الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الخامس : أن يقال : معلوم أن ظهور دين محمد - صلى الله [ ص: 189 ] عليه وسلم - في مشارق الأرض ومغاربها ، أعظم حادث حدث في الأرض ؛ فلم يعرف قط دين انتشر ودام كانتشاره ودوامه . فإن شرع موسى ، وإن دام فلم ينتشر انتشاره ودوامه ، بل كان غاية ظهوره ببعض الشام ، وأما شرع المسيح فقبل ، قسطنطين لم يكن له ملك ، بل كانوا يكونون ببعض بلاد الروم وغيرها ، وكانوا مستضعفين تقتل أعيانهم أو عامتهم في كثير من الأوقات ، ولما انتشر تفرق أهله فرقا متباينة يكفر فيها بعضهم بعضا .

ثم إن شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ظهر في مشارق الأرض ومغاربها وفي وسط الأرض المعمورة ؛ الإقليم الثالث والرابع والخامس ، وظهرت أمته على النصارى في أفضل الأرض وأجلها عندهم ؛ كأرض الشام ومصر والجزيرة وغيرها ، ودام شرعه ، فله اليوم أكثر من سبعمائة سنة .

ومعلوم أن هذا المدعي للنبوة ، سواء كان صادقا أو كاذبا لا بد [ ص: 190 ] أن يخبر به الأنبياء فإنهم أخبروا بظهور الدجال الكذاب ، تحذيرا للناس ، مع أن الدجال مدته قليلة ، فلو كان ما يقوله المكذب لمحمد حقا ، وأنه كاذب ليس برسول ، لكانت فتنته أعظم من فتنة الدجال من وجوه كثيرة ؛ لأن الذين اتبعوه أضعاف أضعاف من يتبع الدجال . فلو كان كاذبا لكان الذين افتتنوا به أضعاف أضعاف من يفتتن بالدجال ، فكان التحذير منه أولى من التحذير من الدجال ؛ إذ ليس في العالم من زمان آدم إلى اليوم كذاب ظهر ودام هذا الظهور والدوام ، فكيف تغفل الأنبياء التحذير عن مثل هذا لو كان كاذبا ؟ .

وإذا كان صادقا : فالبشارة للإيمان به أولى ما يبشر به الأنبياء من المستقبلات وتخبر به . فعلم أنه لا بد أن يكون في الكتب ذكره ثم قد وجد مواضع كثيرة في الكتب تزيد على مائة موضع استدلوا بها على أنه مذكور ، وتواتر عن خلق كثير من أهل الكتاب أنه موجود في كتبهم ، وتواتر عن كثير ممن أسلم أنه كان سبب إسلامهم - أو من أعظم سبب إسلامهم - علمهم بذكره في الكتب المتقدمة ، إما بأنه وجد ذكره في الكتب كحال كثير ممن أسلم قديما وحديثا ، وإما بما ثبت عندهم من أخبار أهل الكتاب ، كالأنصار فإنه كان من أعظم أسباب [ ص: 191 ] إسلامهم ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره ونعته ، وانتظارهم إياه ، وأن من خيارهم من لم يوجب له أن يسكن أرض يثرب مع شدتها ويدع أرض الشام مع رخائها إلا انتظاره لهذا النبي العربي الذي يبعث من ولد إسماعيل .

ولم يمكن أحد قط أن ينقل عن شيء من الكتب أنه وجد فيها ذكره بالذم والتكذيب والتحذير ، كما يوجد ذكر الدجال . وعند أهل الكتاب من ذكر أصحابه ؛ كعمر بن الخطاب وغيره ، وعدلهم وسيرتهم ، عن المسيح وغيره ، ما هو معروف عندهم . فإذا كان الذين استخرجوا ذكره من كتب أهل الكتاب والذين سمعوا خبره من علماء أهل الكتاب إنما يذكرون نعته فيها بالمدح والثناء ، علم بذلك أن الأنبياء المتقدمين ذكروه بالمدح والثناء ، ولم يذكروه بذم ولا عيب .

وكل من ادعى النبوة ومدحه الأنبياء وأثنوا عليه ، لم يكن إلا صادقا في دعوى النبوة ، إذ يمتنع أن الأنبياء يثنون على من يكذب في دعوى النبوة :

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .

وهذا مما يبين أنه لا بد أن يكون الأنبياء ذكروه وأخبروا به ، وأنهم لم يذكروه إلا بالثناء والمدح لا بالذم والعيب وذلك - مع دعوى [ ص: 192 ] النبوة - لا يكون إلا إذا كان صادقا في دعوى النبوة ، فتبين أنهم بشروا بنبوته ، وهو المطلوب .

يبين ذلك أن الأنبياء أخبروا أهل الكتاب بما سيكون منهم من الأحداث ، وما يسلط عليهم من الملوك الذين يقتلونهم ويخربون بلادهم ويسبونهم ك - ( بختنصر ) و ( سنجاريب ) ولكن هؤلاء الملوك لم يدعوا أنهم أنبياء ، ولم يدعوا إلى دين ، فلم تحتج الأنبياء إلى التحذير من اتباعهم ، وقد حذروا من اتباع من يدعي النبوة وهو كاذب .

ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد قهر أهل الكتاب ، وقتل من قتل وسبى من سبى ، وأخرجهم من ديارهم فلا بد أن يذكروه ويذكروا الأحداث التي تجري عليهم في أيامه . وإذا كان كاذبا مدعيا للنبوة ، فلا بد أن يحذرهم من اتباعه ، ومعلوم أن عامة أهل الكتاب [ ص: 193 ] ومن نقل عنهم إما أن يقول : ليس موجودا في كتبنا ، أو يقول : إنه موجود بالمدح والثناء ، لا يمكن أحد أن ينقل عن الكتب المتقدمة أنه موجود فيها بالذم والتحذير . ولو كان مذكورا عندهم بالذم والتحذير ، لكان من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته ، وعلى أمته بعد مماته ، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم .

فإنه معلوم أن كثيرا من أهل الكتاب كان عندهم من البغض له والعداوة وتكذيبه ، والحرص على إبطال أمره ، ما أوجب أن يفتروا أشياء لم توجد ، وينسبوا إليه أشياء يعرف كذبها كل من عرف أمره ، حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين " الله أكبر " بأن " أكبر " صنم ، وأن النبي أمرهم بتعظيم هذا الصنم . وقال بعضهم فيه : إنه أوجب الزنا على المرأة المطلقة ثلاثا . عقوبة لزوجها بأنه لا ينكحها حتى يزني بها غيره . وقال بعضهم : إنه تعلم من " بحيرى الراهب " مع علم كل من عرف سيرته أنه لم يجتمع ب - ( بحيرى ) وحده ، ولم يره إلا بعض نهار مع أصحابه ، لما مروا به لما قدموا الشام في تجارة ، وأن ( بحيرى ) سألهم عنه ولم يكلمه إلا كلمات يستخبره فيها عن حاله . [ ص: 194 ] لم يخبره بشيء .

ومع طعن بعض أهل الكتاب فيه بأنه بعث بالسيف ، حتى قد يقولوا : إنما قام دينه بالسيف ، وحتى يوهموا الناس أن الذين اتبعوه إنما اتبعوه خوفا من السيف ، وحتى يقولوا : إن الخطيب إنما يتوكأ على سيف يوم الجمعة إشارة إلى أنه إنما يقوم الدين بالسيف ، إلى أمثال هذه الأمور - التي هي من أظهر الأمور كذبا عليه - يعرف أدنى الناس معرفة بحاله أنها كذب ، وهم - مع هذا - يتشبثون بها .

فلو كان عندهم أخبار عن الأنبياء توجب ذمه والتحذير من متابعته ، لكان إظهارهم لذلك واحتجاجهم به أقوى وأبلغ ، وكان ذلك مما يجب في العادة اشتهاره بين خاصتهم وعامتهم ، قديما وحديثا ، وكان ظهور ذلك فيهم أولى من ظهور خبر الدجال فيهم وفي المسلمين ؛ فإن هذا الأمر من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره .

فإذا لم يكن كذلك ، علم أنه ليس في كتب الأنبياء ما يوجب تكذيبه ، وقد قام الدليل على أنه لا بد من أن تذكره الأنبياء وتخبر بحاله ، فإذا لم يخبروا أنه كاذب علم أنهم أخبروا أنه نبي صادق ، كما [ ص: 195 ] شاع ذلك وظهر واستفاض من وجوه كثيرة .

فالكتاب الذي بعث به مملوء بشهادة الكتب له ، والكتب الموجودة فيها مواضع كثيرة شاهدة له من وجوه متعددة ، والأخبار متواترة عمن أسلم لأجل ذلك ، وهذا مما يوجب القطع بأنه مذكور فيها بما يدل على صدقه في دعوى النبوة ، وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه وهذا هو المطلوب .

وفي الجملة أمره أظهر وأشهر وأعجب وأبهر ، وأخرق للعادة من كل أمر ظهر في العالم من البشر . ومثل هذا إذا كان كاذبا ، فلكذبه لوازم كثيرة جدا تفوق الحصر متقدمة ومقارنة ومتأخرة . فإن من هو أدنى دعوة منه إذا كان كاذبا لزم كذبه من اللوازم ما يبين كذبه ، فكيف مثل هذا ؟ ! فإذا انتفت لوازم المكذوب انتفى الملزوم .

وصدقه لازم لأمور كثيرة كلها تدل على صدقه ، وثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ماضيه ومقارنه ومتأخره . ومدعي النبوة لا يخلو من الصدق أو الكذب ، وكل من الصدق والكذب له لوازم وملزومات ، فأدلة الصدق مستلزمة له وأدلة الكذب مستلزمة له ، والصدق له لوازم والكذب له لوازم ، فصدقه يعرف بنوعين : بثبوت دلائل الصدق المستلزمة لصدقه ، وبانتفاء لوازم الكذب الموجب انتفاؤها انتفاء كذبه ، كما أن كذب الكذاب يعرف بأدلة كذبه [ ص: 196 ] المستلزمة لكذبه ، وبانتفاء لوازم الصدق المستلزم انتفاؤها لانتفاء صدقه ، والله أعلم .

والشيء يعرف تارة بما يدل على ثبوته ، وتارة بما يدل على انتفاء نقيضه ، وهو الذي يسمى قياس الخلف ، فإن الشيء إذا انحصر في شيئين ، لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر ، ومن انتفاء أحدهما ثبوت الآخر . ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب ، وكل منهما له لوازم يدل انتفاؤها على انتفائه ، وله ملزومات يدل ثبوتها على ثبوته .

فدليل الشيء مستلزم له كأعلام النبوة ودلائلها ، وآيات الربوبية وأدلة الأحكام وغير ذلك ، وانتفاء الشيء يعلم بما يستلزم نفيه كانتفاء لوازمه ؛ مثل صدق الكاذب ، يقال : لو كان صادقا لكان متصفا بما يتصف به الصادقون .

وكذلك كذب الصادق ، يقال : لو كان كذابا لكان متصفا بما يتصف به الكذاب ، فإنه قد عرف حال الأنبياء الصادقين ، والمتنبئين الكذابين ، فانتفاء لوازم الكذب دليل صدقه ، كما أن ثبوت ما يستلزم الصدق دليل صدقه ، وكذلك الكذاب يستدل على كذبه بما يستلزم كذبه وبانتفاء لوازم صدقه ، وهكذا سائر الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية