الوجه الخامس : أن يقال : معلوم أن محمد - صلى الله [ ص: 189 ] عليه وسلم - في مشارق الأرض ومغاربها ، أعظم حادث حدث في الأرض ؛ فلم يعرف قط دين انتشر ودام كانتشاره ودوامه . فإن شرع ظهور دين موسى ، وإن دام فلم ينتشر انتشاره ودوامه ، بل كان غاية ظهوره ببعض الشام ، وأما شرع المسيح فقبل ، قسطنطين لم يكن له ملك ، بل كانوا يكونون ببعض بلاد الروم وغيرها ، وكانوا مستضعفين تقتل أعيانهم أو عامتهم في كثير من الأوقات ، ولما انتشر تفرق أهله فرقا متباينة يكفر فيها بعضهم بعضا .
ثم إن شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ظهر في مشارق الأرض ومغاربها وفي وسط الأرض المعمورة ؛ الإقليم الثالث والرابع والخامس ، وظهرت أمته على النصارى في أفضل الأرض وأجلها عندهم ؛ كأرض الشام ومصر والجزيرة وغيرها ، ودام شرعه ، فله اليوم أكثر من سبعمائة سنة .
ومعلوم أن هذا المدعي للنبوة ، سواء كان صادقا أو كاذبا لا بد [ ص: 190 ] أن يخبر به الأنبياء فإنهم أخبروا بظهور الدجال الكذاب ، تحذيرا للناس ، مع أن الدجال مدته قليلة ، فلو كان ما يقوله المكذب لمحمد حقا ، وأنه كاذب ليس برسول ، لكانت فتنته أعظم من فتنة الدجال من وجوه كثيرة ؛ لأن الذين اتبعوه أضعاف أضعاف من يتبع الدجال . فلو كان كاذبا لكان الذين افتتنوا به أضعاف أضعاف من يفتتن بالدجال ، فكان التحذير منه أولى من التحذير من الدجال ؛ إذ ليس في العالم من زمان آدم إلى اليوم كذاب ظهر ودام هذا الظهور والدوام ، فكيف تغفل الأنبياء التحذير عن مثل هذا لو كان كاذبا ؟ .
وإذا كان صادقا : فالبشارة للإيمان به أولى ما يبشر به الأنبياء من المستقبلات وتخبر به . فعلم أنه لا بد أن يكون في الكتب ذكره ثم قد وجد مواضع كثيرة في الكتب تزيد على مائة موضع استدلوا بها على أنه مذكور ، وتواتر عن خلق كثير من أهل الكتاب أنه موجود في كتبهم ، وتواتر عن كثير ممن أسلم أنه كان سبب إسلامهم - أو من أعظم سبب إسلامهم - علمهم بذكره في الكتب المتقدمة ، إما بأنه وجد ذكره في الكتب كحال كثير ممن أسلم قديما وحديثا ، وإما بما ثبت عندهم من أخبار أهل الكتاب ، كالأنصار فإنه كان من أعظم أسباب [ ص: 191 ] إسلامهم ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره ونعته ، وانتظارهم إياه ، وأن من خيارهم من لم يوجب له أن يسكن أرض يثرب مع شدتها ويدع أرض الشام مع رخائها إلا انتظاره لهذا النبي العربي الذي يبعث من ولد إسماعيل .
ولم يمكن أحد قط أن ينقل عن شيء من الكتب أنه وجد فيها ذكره بالذم والتكذيب والتحذير ، كما يوجد ذكر الدجال . وعند أهل الكتاب من ذكر أصحابه ؛ وغيره ، وعدلهم وسيرتهم ، عن كعمر بن الخطاب المسيح وغيره ، ما هو معروف عندهم . فإذا كان الذين استخرجوا ذكره من كتب أهل الكتاب والذين سمعوا خبره من علماء أهل الكتاب إنما يذكرون نعته فيها بالمدح والثناء ، علم بذلك أن الأنبياء المتقدمين ذكروه بالمدح والثناء ، ولم يذكروه بذم ولا عيب .
وكل من ادعى النبوة ومدحه الأنبياء وأثنوا عليه ، لم يكن إلا صادقا في دعوى النبوة ، إذ يمتنع أن الأنبياء يثنون على من يكذب في دعوى النبوة :
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .
وهذا مما يبين أنه لا بد أن يكون الأنبياء ذكروه وأخبروا به ، وأنهم لم يذكروه إلا بالثناء والمدح لا بالذم والعيب وذلك - مع دعوى [ ص: 192 ] النبوة - لا يكون إلا إذا كان صادقا في دعوى النبوة ، فتبين أنهم بشروا بنبوته ، وهو المطلوب .
يبين ذلك أن الأنبياء أخبروا أهل الكتاب بما سيكون منهم من الأحداث ، وما يسلط عليهم من الملوك الذين يقتلونهم ويخربون بلادهم ويسبونهم ك - ( بختنصر ) و ( سنجاريب ) ولكن هؤلاء الملوك لم يدعوا أنهم أنبياء ، ولم يدعوا إلى دين ، فلم تحتج الأنبياء إلى التحذير من اتباعهم ، وقد حذروا من اتباع من يدعي النبوة وهو كاذب .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد قهر أهل الكتاب ، وقتل من قتل وسبى من سبى ، وأخرجهم من ديارهم فلا بد أن يذكروه ويذكروا الأحداث التي تجري عليهم في أيامه . وإذا كان كاذبا مدعيا للنبوة ، فلا بد أن يحذرهم من اتباعه ، ومعلوم أن عامة أهل الكتاب [ ص: 193 ] ومن نقل عنهم إما أن يقول : ليس موجودا في كتبنا ، أو يقول : إنه موجود بالمدح والثناء ، لا يمكن أحد أن ينقل عن الكتب المتقدمة أنه موجود فيها بالذم والتحذير . ولو كان مذكورا عندهم بالذم والتحذير ، لكان من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته ، وعلى أمته بعد مماته ، ويحتج به من لم يسلم منهم على من أسلم .
فإنه معلوم أن كثيرا من أهل الكتاب كان عندهم من البغض له والعداوة وتكذيبه ، والحرص على إبطال أمره ، ما أوجب أن يفتروا أشياء لم توجد ، وينسبوا إليه أشياء يعرف كذبها كل من عرف أمره ، حتى آل الأمر ببعضهم إلى أن فسروا قول المسلمين " الله أكبر " بأن " أكبر " صنم ، وأن النبي أمرهم بتعظيم هذا الصنم . وقال بعضهم فيه : إنه أوجب الزنا على المرأة المطلقة ثلاثا . عقوبة لزوجها بأنه لا ينكحها حتى يزني بها غيره . وقال بعضهم : إنه تعلم من " بحيرى الراهب " مع علم كل من عرف سيرته أنه لم يجتمع ب - ( بحيرى ) وحده ، ولم يره إلا بعض نهار مع أصحابه ، لما مروا به لما قدموا الشام في تجارة ، وأن ( بحيرى ) سألهم عنه ولم يكلمه إلا كلمات يستخبره فيها عن حاله . [ ص: 194 ] لم يخبره بشيء .
ومع طعن بعض أهل الكتاب فيه بأنه بعث بالسيف ، حتى قد يقولوا : إنما قام دينه بالسيف ، وحتى يوهموا الناس أن الذين اتبعوه إنما اتبعوه خوفا من السيف ، وحتى يقولوا : إن الخطيب إنما يتوكأ على سيف يوم الجمعة إشارة إلى أنه إنما يقوم الدين بالسيف ، إلى أمثال هذه الأمور - التي هي من أظهر الأمور كذبا عليه - يعرف أدنى الناس معرفة بحاله أنها كذب ، وهم - مع هذا - يتشبثون بها .
فلو كان عندهم أخبار عن الأنبياء توجب ذمه والتحذير من متابعته ، لكان إظهارهم لذلك واحتجاجهم به أقوى وأبلغ ، وكان ذلك مما يجب في العادة اشتهاره بين خاصتهم وعامتهم ، قديما وحديثا ، وكان ظهور ذلك فيهم أولى من ظهور خبر الدجال فيهم وفي المسلمين ؛ فإن هذا الأمر من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره .
فإذا لم يكن كذلك ، علم أنه ليس في كتب الأنبياء ما يوجب تكذيبه ، وقد قام الدليل على أنه لا بد من أن تذكره الأنبياء وتخبر بحاله ، فإذا لم يخبروا أنه كاذب علم أنهم أخبروا أنه نبي صادق ، كما [ ص: 195 ] شاع ذلك وظهر واستفاض من وجوه كثيرة .
فالكتاب الذي بعث به مملوء بشهادة الكتب له ، والكتب الموجودة فيها مواضع كثيرة شاهدة له من وجوه متعددة ، والأخبار متواترة عمن أسلم لأجل ذلك ، وهذا مما يوجب القطع بأنه مذكور فيها بما يدل على صدقه في دعوى النبوة ، وليس فيها ما يخبر بكذبه والتحذير منه وهذا هو المطلوب .
وفي الجملة أمره أظهر وأشهر وأعجب وأبهر ، وأخرق للعادة من كل أمر ظهر في العالم من البشر . ومثل هذا إذا كان كاذبا ، فلكذبه لوازم كثيرة جدا تفوق الحصر متقدمة ومقارنة ومتأخرة . فإن من هو أدنى دعوة منه إذا كان كاذبا لزم كذبه من اللوازم ما يبين كذبه ، فكيف مثل هذا ؟ ! فإذا انتفت لوازم المكذوب انتفى الملزوم .
وصدقه لازم لأمور كثيرة كلها تدل على صدقه ، وثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم ماضيه ومقارنه ومتأخره . ومدعي النبوة لا يخلو من الصدق أو الكذب ، وكل من الصدق والكذب له لوازم وملزومات ، فأدلة الصدق مستلزمة له وأدلة الكذب مستلزمة له ، والصدق له لوازم والكذب له لوازم ، فصدقه يعرف بنوعين : بثبوت دلائل الصدق المستلزمة لصدقه ، وبانتفاء لوازم الكذب الموجب انتفاؤها انتفاء كذبه ، كما أن كذب الكذاب يعرف بأدلة كذبه [ ص: 196 ] المستلزمة لكذبه ، وبانتفاء لوازم الصدق المستلزم انتفاؤها لانتفاء صدقه ، والله أعلم .
والشيء يعرف تارة بما يدل على ثبوته ، وتارة بما يدل على انتفاء نقيضه ، وهو الذي يسمى قياس الخلف ، فإن الشيء إذا انحصر في شيئين ، لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر ، ومن انتفاء أحدهما ثبوت الآخر . ومدعي النبوة إما صادق وإما كاذب ، وكل منهما له لوازم يدل انتفاؤها على انتفائه ، وله ملزومات يدل ثبوتها على ثبوته .
فدليل الشيء مستلزم له كأعلام النبوة ودلائلها ، وآيات الربوبية وأدلة الأحكام وغير ذلك ، وانتفاء الشيء يعلم بما يستلزم نفيه كانتفاء لوازمه ؛ مثل صدق الكاذب ، يقال : لو كان صادقا لكان متصفا بما يتصف به الصادقون .
وكذلك كذب الصادق ، يقال : لو كان كذابا لكان متصفا بما يتصف به الكذاب ، فإنه قد عرف حال الأنبياء الصادقين ، والمتنبئين الكذابين ، فانتفاء لوازم الكذب دليل صدقه ، كما أن ثبوت ما يستلزم الصدق دليل صدقه ، وكذلك الكذاب يستدل على كذبه بما يستلزم كذبه وبانتفاء لوازم صدقه ، وهكذا سائر الأمور .