابع : قولهم : ( فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح ) - كلام باطل ؛ وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء ، وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى .
فسمى نفسه حيا ، كقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية .
[ ص: 422 ] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسمى بعض عباده حيا ، كقوله : يخرج الحي من الميت
مع العلم بأنه ليس الحي كالحي ، وسمى نفسه عليما ، كقوله : إن ربك حكيم عليم .
وسمى بعض عباده عليما ، كقوله : وبشروه بغلام عليم
مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم .
وسمى نفسه حليما ، بقوله : والله غني حليم وسمى بعض عباده حليما ، بقوله : فبشرناه بغلام حليم
[ ص: 423 ] وسمى نفسه رءوفا رحيما ، بقوله : إن الله بالناس لرءوف رحيم .
وسمى بعض عباده رءوفا رحيما ، بقوله : بالمؤمنين رءوف رحيم
وليس الرءوف كالرءوف ، ولا الرحيم كالرحيم .
وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا ، وسمى بعض عباده ملكا ، وبعضهم عزيزا ، وبعضهم جبارا متكبرا ، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه .
وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا ، وقدرة ورحمة وغضبا ، ورضى ويدا وغير ذلك ، وسمى بعض صفات عباده بذلك ، وليس علمه كعلمهم ، ولا قدرته كقدرتهم ، ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم ، ولا يده كأيديهم .
وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش ، ومجيئه في ظلل من الغمام ، وغير ذلك من هذا الباب ، ليس استواؤه كاستوائهم ، ولا مجيئه كمجيئهم .
وهذه : المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى ، تذكر على ثلاثة أوجه
تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها ، كقوله [ ص: 424 ] - تعالى - : ولا يحيطون بشيء من علمه الآية . إن الله هو الرزاق ذو القوة
وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم .
وتارة تطلق مجردة .
فإذا قيدت بالخالق ، لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين .
فإذا قيل : علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك ، كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق ، وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق .
وكذلك إذا قيل : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب - عز وجل - .
وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق ، تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق .
وهذه للناس فيها أقوال .
[ ص: 425 ] قيل : إنها حقيقة في الخالق ، مجاز في المخلوق ، كقول أبي العباس الناشئ .
وقيل : بالعكس كقول غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة .
وقيل : حقيقة فيهما ، وهو قول الجمهور .
ثم قيل : هي مشتركة اشتراكا لفظيا ، وقيل : متواطئة وهو قول الجمهور .
ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع - عنده - إذا قيل : مشككة ، أن تكون متواطئة ، ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة .
وهذا نزاع لفظي ، فإن المتواطئة التواطؤ العام ، يدخل فيها المشككة .
إذ المراد بالمشككة ، ما يتفاضل معانيها في مواردها ، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد ، كبياض الثلج ، والخفيف كبياض العاج ، والشديد أولى به .
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف ، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك ، وهو المعنى العام الكلي ، وهو متواطئ بهذا الاعتبار ، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا .
وأما إذا أريد بالتواطؤ ، ما تستوي معانيه ، كانت المشككة نوعا آخر .
[ ص: 426 ] لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث ، وهو خطأ أيضا .
فإن عامة المعاني العامة تتفاضل ، والتماثل فيها في جميع مواردها ، بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها ، إما قليل وإما معدوم .
فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة ، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة ، وهذا مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا ، وقد قال مع ذلك : إنه ( ليس كمثله شيء ) وإنه ( لم يكن له كفوا أحد ) وأنكر أن يكون له سمي ، كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق - قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله ، لا من قصور في بيان الله ورسوله ، ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة . أن الله - سبحانه وتعالى - إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها ، وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين
فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب ، فمن نفسه أتي ، وليس في قولنا : علم الله - ما يدل على ذلك .
وكذلك من فهم من قوله : بل يداه مبسوطتان الآية . ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه ، فمن نفسه أتي ، [ ص: 427 ] فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات .
وكذلك إذا قال : ثم استوى على العرش . من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق ، كما يفهم من قوله : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك
فمن نفسه أتي ، فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله - عز وجل - كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد .
وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي ، لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء .
فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه ، يحتاج إلى حمله .
وكان الرب - عز وجل - غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه ، وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش ، لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه - محتاجا إلى ما استوى عليه .
وليس في ظاهر كلام الله - عز وجل - ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك ، بل توهم هذا من سوء الفهم ، لا من دلالة اللفظ .
[ ص: 428 ] لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله ، تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه ، وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، علم أن استواءه ليس كاستوائه ، ومجيئه كمجيئه ، كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه ، ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه .
وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا : حي وحي ، وعالم وعالم . وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن ، وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف .
فصفات الرب - عز وجل - مختصة به ، وصفات المخلوق مختصة به ، ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق .
الوجه الخامس : استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ ، لا في ذي القدر والغلظ ، وهذا أحد موردي استعماله ، وهو الأشهر في لغة العامة ، فيقولون : هذا الثوب له جسم ، وهذا ليس له جسم ; أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا . قولهم : ( لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم )
ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر ، فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر : إنه جسم .
وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار ، تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا ، تفرقا ضل به كثير من الناس ، فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد .
[ ص: 429 ] قال غير واحد من أهل اللغة ، كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما : الجسم هو الجسد .
وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا ، فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا ، ويسمون بدن الإنسان جسدا .
وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد ، ويراد به قدر الجسد وغلظه ، قال تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم وقال تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة
وقد يراد به هذا وهذا .
ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ " الجسد " في أعم من معناه في [ ص: 430 ] اللغة ، كما فعلوا مثل ذلك في لفظ " الجوهر " ولفظ " العرض " ولفظ " الوجود " ولفظ " الذات " وغير ذلك .
فاستعملوا لفظ " الجسم " فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة .
ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه ، كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك ، هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة ، أو من المادة والصورة ، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .
فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا ، يلزمه - إذا قال : إن الله جسم - أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا .
ولهذا قالوا : إن هذا باطل وأوجبوا - على أصلهم - نفي مسمى هذا الاسم ، وهذا هو المشهور عند هؤلاء .
ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، قال : يلزمني إذا قلت : هو جسم أن يكون مركبا .
فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ " الجسم " ، وأراد به القائم بنفسه أو الموجود ، كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر ، وقالوا : أردنا بالجوهر القائم بنفسه . وكما قال هؤلاء : ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض .
فإن الوجود إما قائم بنفسه ، وهو الجوهر ، أو بغيره ، وهو العرض ، والجوهر أشرف القسمين .
[ ص: 431 ] وقال الآخرون : ليس في الوجود إلا قائم بنفسه ، وهو الجسم أو قائم بغيره ، وهو العرض ، والجسم أشرف القسمين . وقال : فما سماه أولئك جوهرا ، سماه أولئك جسما ، وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية .
وإذا قال هؤلاء : هو جوهر لا كالجواهر ، كما يقال : هو شيء لا كالأشياء .
قال أولئك : هو جسم لا كالأجسام ، كما يقال : هو شيء لا كالأشياء .
وإذا قال هؤلاء : الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف ، قال أولئك : والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف .
والمقصود هنا ، أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين ، وسموه جسما - نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا ، كنزاع النصارى في لفظ " الجوهر " ، وقد يكون عقليا ، كنزاعهم في المشار إليه ، هل هو مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، أو لا من هذا ولا من هذا .
ومن قال من القائلين بأنه جسم ، فيقول : إنه مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند [ ص: 432 ] جماهير المسلمين وغيرهم ، وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء ، إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي ، كما قد بسط في موضع آخر .
بخلاف من كان نزاعه لفظيا ، فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا ; لكونه أطلق لفظا لم يأذن به الشرع ، أو استعمله في خلاف معناه اللغوي ، كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا ، إذا كان معناه صحيحا .
وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا ، فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا .
وأما الشرع ، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، لم يقولوا : إن الله جسم ، ولا إنه ليس بجسم ، ولا إنه جوهر ، ولا إنه ليس بجوهر .
لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء ، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء .
مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات ، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها ، ويخرج منها ما هو داخل فيها . والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم ، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال ، وأنه ليس كمثله شيء ، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين ،
[ ص: 433 ] إذا تبين هذا ، فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله - تعالى - موصوف بما وصف به نفسه ، وأنه ليس كمثله شيء ، وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل ، لم يكن عليهم ملام ; لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل ، ونفوا ما نفته الرسل ، فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل .
بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل ، وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه ، وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة ، ولا من المادة والصورة .
أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما ، فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها ، ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا .
فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا ، إذ كل نقص نفي عن المخلوق ، فالخالق أحق بتنزيهه منه .
وأما على القول الآخر ، فتارة يقولون : لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه ، وذلك ممتنع في حق الله - تعالى - ، وتارة يقولون : لأنه مفتقر إلى أجزائه ، وذلك ممتنع في حق الله [ ص: 434 ] - تعالى - ، إذ جزؤه غيره ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا ، كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر .
ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية ، فكما لا يقول : هو جسم وجوهر ، لا يقول : ليس بجسم ولا جوهر .
ومنهم من يطلق هذه الألفاظ ، وهؤلاء منهم من ينفيها ، ومنهم من يثبتها .
وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع ، وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع .
وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي ، وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا .
والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع ، إذ لم يكن في ذلك شرع ، وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول ، ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة ، كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة .
فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا ، وروح قدس ، ولا ربا ، فسمى النصارى علمه وحياته ابنا ، وروح قدس ، وربا ، ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك .
كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية ، أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه [ ص: 435 ] شيئا عن شيء ، وهذا خلاف اللغة ، فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء ، قال تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا فسمى الإنسان وحيدا ، وقال تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف فسمى المرأة واحدة ، وما أمرنا إلا واحدة وقال : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا .
وكذلك قوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد فنفى أن يكون أحد كفوا له .
[ ص: 436 ] فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا ، لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له ، فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها ، فإن لم يدخل في أحد ، لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها .
فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه ، قالوا : والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا ، فيجب أن لا يكون مشارا إليه .
ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة .
وكذلك الذين قالوا : " هو جسم " غيروا اللغة ، وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه ، أو لكل موجود ، ولكل قائم بنفسه .
ثم قالوا : هو موجود ، أو قائم بنفسه ، أو مشار إليه ، فيكون جسما
ولا يوجد في اللغة اسم الجسم ، لا لهذا ، ولا لهذا ، ولا لهذا .
وقالوا : لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة ، ولا من المادة والصورة .
وقال أولئك : بل يلزم أن كل مركب ، يسمى في اللغة جسما ، فيلزم أن يسمى جسما ، إذا قلنا : هو مشار إليه ، أو يرى بالأبصار ، أو متصفا بصفات تقوم به .
وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم ، فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب ، بل الجسم عندهم هو الجسد ، ولا يسمون الهواء جسما .
[ ص: 437 ] إذا تبين هذا ، فتمثيل هؤلاء النصارى باطل ، على قول كل طائفة من طوائف المسلمين .
فمنهم من يقول : الجسم - في اللغة - هو المركب ، والله ليس بمركب ، فليس بجسم . لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان ، وجنب ونحو ذلك .
وكذلك من قال : إن الله ليس بمركب ، وسماه جسما ، بمعنى أنه قائم بنفسه ، أو لم يسمه جسما ، لا يقول بذلك أيضا ، ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة ، فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه ، فلا حجة للنصارى عليهم ، وإن لم يطلقوه ، فحجتهم أبعد .
فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم ، فضلا عن غيرهم .