الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 5 ] ومما يبين به فضل أمته على جميع الأمم - وذلك مستلزم لكونه رسولا صادقا كما تقدم ، وهو آية وبرهان على نبوته ، فإن كل ملزوم فإنه دليل على لازمه .

إن الأمم نوعان : نوع لهم كتاب منزل من عند الله ، كاليهود والنصارى ، ونوع لا كتاب لهم كالهند ، واليونان ، والترك ، وكالعرب قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وما من أمة إلا ولا بد لها من علم وعمل بحسبهم ، ويقوم به ما يقوم من مصالح دنياهم ، وهذا من الهداية العامة التي جعلها الله لكل إنسان بل لكل حي ، كما يهدي الحيوان لجلب ما ينفعه بالأكل والشرب ، ودفع ما يضره باللباس والكن ، وقد خلق الله فيه حبا لهذا ، وبغضا لهذا . قال تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ ص: 6 ] وقال موسى : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال في أول ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقال تعالى : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين ، ثم الأمم متفاضلون في معرفة الخالق تعالى ، وفي الإقرار بالمعاد بعد الموت ، إما للأرواح فقط ، وإما للأبدان فقط ، وإما لمجموعهما كما هو قول سلف الأمة المسلمين وأئمتهم وعامتهم أهل السنة والجماعة ، ومتفاضلون فيما يحمدونه ، ويستحسنونه من الأفعال والصفات ، وما يذمونه ويستقبحونه من ذلك

[ ص: 7 ] لكن عامة بني آدم على أن العدل خير من الظلم ، والصدق خير من الكذب ، والعلم خير من الجهل ، فإن المحسن إلى الناس خير من الذي لا يحسن إليهم . وأما المعاد فهو إما للأرواح أو للأبدان ، وإن الناس بعد الموت يكونون سعداء أو أشقياء ، فيقر به كثير من الأمم غير أهل الكتاب ، وإن كان على وجه قاصر كحكماء الهند ، واليونان ، والمجوس ، وغيرهم ، وذلك أن أهل الأرض في المعاد على أربعة أقوال : أحدها : وهو مذهب سلف المسلمين من الصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين المشهورين ، وغيرهم من أهل السنة ، والحديث من الفقهاء ، والصوفية ، والنظار ، وهو إثبات معاد الأرواح والأبدان جميعا وأن الإنسان إذا مات كانت روحه منعمة ، أو معذبة ، ثم تعاد روحه إلى بدنه عند القيامة الكبرى ، ولهذا يذكر الله في كثير من السور أمر القيامتين : القيامة الصغرى بالموت ، والقيامة الكبرى حين يقوم الناس من قبورهم وتعاد أرواحهم إلى أبدانهم ، كما ذكر الله القيامتين في سورة الواقعة حيث قال في أولها :

[ ص: 8 ] إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون . ثم ذكر سبحانه حال الأصناف الثلاثة في القيامة الكبرى وقال في آخر السورة : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم وكذلك في سورة القيامة : [ ص: 9 ] لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر فذكر القيامة الكبرى ، ثم قال في آخر السورة : كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ولبسط هذا موضع آخر ، فإن ذكر ما ينال الروح عند فراق البدن من النعيم والعذاب كثير في النصوص النبوية ، [ ص: 10 ] وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة فكثير جدا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ، وقد بعث بين يدي الساعة ، فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره كما ذكر المسيح - في صفته - فقال : إنه يخبركم بكل ما يأتي ، ويعرفكم جميع ما للرب

والقول الثاني : قول من يثبت معاد الأبدان فقط ، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين الجهمية ، والمعتزلة المبتدعين من هذه الأمة ، وبعض المصنفين يحكي هذا القول عن جمهور متكلمي المسلمين ، أو جمهور المسلمين ، وذلك غلط ، فإنه لم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين ، ولا هو قول جمهور نظارهم ، بل هو قول طائفة من متكلميهم المبتدعة ، الذين ذمهم السلف والأئمة .

والقول الثالث : المعاد للنفس الناطقة بالموت فقط ، وأن الأبدان لا تعاد . وهذا لم يقله أحد من أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى . بل هؤلاء كلهم متفقون على إعادة الأبدان ، وعلى القيامة الكبرى . ولكن من تفلسف من هؤلاء فوافق سلفه من الصابئة والفلاسفة المشركين على أن المعاد للروح وحده ، فإنه يزعم أن الأنبياء خاطبوا الجمهور بمعاد الأبدان ، وإن لم يكن له حقيقة وخاطبوهم بإثبات الصفات لله ، وليس له حقيقة ، وأن الأنبياء لم يظهروا الحقائق للخلق ، [ ص: 11 ] وأنه لا يستفاد من أخبارهم معرفة شيء من صفات الله ولا معرفة شيء من أمر المعاد . وحقيقة قولهم أن الأنبياء كذبوا للمصلحة ، وهؤلاء ملاحدة كفار عند المتبعين للأنبياء من المسلمين ، واليهود ، والنصارى . وإن كان هؤلاء كثيرين موجودين فيمن يتظاهر بأنه من أهل الملل ، لظهور أديانهم ، وهو في الباطن على هذا الرأي . وهؤلاء القائلون بمعاد الأرواح فقط ، منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ إما في أبدان الآدميين ، أو أبدان الحيوان مطلقا ، أو في موضع الأجسام النامية ، ومنهم من يقول بالتناسخ للأنفس الشقية فقط ، وكثير من محققيهم ينكر التناسخ

والقول الرابع : إنكار المعادين جميعا ، كما هو قول أهل الكفر من العرب ، واليونان ، والهند ، ، والترك ، وغيرهم ، والمتفلسفة أتباع أرسطو كالفارابي وأتباعه ، لهم في معاد الأرواح ثلاثة أقوال : قيل : بالمعاد للنفس العالمة والجاهلة ، وقيل : بالمعاد للعالمة دون الجاهلة ، وقيل : بإنكار الاثنين ، والفارابي نفسه قد قال الأقوال الثلاثة ، وبسط الكلام على هذه الأمور له موضع آخر ، إذ المقصود [ ص: 12 ] هنا أن كل ما عند أهل الكتاب بل وسائر أهل الأرض من علم نافع وعمل صالح فهو عند المسلمين . وعند المسلمين ما ليس عند غيرهم في جميع المطالب التي تنال بها السعادة والنجاة . وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق ، وتنهى عن الظلم ، والفواحش ، ولهم علوم إلهية وعبادات بحسبهم ، ويعظمون أهل العلم والدين منهم . والهند ، واليونان ، والفرس في ذلك أكمل من كفار الترك ، والبربر ، ونحوهم ، مع أن هؤلاء أيضا فيهم قسط من ذلك . ومعلوم عند الاعتبار أن الأمم الذين لهم كتاب كاليهود ، والنصارى أكمل من الأمم الذين لا كتاب لهم في الفضائل العلمية ، والعملية ، فإن ما لم يأخذه الناس عن الأنبياء يعلم بالعقل ، والاعتبار ، أو بالمنام ، والإلهام ، وأخبار الجن ونحو ذلك من طرق الأمم . وكل طريق صحيح من الطرق العقلية ، والإلهامية ، وغيرها ، شارك [ ص: 13 ] أهل الكتاب فيه من لا كتاب له . ويمتاز أهل الكتاب بعلوم وأعمال أخذوها عن الأنبياء ، ليس في قوة من ليس بنبي أن يعلمها ، وهذا ظاهر في الأخلاق ، والسياسات المنزلية والمدنية . فإن جنس أهل الكتاب ولو كان منسوخا مبدلا أحسن حالا ممن لا كتاب له . وأما في العبادات والإيمان بالله واليوم الآخر فرجحانهم فيه ظاهر ، وأما علوم وأعمال يكون ضررها راجحا ، كالسحر ، والطلسمات ، وما يتوسل به من الشرك إلى استخدام الشياطين ، ونحو ذلك ، فهذا وإن كان غير أهل الكتاب أقوم به ، فإنما ذاك لاستغناء أهل الكتاب بما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة . ولهذا لما ذكر الله سبحانه في قصة سليمان براءته عن [ ص: 14 ] ذلك ، وكانت الشياطين قد كتبت كتب كفر وسحر ، ودفنتها تحت كرسي سليمان ، فلما مات أظهروا ذلك وقالوا : إنما كان يسخر الجن بهذه الأسماء والعزائم ، فصدقهم فريقان : فريق قدحوا في سليمان بل كفروه ، من أهل الكتاب ، وقال : من فعل ذلك فهو كافر ، وفريق قالوا : نحن نقتدي بسليمان ونفعل كما كان يفعل ، وهم أهل العزائم والطلاسم التي يستخدمون بها الجن ، ويقولون : إن سليمان كان يستخدمهم بها ، حتى يقولوا : إن هذه الأسماء كانت مكتوبة على تاجه ، وهذا صورة خاتمه ، وهذا كلام آصف بن برخيا إلى أمثال ذلك مما يضيفونه إليه ، وهو كذب على سليمان . وقد ذكر ذلك علماء المسلمين في تفسير قوله تعالى : [ ص: 15 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فذم سبحانه من عدل عن اتباع كتاب الله ورسله ، واتبع ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان ، وبين سبحانه أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين كفروا ، وأنهم يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل وأن الملكين : هاروت وماروت ، ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . وأخبر سبحانه أنهم لا يضرون به أحدا إلا بإذن الله ، [ ص: 16 ] وأنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، ثم قال : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق أي من نصيب ، أي هؤلاء يعلمون أن صاحبه لا نصيب له في الآخرة ، وإنما يطلبون أنهم يقضون به أغراضهم الدنيوية لما لهم في ذلك من الهوى ، وذلك ضار لهم لا نافع ، كما قال في المشرك : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه قال تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فبين سبحانه أنه بالإيمان والتقوى يحصل من ثواب الله ما هو خير لهم من هذا ، فإنهم إنما يطلبونه لما يرجون به من الخير لهم ، وهذا خير لهم ، وهذا كقوله : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم [ ص: 17 ] فإن ما تطلبه النفوس فيه لها لذة ، يجعل خيرا بذلك الاعتبار ، لكن إذا كان الألم زائدا على اللذة كان شره أعظم من خيره . والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فهي تأمر بما تترجح مصلحته ، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد ، وتنهى عما ترجحت مفسدته ، وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره . ولهذا أمر تعالى أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا . فالأحسن : إما واجب وإما مستحب ، قال تعالى : فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وقال : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم فأمر باتباع الأحسن والأخذ به ، وقال تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله فاقتضى أن غيرهم لم يهده ، وهذا يقتضي وجوب الأخذ بالأحسن ، وهو مشكل ، وقد تكلم الناس فيه ، ونظيره قوله تعالى : [ ص: 18 ] وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ، وقوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة مع قوله تعالى في موضع آخر : ويدرءون بالحسنة السيئة ، وقال تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن ، وقال : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، وقال تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في موضعين . [ ص: 19 ] وقد يقال : هذا نظير قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ، وقوله تعالى : آلله خير أم ما يشركون ، وقوله تعالى : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ، وقوله : والله خير وأبقى ، وقوله : والآخرة خير وأبقى ، وقوله : فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ ص: 20 ] وقوله أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ، وقوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ، وقوله تعالى : اعدلوا هو أقرب للتقوى ، وقوله : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ونظائر هذا كثيرة ، مما يذكر فيه أن المأمور به خير وأحسن من المنهي عنه ، وإن كان الأول واجبا والثاني محرما . وذلك لأن المأمور به قد يشتمل على مفسدة مرجوحة ، والمنهي عنه يشتمل على مصلحة مرجوحة ، فيكون باعتبار ذلك في [ ص: 21 ] هذا خير وحسن ، وفي هذا شر وسيئ ، لكن هذا خير وأحسن وإن كان واجبا . فقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم هو أمر بالأحسن من فعل المأمور أو ترك المحظور ، وهو يتناول الأمر بالواجب والمستحب ، فإن كلاهما أحسن من المحرم والمكروه . لكن يكون الأمر أمر إيجاب ، وأمر استحباب ، كما أمر بالإحسان في قوله تعالى :وأحسنوا إن الله يحب المحسنين والإحسان منه واجب ، ومنه مستحب .

التالي السابق


الخدمات العلمية