ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه وقال لهم موسى :
ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
[ ص: 82 ] وأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال له قائلهم يوم بدر : موسى :
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
" لكن نقاتل أمامك ووراءك وعن يمينك وعن يسارك . والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك " . والله لا نقول لك كما قال قوم
[ ص: 83 ] وكان الكلام قريبا من ( بدر ) والبحر من جهة الغرب و ( برك الغماد ) مكان من يماني مكة ، بينه وبين مكة عدة ليال ، والكفار كانوا - إذ ذاك - بمكة وأصحابه من ناحية المدينة شامي مكة ، فمكة جنوبهم والبحر غربهم . تقول : لو طلبت أن ندخل بلد العدو ونذهب إلى تلك الناحية لفعلناه . قالوا : فلما نصر الله بني إسرائيل وأظهرهم ، ظهرت فيهم الأحداث بعد ذلك وتجبروا ، وقست قلوبهم وصاروا شبها بآل فرعون ، فبعث الله المسيح - عليه السلام - باللين والصفح والعفو عن المسيء واحتمال أذاه ؛ ليلين أخلاقهم ويزيل ما كانوا فيه من الجبرية والقسوة .
فأفرط هؤلاء في اللين حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ، وتركوا الحكم بين الناس بالعدل وإقامة الحدود ، وترهب عبادهم منفردين ، مع أن في ملوك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله وسفك الدماء بغير حق مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم ومما لم يأمروهم به ما شاركوا فيه اليهود .
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالشريعة الكاملة العادلة ، وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف ، بل يشتدون على أعداء الله ويلينون لأولياء الله ويستعملون العفو والصفح فيما كان لنفوسهم ، ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقا لله . فبعث الله
[ ص: 84 ] وهذا كان خلق نبيهم ، كما في الصحيحين عن قالت : " عائشة " . ما ضرب رسول الله بيده خادما ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه ، إلا أن تنتهك محارم الله ، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله
وفي الصحيح عن أنه قال : " أنس خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ ، هذا مع قوله - في الحديث الصحيح - وكان بعض أهله [ ص: 85 ] إذا عتبوني على شيء يقول : " دعوه ، فلو قدر شيء لكان " قريش من بني مخزوم فأمر بقطع يدها ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا ؟ فكلموه فكلمه فيها ، فقال : " يا أسامة بن زيد ! أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ! والذي نفس أسامة محمد بيده ، لو أن فاطمة [ ص: 86 ] بنت محمد سرقت لقطعت يدها " . لما سرقت امرأة كانت من أشرف
ففي شريعته - صلى الله عليه وسلم - من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل ، وفيها من الشدة والجهاد ، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة ، وهذا هو غاية الكمال ؛ ولهذا قال بعضهم : بعث موسى بالجلال ، وبعث عيسى بالجمال ، وبعث محمد بالكمال .
الوجه الخامس : إن نعم الله على عباده تتضمن نفعهم والإحسان إليهم ، وذلك نوعان :
أحدهما : أن يدفع بذلك مضرتهم ويزيل حاجتهم وفاقتهم ؛ مثل رزقهم الذي لولا هو لماتوا جوعا ، ونصرهم الذي لولا هو لأهلكهم عدوهم ، ومثل هداهم الذي لولا هو لضلوا ضلالا يضرهم في آخرتهم . وهذا النوع من النعمة لا بد لهم منه ، وإن فقدوه حصل لهم ضرر ، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما ؛ ولهذا كان في سورة النحل ، وهي [ ص: 87 ] سورة النعم ، في أولها أصول النعم ، وفي أثنائها كمال النعم .
والنوع الثاني : النعم التي تحصل بها من كمال النعم وعلو الدرجة ما لا يحصل بدونها ، كما أنهم في الآخرة نوعان : أبرار أصحاب يمين ، ومقربون سابقون . ومن خرج عن هذين كان من أصحاب الجحيم .
وإذا كانت النعمة نوعين ، فالخلق كانوا محتاجين إلى إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذين الوجهين ، وحصل بإرساله هذان النوعان من النعمة ، فإن الناس بدونه كانوا جهالا ضالين أميين ، وأهل الكتاب منهم .
ولم يكن قد بقي من أهل الكتاب - أتباع المسيح - من هو قائم بالدين الذي يوجب السعادة عند الله في الآخرة ، بل كانوا قد بدلوا وغيروا . وأيضا فلو قدر أنهم لم يبدلوا شيئا ففي إرساله من كمال النعم وتواصلها وعلو الدرجات في السعادة ما لم يكن حاصلا بالكتاب الأول ، فكان إرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض من نوعي النعيم .
[ ص: 88 ] ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله - صلى الله عليه وسلم - وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم :
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار .
ولهذا وصف بالشكر من قبل هذه النعمة فقال - تعالى - :
وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين .
وقال - تعالى - :
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
الوجه السادس : أن يقال : قولهم : " إنا نعجب من هؤلاء القوم . . . . " إلى آخر الفصل ، قول جاهل ظالم يستحق أن يقال له : بل [ ص: 89 ] العجب من هذا العجب هو الواجب ، بل هو الذي لا ينقضي منه العجب ، وإن كل عاقل ليعجب ممن عرف دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقصده الحق ، ثم اتبع غيره ، ويعلم أنه لا يفعل ذلك إلا مفرط في الجهل والضلال أو مفرط في الظلم واتباع الهوى .
وذلك أن أهل الأرض نوعان : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، وغير أهل الكتاب كالمشركين من العرب والهند والترك ، وغيرهم كالمجوس من الفرس ، وغيرهم كالصابئة من المتفلسفة ، وغيرهم .
وأهل الكتاب يسلمون لنا أن من سوى أهل الكتاب انتفع بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - منفعة ظاهرة ، وأنه دعا جميع طوائف [ ص: 90 ] المشركين والمجوس والصابئين إلى خير مما كانوا عليه ، بل كانوا أحوج الناس إلى رسالته . وأما أهل الكتاب : فاليهود مسلمون لنا حاجة النصارى إليه ، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه ، والنصارى تسلم لنا حاجة اليهود إليه ، وأنه دعاهم إلى خير مما كانوا عليه .
فما من طائفة من طوائف أهل الأرض إلا وهم مقرون بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا سائر الطوائف - غيرهم - إلى خير مما كانوا عليه هذه شهادة من جميع أهل الأرض ؛ بأنه دعا أهل الأرض إلى خير مما كانوا عليه . فإن شهادة جميع الطوائف مقبولة على غيرهم ؛ إذ كانوا غير متهمين عليهم ، فإنهم معادون لمحمد وأمته ، معادون لسائر الطوائف ، وأما شهادتهم لأنفسهم فغير مقبولة فإنهم خصومه وشهادة الخصم على خصمه غير مقبولة .
وقد اعترف الفلاسفة بأنه لم يقرع العالم ناموس بأفضل من ناموسه ، واعترفوا بأنه أفضل من ناموس موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام ، بل كان لهم من الطعن في نواميس غيره ما ليس [ ص: 91 ] هذا موضع ذكره . بخلاف ناموس محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يطعن فيه أحد منهم ، إلا من كان خارجا عن قانون الفلسفة التي توجب عندهم العدل والكلام بعلم . وأما من التزم منهم الكلام بعلم وعدل فهم متفقون على أن ناموس محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل ناموس طرق العالم ، فكيف يعجب من مثل هذا الناموس ؟ ! .
الوجه السابع : أن يقال لأهل الكتاب خصوصا ، فيقال لليهود : أنتم أذل الأمم ، فلو قدر أن ما أنتم عليه دين الله الذي لم يبدل فهو مغلوب مقهور في جميع الأرض ، فهل تعجبون من أن يبعث الله رسولا يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فيبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله حتى يصير دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه منصورا ظاهرا بالحجة والبيان والسيف والسنان .
ويقال للنصارى : أنتم لم تخلصوا دين الله الذي بعث به رسله من دين المشركين والمعطلين ، بل أخذتم من أصول المشركين والمعطلين من الفلاسفة وغيرهم ما أدخلتموه في دينكم ، وليس لكم على أكثر الكفار حجة علمية ولا يد قهرية ، بل للكفار في [ ص: 92 ] قلوبكم من الرعب والخوف والتعظيم ما أنتم به من أضعف الأمم حجة وأضيقها محجة ، وأبعدها عن العلم والبيان ، وأعجزها عن إقامة الحجة والبرهان ؛ تارة تخافون من الكفار والفلاسفة وغيرهم من المشركين والمعطلين ، فإما أن توافقوهم على أقوالهم ، وإما أن تخضعوا لهم متواضعين ، وتارة تخافون من سيوف المشركين ، فإما أن تتركوا بعض دينكم لأجلهم ، وإما أن تذلوا لهم خاضعين .
ففيكم من ضعف سلطان الحجة ، وضعف سلطان النصرة ما يظهر به حاجتكم إلى قيام الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه فالعجب منكم كيف تعدلون عما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة إلى ما فيه شقاؤكم في الدنيا والآخرة . هذا هو العجب ليس العجب ممن آمن بما فيه سعادة الدنيا والآخرة وفي خلافه شقاوة الدنيا والآخرة .
ومثل هذا لا يرد على المسلمين ، فإنه لم يزل ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى ودين الحق ظاهرة بالحجة والبيان واليد والسنان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين ، كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " وفي لفظ " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " . لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتي يأتي الله بأمره
[ ص: 93 ] الوجه الثامن : أن يقال لأهل الكتاب : لليهود : أنتم لما كنتم متبعين لموسى - عليه السلام - كنتم على الهدى ودين الحق وكنتم منصورين ، ثم كثرت فيكم الأحداث التي تعرفونها كما قال - تعالى - :
قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل .
وقوله - تعالى - : وعبد الطاغوت معطوف على ( لعنه الله ) أي من لعنه الله وغضب عليهم وعبد هو الطاغوت ، ليس هو داخلا في خبر " جعل " ، حتى يلزم إشكال كما ظنه بعض الناس .
وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات ، وقتلوا الأنبياء .
[ ص: 94 ] وقال - تعالى - :
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .
وهم معترفون بأن بيت المقدس خرب مرتين .
[ ص: 95 ] فالخراب الأول لما جاء " بختنصر " وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة ، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة ، وقد قيل : هذا تأويل قوله :
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم .
فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم ملك . وبين الخرابين كانوا تحت قهر الملوك الكفار ، وبعث المسيح - عليه الصلاة والسلام - وهم كذلك .
ويقال للنصارى : أنتم ما زلتم مقهورين مغلوبين مبددين في الأرض ، حتى ظهر قسطنطين وأقام دين النصرانية بالسيف ، وقتل من خالفه من المشركين واليهود . لكن أظهر دينا مبدلا مغيرا ليس هو دين المسيح - عليه السلام - ومع هذا فكانت أرض العراق وفارس كفارا - المجوس وغيرهم - مجوسا ومشركين . وكانوا في بعض الأزمنة يقهرون النصارى على بلادهم ، وأما أرض المشرق والمغرب ففيهما من أنواع المشركين أمم ، وكان الشرك والكفر ظاهرا في أرض اليمن والحجاز والشام والعراق ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه [ ص: 96 ] وسلم - أظهر به توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظهورا لم يعرف في أمة من الأمم ، ولم يحصل مثله لنبي من الأنبياء ، وأظهر به من تصديق الكتب والرسل والتوراة والإنجيل والزبور ، وموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الرسل ما لم يكن ظاهرا لا عند أهل الكتاب ولا غيرهم ، فأهل الكتاب وإن كانوا خيرا من غيرهم فلم يكونوا قائمين بما يجب من الإيمان بالله ورسله ولا باليوم الآخر ولا شرائع دينه ، ولا كانوا قاهرين لأكثر الكفار ، ولا كانوا منصورين عليهم ولهذا قال : - تعالى - . :
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب . .
اليهود ففيهم من التنقص من الأنبياء في سبهم ، وذكر عيوب نزههم الله عنها ، ما هو معروف . حتى إن منهم من يقول أن أما سليمان كان ساحرا ، وداود كان منجما لم يكن نبيا ، إلى أمثال ذلك .
[ ص: 97 ] مما يطول وصفه . ففيهم من الكفر بالأنبياء ، من جنس ما كان في سلفهم الخبيث . .
وأما النصارى - فمع غلوهم في المسيح وأتباعه - يستخفون بغيره فتارة يجعلون الحواريين مثل إبراهيم وموسى أو أفضل منهم ، وتارة يقولون - كما قال اليهود - : " إن سليمان لم يكن نبيا بل سقط من النبوة " ، وتارة يجعلون ما خاطب الله به داود وغيره من الأنبياء إنما أريد به المسيح ، مع أن اللفظ لا يدل على ذلك ، بل يتأولون كتب الله بمجرد هوى أنفسهم ، وتارة يقولون : إن الواحد منهم إذا أطاع الله بما يزعمون أنه طاعة ، صار مثل واحد من الأنبياء ، ويسوغون لمثل هؤلاء أن يغيروا شرائع الأنبياء ويضعوا دينا ابتدعوه ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته أقاموا توحيد الله الذي كان عليه إبراهيم وموسى وسائر الرسل وآمنوا بكل كتاب أنزله الله وكل رسول بعثه الله ، وأقاموا دين الرحمن إقامة لم يقمها أحد من الأمم . فعامة أهل الأرض مع محمد - صلى الله عليه وسلم - : إما مؤمن به باطنا وظاهرا - وهم أولياء الله المتقون وحزبه المفلحون وجنده الغالبون - وإما مسلمون له في الظاهر تقية وخوفا من أمته ، وهم المنافقون .
[ ص: 98 ] وإما مسالمون له بالعهد والذمة والهدنة - وهم أهل الذمة والهدنة في جميع الأرض - وإما خائفون من أمته .
وحيث كان الواحد والطائفة من أمته متمسكا بدينه ، كان نوره ظاهرا وبرهانه باهرا معظما منصورا ، يعرف فضله على كل من سواه .
وهذا أمر يعرفه الناس في أرض الكفار من المشركين وأهل الكتاب ؛ لما خص الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته من الهدى ودين الحق . وقد أظهروا دين الرب في مشارق الأرض ومغاربها بالقول والعمل . فهل يقول من عنده علم وعدل : إنه لا فائدة في إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه يستغنى بما عند أهل الكتاب عن رسالته ؟ !
الوجه التاسع : أن يقال : هم معترفون بانتفاع المشركين به غاية الانتفاع ، فإنه أقام توحيد الله ودينه فيهم ، وأنه عظم المسيح . ورد على اليهود قولهم فيه وأهانهم وحينئذ فهذا من أعظم الفوائد وأجل المقاصد وأعظم نعم الله على عباده ، ثم هو - مع ذلك - قال : إن الله أرسله وأمره بذلك .
[ ص: 99 ] فإن كان كاذبا فالكذاب المفتري على الله من شر الكفار ، ومن يكون كذلك لا يحصل منه هذا الخير العظيم ، الذي ما حصل مثله من أحد من الأنبياء ، فإنه أزال دين المشركين ، ودين المجوس ، وقمع اليهود وكل واحدة من هذه الثلاث لم يقدر عليها أحد قبله من الأنبياء والمرسلين .
وإن كان صادقا ؛ فهو قد أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من الأمم ، وأخبر عن الله بكفر كل من لم يؤمن به . وهذا الوجه ممن يخاطب به كل صنف ، فيقال لكل صنف من الأمم : أنتم معترفون بأن من سواكم إذا اتبعوا دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كان خيرا لهم مما هم عليه ؛ فاليهود معترفة بأن النصارى إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين النصارى ، والنصارى معترفون بأن اليهود إذا اتبعوه كان خيرا لهم من دين اليهود ، وأهل الكتاب اليهود والنصارى معترفون بأن من سواهم إذا اتبعوا محمدا كان خيرا لهم مما هم عليه .
فالمجوس والمشركون من العرب ، والسودان والترك وأصناف [ ص: 100 ] الخزر والصقالبة ، إذا اتبعوه كان خيرا لهم مما هم عليه وسائر أصناف الكفار معترفون بأن أتباعه خير من غيرهم . ومن ليس من أهل الكتاب - عامتهم - معترفون بأن دين المسلمين خير من دين اليهود والنصارى . وحينئذ فيقال : من جاء بهذا الدين الذي يفضله جميع أهل الأرض على غيره يمتنع أن يكون من أكفر الناس وأحقهم بغضب الله وعقابه . وكل من قال : إنه رسول الله ؛ فإن كان صادقا كان من خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه ، وإن كان كاذبا كان من شر أهل الأرض وأحقهم بغضب الله وعقابه . ومن حصل منه هذا الخير والعلم والهدى وما فيه صلاح الدنيا والآخرة أعظم مما حصل من جميع الخلق يمتنع أن يكون من أكفر الناس المستحقين لغضب الله وعقابه ، فوجب أن يكون من خير أهل الأرض ، بل هو خير أهل الأرض وأحقهم برضوان الله وثوابه .