الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السادس : أن يقال لهؤلاء النصارى : إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو الجسد ، وإما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام ، كالمشار إليه مثلا .

فإن عنيتم الأول ، لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون : إنه جوهر ، وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف .

فإذا كان الكثيف هو الجسم ، واللطيف جوهر ليس بجسم ، لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة ، [ ص: 438 ] فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك ، وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح ، بل هي جواهر روحانية ، وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه ، لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك ، وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير .

فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء ، لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها .

وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه ، لم يمتنع - عندكم - أن يكون جسما ، فإنكم سميتموه جوهرا ، وعنيتم القائم بنفسه .

فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه ، كان أيضا مشارا إليه .

وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه ، كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه ، ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما ، فتبين أنه على - أصلكم - لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا ، إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه ، وهذا لم يقيموا عليه دليلا ، وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى ، وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة ، وقليل من أهل الملل وافقوهم .

ثم يقال لكم : أنتم قلتم : إنه حي ناطق ، وله حياة ونطق ، بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة .

[ ص: 439 ] ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف ، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه ، بل ما هو جسم كالإنسان .

فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم ، جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم .

وإن قلتم : هذا لا يعقل إلا لجسم ، قيل لكم : وذلك لا يعقل إلا لجسم ، فإن رجعتم إلى الشاهد ، كان حجة عليكم ، وإن جاز لكم أن تثبتوا في الغائب حكما على خلاف الشاهد ، جاز لغيركم ، وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه ، لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه ، فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين ؟

الوجه السابع : أن يقال : غاية مقصودكم أن تقولوا : إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم ، لمجيء النص بها ، وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها ، كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر ، لمجيء النص بها ، ونحن لا نعتقد مدلولها .

فيقال لكم : أولا : إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم ، كما وردت به التوراة ، فهذا مشترك بينكم وبينهم ، وما اختصصتم به من التثليث ، والاتحاد لم يشركوكم فيه .

ثم يقال ثانيا : إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص ، وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص .

[ ص: 440 ] والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل .

وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد .

والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا .

وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل .

والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها .

وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل ، وحملتم كلام الرسل عليها .

والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة .

وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا .

والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل .

وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل .

والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل .

وأنتم قلتم قولا لا يعقل .

والمسلمون لم يتناقضوا ، فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونه [ ص: 441 ] اثنين ، بل ثلاثة ، وأنتم تناقضتم .

فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين .

الوجه الثامن : قولكم : وكذلك - نحن النصارى - العلة في قولنا : ( إن الله ثلاثة أقانيم ، أب ، وابن ، وروح قدس ، أن الإنجيل نطق به .

فيقال لكم : هذا باطل ، فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولا شيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم ، ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها ، ولا قال المسيح ولا غيره : إن الله هو الأب والابن وروح القدس ، ولا إن له أقنوما هو الابن ، وأقنوما هو روح القدس ، ولا قال : إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه ، وإن روح القدس حياته ، ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا ، ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود ، ولا جعل القديم الأزلي مولودا ، ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق ، إنه إله حق من إله حق ، ولا قال عن صفات الله إنها آلهة ، وإن الكلمة إله والروح إله ، ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر ، بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل ، فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة ، وكنتم ممن قيل فيهم : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

[ ص: 442 ] فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا ، وقلتم : سميناه ابنا ; لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل ، فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا ; لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا ، إذ لا فرق بين علم الرب وحياته .

فعلمه لازم له وحياته لازمة له ، فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا .

وقلتم : إنه مولود من الله ، وإنه قديم أزلي ، وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه .

والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره ، كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان ، أنه حادث فيه أو منفصل عنه ، لا يعقل أنه قائم به ، وأنه متولد منه قديم أزلي .

ثم قلتم في أمانتكم ، إنه تجسم من روح القدس ، أو منه ومن مريم .

وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس .

وإن كان تجسم من روح القدس ، فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن .

ثم تقولون : هو كلمة الله وروحه ، فيكون حينئذ أقنومين ، أقنوم الكلمة وأقنوم الروح ، وإنما هو عندكم أقنوم واحد .

[ ص: 443 ] فهذا تناقض وحيرة ، تجعلونه الابن الذي هو الكلمة ، وهو أقنوم الكلمة فقط

وتقولون : تجسم من روح القدس ، ولا تقولون : إنه تجسم من الكلمة .

وتقولون : هو كلمة الله وروحه ، والكلمة والروح أقنومان .

ولا تقولون : إنه أقنومان ، بل أقنوم واحد .

وتقولون : إنه خالق العالم ، والخالق هو الأب وتقولون : ليس هو الأب ، وتقولون : إله حق من إله حق ، وتقولون : إله واحد ساوى الأب في الجوهر .

وتقولون : ليس له مثل ، وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء ، فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء ، ولم يحرفها ؟

وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل " متى " دون سائر الأناجيل من أن المسيح - عليه السلام - قال : ( عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس ) .

وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم يريدون بالابن صفة الله ، لا كلامه ولا علمه ولا حكمته .

ولا يريدون بالابن : إله حق من إله حق ، ولا مولود قديم أزلي ، [ ص: 444 ] بل يريدون به وليه ، وهو ناسوت لا لاهوت ، كيعقوب والحواريين .

ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله ، ولا يريدون به أنه رب حي ، وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك .

فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم ، كما كانت في داود وغيره وكانت في الحواريين .

فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله ، وتارة في وليه الناسوت ، وروح القدس مستعملا تارة في حياته ، وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه - كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا .

فما وصف به المسيح من أنه ابن الله ، ومن أن روح القدس فيه - قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين .

فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله ، وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح ، إذ الذي حل في المسيح حل في غيره .

ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم ، وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة ، ثم تفرقتم في الثلاثة ، هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة ، أو الحكمة والكلام ، أو النطق [ ص: 445 ] بدل لفظ العلم ، أو المراد الوجود والعلم والقدرة ، بدل الحياة ، أو المراد الوجود والحياة والقدرة ، أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة ؟ إلى أقوال أخرى يطول أمرها .

فيا ليت شعري ، ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها ، لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم ؟

والأقانيم - لفظا ومعنى - لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء ، بل قيل فيها : إنها لفظة رومية ، يفسرونها تارة بالأصل ، وتارة بالشخص ، وتارة بالذات مع الصفة ، ويفسرونها تارة بالخاصة ، وتارة بالصفة .

فهلا تركتم كلام المسيح على حاله ، ولم تحرفوه هذه التحريفات .

ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال : لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه ، لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر ، إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا ، ليس معهم علم لا نقل ولا عقل ، فهم كما قال الله - تعالى - : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير

وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم ، بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك ، وهو علم يهتدون به ، فليسوا [ ص: 446 ] بمهتدين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو " كتاب منير " فليس معهم به كتاب منير .

ولو تكلمتم بهذا الكلام ، وقلتم : لا نفهم معناه أو ظاهره باطل ، وله تأويل مقبول ، كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات - لكان هذا أقرب إلى القياس .

فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم ؟

وذلك يتبين بالوجه التاسع : وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره ، إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه ، لا نصا ولا ظاهرا ، فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .

فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام ، لم تضلوا ، فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء ، لا يراد به شيء من صفات الله ، بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك ، وروح القدس يراد به صفته ، بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك ، فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة ، فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء ؟

الوجه العاشر : أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله ، كما بالغتم في سب الله وشتمه ، وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم ، فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفرا لا ترضونه ، مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة ، أو ثلاثة أجسام مؤلفة ، أو ثلاثة أجزاء مفرقة ، أو ثلاثة أشخاص مركبة .

فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح - عليه السلام - .

[ ص: 447 ] وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر ، بل تكفرون قائله ، كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل .

وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة ، وثلاثة أشخاص مؤلفة ، وثلاثة أجزاء متفرقة ، وثلاثة أشخاص مركبة .

كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم ، وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه ، وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر ، وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين ، وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب ، وأنه إله حق من إله حق ، والروح أيضا إله ثالث ، والآلهة الثلاثة إله واحد .

وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح ، وممن افترى عليه منكم ومن غيركم .

فإن المسيح - عليه السلام - على قولكم - لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها ، ولا بتوحيد تعرفون به ربكم - عز وجل - ، بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة ، وثلاثة أجسام مركبة ، وثلاثة أجزاء متفرقة ، وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم ، ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول ، ولكل كتاب جاء به رسول ، مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط ، ولا باتحاد ، ولا بما يدل على ذلك .

وعمدتم على ما نقله " متى " عنه دون الثلاثة أنه قال : ( عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ) .

[ ص: 448 ] وهذا الكلام ظاهر ، بل نصه حجة على خلاف قولكم ، وأنه أراد بالابن نفسه ، وهو الناسوت ، ولم يرد به صفة الله ، وأراد بروح القدس ما أيده الله به ، أو روح القدس الذي نفخ في أمه حتى حبلت به ، لم يرد به صفة الله - تعالى - .

فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره ، تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول ، فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه ؟

ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له ، صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل ، وإن كانت الأدلة تظهر بفساده .

ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك ، وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده ، فإنه غير معقول .

وقالوا : إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى ، فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه .

وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد ، والواحد ثلاثة ، وهذا لا يصح اعتقاده ; لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة ، مع اعتقاده فيه أنه واحد ; لأن ذلك متضاد .

وإذا كان ذلك كذلك ، فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة ، أو أنه واحد .

وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة ، وأن الثلاثة واحد ; لأن ذلك لا يعقل .

[ ص: 449 ] وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم ، أو قديم محدث ، أو في الجسم أنه قائم قاعد ، متحرك ساكن .

وإذا كان كذلك ، فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة .

وإذا قال النصارى : إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات .

قيل : لو اقتصرتم على قولكم : إنه واحد له صفات متعددة ، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين ، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث ، فإن هذا باطل من وجوه متعددة :

منها : أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة ، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم ، فيكون جوهرا واحدا له أقنومان ، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم .

ومنها : أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة ، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها .

ومنها : أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة ، وتارة بالقدرة ، وتارة بالوجود .

وتفسرون الكلمة تارة بالعلم ، وتارة بالحكمة ، وتارة بالكلام .

فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات ، كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها . فتجعلون الحياة إلها ، والعلم إلها ، وهذا باطل .

وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم ، فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم : إذا قيل : ألستم تقولون : إن الأبعاض [ ص: 450 ] الكثيرة تكون إنسانا واحدا ، والآحاد الكثيرة عشرة واحدة ، والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة ، وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى ، وأظهر من أن يخفى .

فكيف عبتم ذلك من النصارى ؟ ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا ؟

قيل : إن قولنا : إنسان واحد ، ودار واحدة ، وعشرة واحدة ، وما يجري هذا المجرى ، أسماء تنبئ عن الجمل لا عن آحاد .

وإذا قلنا : إنسان واحد ، فكأنا قلنا : جملة واحدة ، وكذلك إذا قلنا : عشرة واحدة ، لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة .

كيف ونحن نقول : إن أبعاض الإنسان متغايرة ، فكل بعض منها غير سائرها ، وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها ؟

فنحن وإن قلنا : إنسان واحد ، فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه ، ولو أثبتنا ذلك ، لتناقضنا مناقضة النصارى ، وإنما قلنا : هي جملة واحدة ، ولو قالت النصارى مثل ذلك ، لم تتناقض ، حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة .

فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة ، بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا : الأبعاض الكثيرة - أنه إنسان واحد .

فيكون وصفهم لها بأنها جوهر ، إنما ينبئ أنها جملة ، وليس هذا مما يذهبون إليه ، ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى ; لأنهم لا يعطون [ ص: 451 ] حقيقة التثليث ، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة ، ولا حقيقة التوحيد ، فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك .

وإذا كان ذلك كذلك ، فما قالوه هو شيء لا يعقل ، ولا يصلح اعتقاده ، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال .

فيقال لهم : إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا ، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا ، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا ، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا ، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا ، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا ، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا ، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة ؟ فلا يجدون فصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية