والكلام في شيئين . :
أحدهما : في كون المفضول يستحق تلك المنزلة دون الفاضل ، وهذا غاية الجهل والظلم . كقول الرافضة الذين يقولون : إن كان إماما عالما عادلا ، والثلاثة لم يكونوا كذلك . عليا
وكذلك اليهود والنصارى الذين يقولون : إن موسى كان رسولا ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كذلك ، فإن هذا في غاية الجهل والظلم . بخلاف من اعترف باستحقاق الاثنين للمنزلة ، ولكن فضل المفضول ، فهذا أقل جهلا وظلما .
ومعلوم أن . المرسلين يتفاضلون ، تارة في الكتب المنزلة عليهم وتارة في الآيات والمعجزات الدالة على صدقهم ، وتارة في الشرائع وما جاءوا به من العلم والعمل وتارة في أممهم
فمن عنده علم وعدل ؛ فينظر في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل ، أو في معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعجزات غيره ، أو في شريعته وشريعة غيره ، أو في أمته وأمة غيره وجد له من التفضيل على غيره ما لا يخفى إلا على مفرط في الجهل أو الظلم .
فكيف يمكن مع هذا أن يقال : هو كاذب مفتر ، وغيره هو النبي الصادق ؟ ! .
[ ص: 134 ] نعم ، كثير من أهل الكتاب لم يعرفوا من أخباره ما يبين لهم ذلك كما أن كثيرا من الرافضة لم يعرفوا من أخبار الثلاثة ما يبين لهم فضيلتهم عن رضي الله عنه ، فهؤلاء في الجهل ، وطلب العلم عليهم فرض ، خصوصا أمر النبوة . فإن النظر في أمر من قال : علي
إني رسول الله إليكم .
مقدم على كل شيء ؛ إذ كان التصديق بهذا مستلزما لغاية السعادة ، والتكذيب به مقتضيا لغاية الشقاوة ، فبالرسول يحصل الفرق بين السعداء والأشقياء وبين الحق والباطل والهدى والضلال ، والفرق بين أولياء الله وأعدائه .
وكما يسلك هذه الطريق العقلية في القياس والاعتبار ، بأن يعتبر حال محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه وشرعه وأمته بحال غيره وكتابه وشرعه ، وينظر هل هما متماثلان أو متفاضلان وأيهما أفضل ، وإذا تبين أن حاله أفضل كان تصديقه أولى ، وامتنع أن يكون غيره صادقا وهو كاذب .
بل لو كانا متماثلين وجب كونه صادقا ، بل وكذلك لو كانا متقاربين وغيره أفضل فإن المتنبي الكذاب لا يقارب الصادق ، بل بينهما من التباين ما لا يخفى إلا على أعمى الناس .
وكذلك نسلك هذه الطريق في جنس الأنبياء - عليهم [ ص: 135 ] السلام - مطلقا وأممهم ، بأن تعرف أخبار من مضى من الأنبياء وأممهم . وترى آثار هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى :
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
وقال - تعالى - :
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .
وقال - تعالى - لما ذكر آل فرعون . : .
وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين .
وكذلك قال تعالى - عن عاد :
[ ص: 136 ] وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود .
وقال - تعالى - عن قوم شعيب :
ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود .
وإذا ذكر الأنبياء - عليهم السلام - قال - تعالى - :
وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين .
سلام على إبراهيم .
سلام على موسى وهارون .
[ ص: 137 ] سلام على إل ياسين .
وقال - تعالى - :
وجعلنا لهم لسان صدق عليا .
ومثل هذا في القرآن كثير ، فيذكر من حال الأنبياء وأتباعهم ، وما حصل لهم من الكرامة ، وما حصل للكفار بهم من الخزي والعذاب ، ما بين حسن حال هؤلاء وقبح حال هؤلاء .
ومما يوضح ذلك من أن من اعتبر حال أهل الملل ، من المسلمين واليهود ، والنصارى ، وحال غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة ، تبين له أن حال أهل الملل أكمل بما لا يحصى . وإذا نظر ما عند غير أهل الملل من الحكمة العلمية والعملية ، كحكمة الهند واليونان والعرب من الجاهلية والفرس .
[ ص: 138 ] وغيرهم ، وجد ما عندهم بعض ما عند أهل الملل ، من الحكمة العلمية والعملية فيمتنع أن يكون علماء اليونان والهند ونحوهم على حق وهدى ، وعلماء المسلمين واليهود والنصارى على باطل وضلال . وكذلك يمتنع أن تكون الأمة لها علم نافع وعمل صالح وأهل الملل ليسوا كذلك .
ففي الجملة : لا يوجد في غير أهل الملل من علم نافع وعمل صالح : من حكمة علمية وعملية ، إلا وذلك في أهل الملل أكمل ، ولا يوجد في أهل الملل شر إلا وهو في غيرهم أكثر .
وهؤلاء فلاسفة اليونان ، الذين قد شهروا عند كثير من الناس باسم الحكمة ، وحكمتهم كحكمة سائر الأمم ، نوعان : فطرية وعملية ؛ والعملية في الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدائن ، وكل من تأمل ما عند اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل من سياسة الأخلاق والمنزل والمدائن وجده خيرا مما عند أولئك بأضعاف مضاعفة .
فإن أولئك عمدة أمرهم : الكلام على قوى النفس الشهوية .
[ ص: 139 ] والغضبية ، وقوة العلم والعدل ، كأمور من جنس آداب العقلاء ، ليس عندهم من معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله ، ومن عبادته وحده لا شريك له شيء له قدر والذي عندهم من العلوم الطبيعية والحسابية ، ليس مما ينفع بعد الموت إلا أن يستعان به على ما ينفع بعد الموت . والذي عندهم من العلم الإلهي قليل جدا مع ما فيه من الخطأ الكثير .
وكل ما عندهم من علم نافع وعمل صالح ، فهو جزء مما جاءت به الأنبياء - عليهم السلام - فيمتنع أن يكون هؤلاء المسمون بالحكماء وأتباعهم على حق في الاعتقاد ، وصدق في الأقوال وخير في الأعمال كما هو غاية مطلوبهم . والأنبياء وأتباعهم ليسوا كذلك .
واعتبر ذلك بمن يعرف من خاصة هؤلاء وعامتهم ، وخاصة هؤلاء وعامتهم ، وإن كان بينهما من التفاوت ما بين أهل الجنة وأهل النار ، فالاعتبار في مثل ذلك مما جاء به التنزيل .
قال - تعالى - :
آلله خير أما يشركون .
والمقصود أنه بالاعتبار والقياس العقلي والموازنة يوزن الشيء [ ص: 140 ] بما يناظره ، ويعتبر به قياس الطرد وقياس العكس .
فيظهر لكل من تدبر ذلك أن أهل الملل أولى بالحق والصدق والخير من غيرهم ، وإن كان لأولئك من الحكمة ما يناسب أحوالهم . وحكماؤهم أفضل من عوامهم ، وهم خير من الكفار بالرسل الذين ليس فيهم خير أصلا وهذا مما استفادوه أتباع الأنبياء منهم ، فيكون هذا من دلائل نبوتهم وأعلام رسالتهم استدلالا بالأثر على المؤثر وبالمعلول على علته .
وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعلام رسالته . من تدبر حال المسلمين ، وحال اليهود والنصارى ، تبين له رجحان حال المسلمين فيكون هذا من دلائل نبوة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن النبوة تعلم بطرق كثيرة ، وذكرنا طرقا متعددة في معرفة النبي الصادق والمتنبي الكذاب ، غير طريق [ ص: 141 ] المعجزات . فإن الناس كلما قويت حاجتهم إلى معرفة الشيء يسر الله أسبابه كما يتيسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد . ، فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهواء أعظم منها إلى الماء ، كان مبذولا لكل أحد في كل وقت ، ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت ، كان وجود الماء أكثر .
وكذلك لما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم ، كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها ، ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك ، أقام الله - سبحانه - من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته ، وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح ، وقبح حال من خالفهم وشقاوته وجهله وظلمه - ما يظهر لمن تدبر ذلك .
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
وهذا الذي ذكرناه من اعتبار الشيء بنظرائه وموافقيه وأشباهه ، واعتباره بأضداده ومخالفيه ، حتى يعرف في المتشابهين أيهم أكمل [ ص: 142 ] وأفضل ، وفي المختلفين أيهم أولى بالحق والهدى ، والعدل موجود في سائر الأمور علمها وعملها ، كعلم الطب والحساب والفقه وغير ذلك ، فيمتنع - مع العلم والعدل - أن يقال : جالينوس كان طبيبا ، وأبقراط لم يكن طبيبا ، أو أن يقال : تاميطميوس كان فيلسوفا ، وأرسطو لم يكن فيلسوفا ، أو أن يقال : كان نحويا الأخفش لم يكن نحويا ، أو أن يقال : وسيبويه زفر والحسن بن زياد ومحمد بن الحسن كانوا فقهاء ، لم يكن فقيها ، أو أن وأبو حنيفة أشهب [ ص: 143 ] وابن القاسم ، وابن وهب كانوا فقهاء ، ومالك لم يكن فقيها ، أو أن المزني والبويطي وحرملة كانوا فقهاء ، لم يكن فقيها ، وأن والشافعي أبا داود وإبراهيم الحربي .
[ ص: 144 ] وأبا بكر الأثرم كانوا فقهاء ، لم يكن فقيها ، أو أن وأحمد بن حنبل كان إمام عدل ، عليا وأبا بكر وعمر لم يكونوا يكونا إمامي عدل ، أو أن نور الدين الشهيد كان عادلا ، لم يكن عادلا ، أو أن وعمر بن عبد العزيز كوشيار كان يعلم الهيئة ، وبطليموس لم يكن يعرف [ ص: 145 ] الهيئة ، أو أن النابغة الجعدي كان شاعرا ، والنابغة الذبياني لم يكن شاعرا ، أو أن يقال : إن القمر مستنير ، والشمس ليست مستنيرة ، أو أن عطارد نجم ثاقب ، وزحل ليس بنجم ثاقب ، أو أن مسلما كان عالما بالحديث ، لم يكن كذلك ، أو أن كتابه أصح من كتاب والبخاري . ونحو ذلك مما يطول تعداده . البخاري