الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم - بعض طوائفهم ، وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد .

وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون .

ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم ، سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام ، وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه - بزعمه - نصر مذهبهم ، وهو ملكي ، وقد ذكرت [ ص: 467 ] كلامه في غير هذا الموضع .

وفيهم من يقول : إن مريم زوجة الله ، وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح .

وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله ، الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان .

والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن " قسطنطين " بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة ، هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة .

لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها ، مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا .

وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال : حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم ، الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء ، ويقولون : إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه ، أو إنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها ، وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر .

فإن هؤلاء الطوائف ، وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع ، فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة .

[ ص: 468 ] بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة ، ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء .

الوجه الرابع عشر : قولهم : ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح ، ومن أراد ولادة زوجة لعناه .

فيقال : لفظ الولادة المعروفة ، إنما يكون من أصلين ، وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين ، وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها ، كما تتولد النار من بين الزنادين ، فإذا قدح أحدهما بالآخر ، خرج منهما جزء لطيف ، فاستحال نارا ، ثم سقط على الحراق .

وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء ، وإن لم يكن بانفصال جزء منه ، كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها ; لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار ، والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه ، وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع .

فأما ما يحدث عن شيء واحد ، فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك ، وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا .

فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له ، فهذا أبعد [ ص: 469 ] شيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة ، بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين .

وكل من قال : إن لله ولدا ، لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة ، وأن يكون له ولد حادث ، ولهذا قال تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم . فاستفهم تعالى استفهام إنكار ، ليبين امتناع أن يكون له ولد ، إذ لم تكن له صاحبة ، فإن الولد لا يكون إلا من أصلين ، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له ، فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف ، لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له ، كعلمه وحياته ، لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها ، فإن صفات العبد اللازمة له ، كحياته وقدرته ونحو ذلك ، ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء .

ولا يقول عاقل يعقل ما يقول : إن لون السماء وقدرها متولد عنها ، ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها ، ولا يقول أحد : إن حرارة النار وضوءها القائم بها متولد عنها .

[ ص: 470 ] وإنما يقال : إن قيل فيما ليس بقائم بها ، بل قائم بغيرها ، أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن ، كالشعاع القائم بالأرض والحيطان ، وهذا ليس بقائم بها ، بل قائم بغيرها ، هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد .

فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له ، فلا يقول أحد من العقلاء : إنها متولدة عنه .

والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته ، وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته - هي صفة له قديمة أزلية ، لم يزل ولا يزال موصوفا بها .

ويقولون - مع ذلك - : إن الكلمة هي مولودة منه ، فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه ، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه .

وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه ، لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم ، فإنه أنواع كثيرة ، فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال : إنها ابنه وولده ومتولد عنه ، ونحو ذلك ، فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه ، وإن لم يكن كذلك ، فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه .

وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين ، يقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه ، بل يخصون [ ص: 471 ] ذلك بالكلمة ، فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا ، ولا قال : إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه ، أو هو متولد عنه .

فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها ، ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية ، ومخالفون لجميع لغات الآدميين ، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم ، فإنهم قالوا : تولدت الكلمة عنه ، كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل .

فيقال لهم : لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا ، فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن ، وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا .

فأما صفاتنا اللازمة لنا ، التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها ، ولم نزل متصفين بها ، فلا يقول عاقل : إنها متولدة فينا وعنا .

وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها ، متولدة عنه .

فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمر معروف في اللغة والعقل والشرع ، لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه ، لم يزل مولودا منه ; لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة .

أما العقل ، فإن صفة الموصوف اللازمة له - وإن كان مخلوقا - [ ص: 472 ] ليست متولدة عنه ، فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم ؟

ولو جاز هذا ، جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه ، فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها .

ويقال : إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه ، وإن حياة الحي متولدة عنه ، وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها .

وأما الشرع ، فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا ، لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء ، إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا .

وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم ، لم يجد أحدا من الأنبياء يسمي علم الله وكلمته وحياته ولدا له ، ولا ابنا له ، ولا قال : إن ذلك يتولد عنه .

فقولهم عن المسيح : عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس : إنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية ، وإنها متولدة منه ، وإنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية - كذب محض على المسيح - عليه السلام - لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته ، ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا ، ولا سموا حياته روح القدس .

وأما اللغة ، فإن هذا التعبير الذي ذكروا - وهو تسمية صفات [ ص: 473 ] الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا - لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة .

وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد ، وإن لم يكن متولدا عنه ، كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم ، ولهذا نزه الله - تعالى - نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون وقال تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم . وقال تعالى : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

وأما اتخاذ الولد ، ففي مواضع متعددة ، كقوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وقوله تعالى : [ ص: 474 ] وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين . وقوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء

وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا ، وتسمية الله أبا ، وتسمية المصطفين أبناء ، وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء ، فإنهم لا يعنون به إلا معنى صحيحا

واللفظ قد يكون له في لغة معنى ، وله في لغة أخرى معنى غير ذلك ، والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله - عز وجل - .

[ ص: 475 ] وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا ، فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء ، ولا الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى . ولم يبق للتولد إلا معنيان : أحدهما : أن ينفصل عنه جزء ، والثاني : أن يحدث عنه شيء ، إما باختياره ، وإما بغير اختياره وقدرته ، كحدوث الشعاع عن النار والشمس .

وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين ، ولا بد أن يكون حادثا ، لا يكون من صفاته اللازمة له ، فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما .

والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته ، ممتنع عند أهل الملل ، المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم ، سوى طائفة من المتفلسفة يقولون : إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه ، فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد .

والنصارى تكفر هؤلاء ، لكن قد ضاهوهم في القول ، كما قال تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .

وهذا قاله طائفة من اليهود ، وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعه .

[ ص: 476 ] قال أبو محمد بن حزم : والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق ، وهم يقولون - من بين سائر اليهود - : إن العزير ابن الله ، وكانوا بجهة اليمن .

ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه ، وإن سمي ذلك تولدا ، فهم يجعلون ولده منفصلا عنه ، لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره ، ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه .

وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا ، جعلوه حادثا منفصلا عنه .

فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا ، فهذا لا يعرف عن غير النصارى ، فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق ، والصفة القائمة به اللازمة له ، لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم - تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه ، وإما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته ، وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل .

[ ص: 477 ] وبعض علمائهم ، وإن أنكر ذلك ، لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس ، ويقولون عن الروح : هو منبثق من الله خارج منه .

وهذا كله يناسب الولادة التي هي خروج شيء منه ، أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته ، ولا بد له - مع ذلك - من محل يقوم به ، فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض .

والأمر المنبثق الخارج من غيره ، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه ، أو صفة قائمة بغيرها .

فإن كان جوهرا ، فقد انفصل من الرب جزء .

وإن كان عرضا ، فلا بد له من محل ، فيكون متولدا عن أصلين .

وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل ، فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته ، وهو حادث بعد أن لم يكن .

هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة ، يقال : إنه يتولد عنه ، ويقال : إنه ابنه ، مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات ، ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم ، لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء ، إن لم يكن معروفا في لغتهم .

وأما ما يدعونه ، فإنهم يقولون : إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا ، وهي مولودة منه ، مع أنها غير مصنوعة ، فهذا كلام متناقض باطل من وجوه .

[ ص: 478 ] فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره ، وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء ، وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا ، وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له ، ولا متولدة عنه ، بل هي قائمة به لازمة لذاته .

وأيضا ، فإن المولود اسم مفعول ، يقال : ولده يلده فهو مولود ، وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد ، فإنه مفعول فعل الوالد .

والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا .

وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا ، لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء - عليهم السلام - .

فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله ، لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء ، ونحمل كلام الأنبياء عليها ، فإن هذا كذب عليهم .

وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء ، يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء ، ويحملون كلام الأنبياء عليه .

مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد ، وكفروا من أثبت إلهين اثنين ، وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه ، وحرموا الشرك وكفروا أهله ، وأخبروا أن الله واحد أحد ، وكان مرادهم بذلك توحيده ، وأنه لا يجوز أن [ ص: 479 ] يعبد إلا الله ، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو ، ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته .

فلم يقصدوا بلفظ " الأحد والواحد " أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات .

فجاء طائفة من أهل البدع ، ففسروا لفظ اسم " الواحد والأحد " بما جعلوه اصطلاحا لهم ، فقالوا : الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم ، ولو كان له صفات لكان مركبا ، ولو قامت به الصفات لكان جسما ، والجسم مركب من الجواهر المنفردة ، أو من المادة والصورة ، فلا يكون أحدا ولا واحدا .

فيقال : هذا الذي قالوه ، لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة ، فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق ، فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم ؟

بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا ، بل يسمونه وحيدا ، وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا ، كقوله : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله : ذرني ومن خلقت وحيدا وأمثال ذلك .

[ ص: 480 ] وأما البحث العقلي في هذا ، فقد بسطناه في غير هذا الموضع ، وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا ، كقولهم : إن الشيء مركب من وجود وماهية ، وقولهم : إن الأنواع مركبة من الأجناس والفصول ، هو باطل عند جميع جمهور العقلاء .

وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات ، ليس في الخارج وجود القائم بنفسه ، وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا .

ولكن قد يعنى بلفظ " ماهية " ما يتصور في الأذهان ، وبالوجود ما يوجد في الأعيان ، وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود ، وحينئذ فيقال : هذه الماهية غير هذا الوجود .

وكذلك قولهم : إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل ، فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات .

ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق ، كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك ، وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع .

وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية ، وما جعلوه خارجا عنها لازما لها ، وما هو مجموع أجزاء الماهية ، يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة .

[ ص: 481 ] ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة ، أو من المادة والصورة .

وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا ، كما قد بسط في موضع آخر .

والمقصود هنا ، أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس ، لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم ، ويحمل كلامهم عليها .

بل إذا كان لبعض الناس - عادة ولغة - يخاطب بها أصحابه ، وقدر أن ذلك يجوز له ، فليس له أن يحمل ذلك ، لغة النبي ، ويحمل كلام النبي على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية