الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة ، وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك - لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما ، بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين .

[ ص: 421 ] وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون ، منهم الغالي في النفي والتعطيل ، ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل .

والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل ، وكذلك طائفة من أهل الكتاب .

والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية ، التوراة وغيرها ، كما جاءت في القرآن ، لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص .

ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد ، فإن ذلك مختص بهم .

وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث ; لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء ، فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا ؟

الوجه الرابع : قولهم : ( فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح ) - كلام باطل ؛ وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء ، وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى .

فسمى نفسه حيا ، كقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية .

[ ص: 422 ] وتوكل على الحي الذي لا يموت وسمى بعض عباده حيا ، كقوله : يخرج الحي من الميت

مع العلم بأنه ليس الحي كالحي ، وسمى نفسه عليما ، كقوله : إن ربك حكيم عليم .

وسمى بعض عباده عليما ، كقوله : وبشروه بغلام عليم

مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم .

وسمى نفسه حليما ، بقوله : والله غني حليم وسمى بعض عباده حليما ، بقوله : فبشرناه بغلام حليم

[ ص: 423 ] وسمى نفسه رءوفا رحيما ، بقوله : إن الله بالناس لرءوف رحيم .

وسمى بعض عباده رءوفا رحيما ، بقوله : بالمؤمنين رءوف رحيم

وليس الرءوف كالرءوف ، ولا الرحيم كالرحيم .

وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا ، وسمى بعض عباده ملكا ، وبعضهم عزيزا ، وبعضهم جبارا متكبرا ، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه .

وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا ، وقدرة ورحمة وغضبا ، ورضى ويدا وغير ذلك ، وسمى بعض صفات عباده بذلك ، وليس علمه كعلمهم ، ولا قدرته كقدرتهم ، ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم ، ولا يده كأيديهم .

وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش ، ومجيئه في ظلل من الغمام ، وغير ذلك من هذا الباب ، ليس استواؤه كاستوائهم ، ولا مجيئه كمجيئهم .

وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى ، تذكر على ثلاثة أوجه :

تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها ، كقوله [ ص: 424 ] - تعالى - : ولا يحيطون بشيء من علمه الآية . إن الله هو الرزاق ذو القوة

وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم .

وتارة تطلق مجردة .

فإذا قيدت بالخالق ، لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين .

فإذا قيل : علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك ، كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق ، وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق .

وكذلك إذا قيل : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب - عز وجل - .

وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق ، تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق .

وهذه للناس فيها أقوال .

[ ص: 425 ] قيل : إنها حقيقة في الخالق ، مجاز في المخلوق ، كقول أبي العباس الناشئ .

وقيل : بالعكس كقول غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة .

وقيل : حقيقة فيهما ، وهو قول الجمهور .

ثم قيل : هي مشتركة اشتراكا لفظيا ، وقيل : متواطئة وهو قول الجمهور .

ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع - عنده - إذا قيل : مشككة ، أن تكون متواطئة ، ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة .

وهذا نزاع لفظي ، فإن المتواطئة التواطؤ العام ، يدخل فيها المشككة .

إذ المراد بالمشككة ، ما يتفاضل معانيها في مواردها ، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد ، كبياض الثلج ، والخفيف كبياض العاج ، والشديد أولى به .

ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف ، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك ، وهو المعنى العام الكلي ، وهو متواطئ بهذا الاعتبار ، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا .

وأما إذا أريد بالتواطؤ ، ما تستوي معانيه ، كانت المشككة نوعا آخر .

[ ص: 426 ] لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث ، وهو خطأ أيضا .

فإن عامة المعاني العامة تتفاضل ، والتماثل فيها في جميع مواردها ، بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها ، إما قليل وإما معدوم .

فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة ، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة ، وهذا مبسوط في موضع آخر .

والمقصود هنا أن الله - سبحانه وتعالى - إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها ، وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين ، وقد قال مع ذلك : إنه ( ليس كمثله شيء ) وإنه ( لم يكن له كفوا أحد ) وأنكر أن يكون له سمي ، كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق - قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله ، لا من قصور في بيان الله ورسوله ، ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة .

فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب ، فمن نفسه أتي ، وليس في قولنا : علم الله - ما يدل على ذلك .

وكذلك من فهم من قوله : بل يداه مبسوطتان الآية . ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي

ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه ، فمن نفسه أتي ، [ ص: 427 ] فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات .

وكذلك إذا قال : ثم استوى على العرش . من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق ، كما يفهم من قوله : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك

فمن نفسه أتي ، فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله - عز وجل - كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد .

وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي ، لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء .

فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه ، يحتاج إلى حمله .

وكان الرب - عز وجل - غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه ، وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش ، لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه - محتاجا إلى ما استوى عليه .

وليس في ظاهر كلام الله - عز وجل - ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك ، بل توهم هذا من سوء الفهم ، لا من دلالة اللفظ .

[ ص: 428 ] لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله ، تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه ، وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، علم أن استواءه ليس كاستوائه ، ومجيئه كمجيئه ، كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه ، ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه .

وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا : حي وحي ، وعالم وعالم . وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن ، وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف .

فصفات الرب - عز وجل - مختصة به ، وصفات المخلوق مختصة به ، ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق .

الوجه الخامس : قولهم : ( لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم ) استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ ، لا في ذي القدر والغلظ ، وهذا أحد موردي استعماله ، وهو الأشهر في لغة العامة ، فيقولون : هذا الثوب له جسم ، وهذا ليس له جسم ; أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا .

ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر ، فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر : إنه جسم .

وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار ، تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا ، تفرقا ضل به كثير من الناس ، فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد .

[ ص: 429 ] قال غير واحد من أهل اللغة ، كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما : الجسم هو الجسد .

وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا ، فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا ، ويسمون بدن الإنسان جسدا .

وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد ، ويراد به قدر الجسد وغلظه ، قال تعالى : وزاده بسطة في العلم والجسم وقال تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة

وقد يراد به هذا وهذا .

ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ " الجسد " في أعم من معناه في [ ص: 430 ] اللغة ، كما فعلوا مثل ذلك في لفظ " الجوهر " ولفظ " العرض " ولفظ " الوجود " ولفظ " الذات " وغير ذلك .

فاستعملوا لفظ " الجسم " فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة .

ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه ، كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك ، هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة ، أو من المادة والصورة ، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .

فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا ، يلزمه - إذا قال : إن الله جسم - أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا .

ولهذا قالوا : إن هذا باطل وأوجبوا - على أصلهم - نفي مسمى هذا الاسم ، وهذا هو المشهور عند هؤلاء .

ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا ، قال : يلزمني إذا قلت : هو جسم أن يكون مركبا .

فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ " الجسم " ، وأراد به القائم بنفسه أو الموجود ، كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر ، وقالوا : أردنا بالجوهر القائم بنفسه . وكما قال هؤلاء : ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض .

فإن الوجود إما قائم بنفسه ، وهو الجوهر ، أو بغيره ، وهو العرض ، والجوهر أشرف القسمين .

[ ص: 431 ] وقال الآخرون : ليس في الوجود إلا قائم بنفسه ، وهو الجسم أو قائم بغيره ، وهو العرض ، والجسم أشرف القسمين . وقال : فما سماه أولئك جوهرا ، سماه أولئك جسما ، وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية .

وإذا قال هؤلاء : هو جوهر لا كالجواهر ، كما يقال : هو شيء لا كالأشياء .

قال أولئك : هو جسم لا كالأجسام ، كما يقال : هو شيء لا كالأشياء .

وإذا قال هؤلاء : الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف ، قال أولئك : والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف .

والمقصود هنا ، أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين ، وسموه جسما - نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا ، كنزاع النصارى في لفظ " الجوهر " ، وقد يكون عقليا ، كنزاعهم في المشار إليه ، هل هو مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، أو لا من هذا ولا من هذا .

ومن قال من القائلين بأنه جسم ، فيقول : إنه مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند [ ص: 432 ] جماهير المسلمين وغيرهم ، وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء ، إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي ، كما قد بسط في موضع آخر .

بخلاف من كان نزاعه لفظيا ، فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا ; لكونه أطلق لفظا لم يأذن به الشرع ، أو استعمله في خلاف معناه اللغوي ، كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا ، إذا كان معناه صحيحا .

وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا ، فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا .

وأما الشرع ، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، لم يقولوا : إن الله جسم ، ولا إنه ليس بجسم ، ولا إنه جوهر ، ولا إنه ليس بجوهر .

لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء ، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء .

والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم ، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال ، وأنه ليس كمثله شيء ، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين ، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات ، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها ، ويخرج منها ما هو داخل فيها .

[ ص: 433 ] إذا تبين هذا ، فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله - تعالى - موصوف بما وصف به نفسه ، وأنه ليس كمثله شيء ، وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل ، لم يكن عليهم ملام ; لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل ، ونفوا ما نفته الرسل ، فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل .

بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل ، وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه ، وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة ، ولا من المادة والصورة .

أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما ، فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها ، ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا .

فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا ، إذ كل نقص نفي عن المخلوق ، فالخالق أحق بتنزيهه منه .

وأما على القول الآخر ، فتارة يقولون : لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه ، وذلك ممتنع في حق الله - تعالى - ، وتارة يقولون : لأنه مفتقر إلى أجزائه ، وذلك ممتنع في حق الله [ ص: 434 ] - تعالى - ، إذ جزؤه غيره ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا ، كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر .

ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية ، فكما لا يقول : هو جسم وجوهر ، لا يقول : ليس بجسم ولا جوهر .

ومنهم من يطلق هذه الألفاظ ، وهؤلاء منهم من ينفيها ، ومنهم من يثبتها .

وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع ، وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع .

وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي ، وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا .

والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع ، إذ لم يكن في ذلك شرع ، وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول ، ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة ، كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة .

فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا ، وروح قدس ، ولا ربا ، فسمى النصارى علمه وحياته ابنا ، وروح قدس ، وربا ، ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك .

كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية ، أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه [ ص: 435 ] شيئا عن شيء ، وهذا خلاف اللغة ، فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء ، قال تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا فسمى الإنسان وحيدا ، وقال تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف فسمى المرأة واحدة ، وما أمرنا إلا واحدة وقال : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا .

وكذلك قوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد فنفى أن يكون أحد كفوا له .

[ ص: 436 ] فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا ، لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له ، فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها ، فإن لم يدخل في أحد ، لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها .

فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه ، قالوا : والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا ، فيجب أن لا يكون مشارا إليه .

ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة .

وكذلك الذين قالوا : " هو جسم " غيروا اللغة ، وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه ، أو لكل موجود ، ولكل قائم بنفسه .

ثم قالوا : هو موجود ، أو قائم بنفسه ، أو مشار إليه ، فيكون جسما

ولا يوجد في اللغة اسم الجسم ، لا لهذا ، ولا لهذا ، ولا لهذا .

وقالوا : لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة ، ولا من المادة والصورة .

وقال أولئك : بل يلزم أن كل مركب ، يسمى في اللغة جسما ، فيلزم أن يسمى جسما ، إذا قلنا : هو مشار إليه ، أو يرى بالأبصار ، أو متصفا بصفات تقوم به .

وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم ، فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب ، بل الجسم عندهم هو الجسد ، ولا يسمون الهواء جسما .

[ ص: 437 ] إذا تبين هذا ، فتمثيل هؤلاء النصارى باطل ، على قول كل طائفة من طوائف المسلمين .

فمنهم من يقول : الجسم - في اللغة - هو المركب ، والله ليس بمركب ، فليس بجسم . لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان ، وجنب ونحو ذلك .

وكذلك من قال : إن الله ليس بمركب ، وسماه جسما ، بمعنى أنه قائم بنفسه ، أو لم يسمه جسما ، لا يقول بذلك أيضا ، ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة ، فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه ، فلا حجة للنصارى عليهم ، وإن لم يطلقوه ، فحجتهم أبعد .

فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم ، فضلا عن غيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية