[ ص: 437 ] ، وأمته من آياته ، وعلم أمته ودينهم من آياته ، وكرامات صالح أمته من آياته . وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث ، ومن حيث بعث إلى أن مات ، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله ، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا ، من صميم سلالة وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته ، ونجعل له ابنين : إسماعيل ، وإسحاق ، وذكر في التوراة هذا وهذا ، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل ، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم ، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم ، ثم من بني هاشم صفوة قريش ، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم ، ودعا الناس إلى حجه ، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم ، مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف .
[ ص: 438 ] وكان من أكمل الناس تربية ونشأة ، لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق ، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم ، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة ، وممن آمن به ، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به ؛ لا في أقواله ، ولا في أفعاله ، ولا في أخلاقه ، ولا جرب عليه كذبة قط ، ولا ظلم ولا فاحشة ، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله ، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف ، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب : التوراة والإنجيل ، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس ، ولا جالس أهلها ، ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة ، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها ، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره ، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله .
، ثم اتبعه ، وكذبه أهل الرياسة وعادوه ، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق ، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم ، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ، ولا لرهبة ، [ ص: 439 ] فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ، ولا جهات يوليهم إياها ، ولا كان له سيف ، بل كان السيف ، والمال ، والجاه مع أعدائه . وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى ، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة . وكانت مكة يحجها العرب من عهد أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب ، وجفاء الجافي ، وإعراض المعرض ، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم ، وعرفوه ، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود ، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته ، فإن أمره كان قد انتشر ، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به ، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم ، وعلى الجهاد معه ، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة ، وبها المهاجرون والأنصار ، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر ، ثم حسن إسلام بعضهم ، ثم أذن له في الجهاد ، ثم أمر به ، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة ، وأتمها من الصدق والعدل والوفاء ، لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد ، بل كان أصدق الناس وأعدلهم ، وأوفاهم بالعهد ، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة ، وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة ، وهو [ ص: 440 ] - على ذلك - لازم لأكمل الطرق وأتمها ، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ، ومن أخبار الكهان ، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق ، وسفك الدماء المحرمة ، وقطيعة الأرحام ، لا يعرفون آخرة ولا معادا ، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم ، حتى إن النصارى لما رأوهم - حين قدموا الشام - قالوا : ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء ، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض ، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين .
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره ، وطاعة الخلق له ، وتقديمهم له على الأنفس والأموال ، مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهما ولا دينارا ، ولا شاة ولا بعيرا له ، إلا بغلته وسلاحه ، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله ، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله ، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين ، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك .
[ ص: 441 ] وهو في كل وقت ما يطول وصفه ، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به ، وجاءت شريعته أكمل شريعة ، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه ، لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به ، ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه ، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره ، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره ، وجمع محاسن ما عليه الأمم ، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه ، وأخبر بأشياء ليست في الكتب . يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات
فليس في الكتب إيجاب لعدل ، وقضاء بفضل ، وندب إلى الفضائل ، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه .
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها ، وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها ، وكذلك في الحدود والأحكام ، وسائر الشرائع .
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة ، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم ، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله [ ص: 442 ] بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم ، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله ، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا ، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم ، تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم ، وهذه الفضائل به نالوها ، ومنه تعلموها ، وهو الذي أمرهم بها ، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة .
فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة ، وبعضها من الزبور ، وبعضها من النبوات ، وبعضها من المسيح ، وبعضها ممن بعده كالحواريين ، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة ، وغيرهم حتى أدخلوا - لما غيروا دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا ، بل عامتهم ما آمنوا أمة بموسى وعيسى وداود ، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته ، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله ، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل ، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به :
( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 ) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) .
[ ص: 443 ] وقال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) .
وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به ، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ، فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله .
لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به ، وما حدثهم أهل الكتاب ، موافقا لما عندهم ، صدقوه ، وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه ، وما عرفوا أنه باطل كذبوه ، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند أو الفرس أو اليونان [ ص: 444 ] أو غيرهم ، كان - عندهم - من أهل الإلحاد والابتداع ، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ، وهو الذي عليه أئمة الدين ، الذين لهم في الأمة لسان صدق ، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم ، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة ، وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : . لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ، حتى تقوم الساعة
وقد تنازع بعض المسلمين ، مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما ، ودين محمد خصوصا .
ومن خالف في هذا الأصل كان - عندهم - ملحدا مذموما ، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم ، وقاتل عليه ملوكهم ، ودان به جمهورهم ، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح ، ولا دين غيره من الأنبياء .
والله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله بالعلم النافع والعمل [ ص: 445 ] الصالح ، فمن اتبع الرسل ، حصل له سعادة الدنيا والآخرة . وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا .
ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته .
فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذوه عن نبيهم ، مع ما يظهر لكل عاقل : أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية ، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم ، وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا ، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله :
( إني رسول الله إليكم جميعا ) .
لم يكن كاذبا مفتريا ، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا ، أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا .
وما ذكر من كمال علمه ودينه ، يناقض الشر والخبث والجهل ، فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين ، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله :
( إني رسول الله ) .
[ ص: 446 ] لأن الذي لم يكن صادقا : إما أن يكون متعمدا للكذب ، أو مخطئا ، والأول : يوجب أنه كان ظالما غاويا ، والثاني : يقتضي أنه كان جاهلا ضالا ، وكمال علمه ينافي جهله ، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب . فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب ، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم ، وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق ; ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى :
( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) .
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به :
( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) .
، ثم قال عنه :
( وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين ) .
أي : بمتهم أو بخيل ، كالذي لا يعلم إلا بجعل ، أو لمن يكرمه :
[ ص: 447 ] ( وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
وقال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) .
إلى قوله :
( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ) .
بين سبحانه أن ، فإن الشيطان يقصد الشر : وهو الكذب والفجور ، ولا يقصد الصدق والعدل ، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب ، إما عمدا وإما خطأ ، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا ، كما قال الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه - لما سئل عن مسألة - : " أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه " . ابن مسعود
[ ص: 448 ] ، فإنه قد يخطئ ، ويكون خطؤه من الشيطان ، وإن كان خطؤه مغفورا له ، فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا ، ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا ، علم أن الشيطان لم ينزل عليه ، وإنما ينزل عليه ملك كريم ; ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي : فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ ، بخلاف غير الرسول
( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ) .