الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 55 ] ومن آيات محمد صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته التي في القرآن قصة الفيل ، قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ، وقد تواترت قصة أصحاب الفيل ، وأن أهل 72 الحبشة النصارى ساروا بجيش عظيم ، معهم فيل ، ليهدموا الكعبة لما أهان بعض العرب كنيستهم التي باليمن فقصدوا إهانة الكعبة وتعظيم كنايسهم ، فأرسل الله عليهم طيرا أهلكهم ، وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ، ودين النصارى خير من دينهم . [ ص: 56 ] فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ ، بل كانت لأجل البيت أو لأجل النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ولد به في ذلك العام عند البيت ، أو لمجموعهما ، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته . فإنه إذا قيل : إنما كانت آية للبيت وحفظا له وذبا عنه ؛ لأنه بيت الله الذي بناه إبراهيم الخليل . فقد علم أنه ليس من أهل الملل من يحج إلى هذا البيت ويصلي إليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومحمد هو الذي فرض حجه والصلاة إليه ، فإذا كان هذا البيت عند الله خيرا من الكنائس التي للنصارى ، حتى إن الله أهلك النصارى أهل الكنائس لما أرادوا تعظيم الكنائس وإهانة البيت ، علم أن دين أهل هذا البيت خير من دين النصارى ، والمشركون ليسوا خيرا من النصارى فتعين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى ، وذلك يستلزم أن نبيهم صادق ، وإلا فمن كانوا متبعين لنبي كاذب فليسوا خيرا من النصارى بل هم شرار الخلق ، كأتباع مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وغيرهما ، وقال في القرآن : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل [ ص: 57 ] والأبابيل جماعات في تفرقة ، فوج بعد فوج ترميهم بحجارة من سجيل أي : من طين مستحجر فجعلهم كعصف مأكول كالتبن الذي أكل . وقوله : ألم تر استفهام في معنى التقرير ، وهذا يقتضي أن هذا قد وقع وعلم به الناس ورأوه ، وقد قررهم على ذلك ؛ لما فيه من الدلالة والبيان والإنعام على الخلق . ومن آيته الظاهرة التي في القرآن ما ذكره من أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، بخلاف ما كانت العادة جارية به ، قال تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ ص: 58 ] إلى قوله : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ، وقال تعالى : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون وهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤه على الناس ، وهم يقرءونه ، ولم ينكره أحد ، ولا ارتاب به مؤمن ، ولا احتج به عليه كافر ، فدل أن الناس علموا صدق ما أخبرت به الجن ، من أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنهم لم يتمكنوا حينئذ مما كانوا يتمكنون منه قبل ذلك من الاستماع . ومعلوم أن هذا أمر يراه الناس بأبصارهم فإن امتلاء السماء بالشهب أمر يراه الناس كلهم ، فلو لم يكن كذلك لكان الناس يكذبون بهذا ، مؤمنهم ، وكافرهم ، فإن الجماعة العظيمة الذين لم يتواطئوا يمتنع اتفاقهم على الكذب ، وعلى التصديق بما يعلمون أنه كذب ، وعلى كتمان ما يعلمونه ، وعلى ترك إنكار ما يعلمون أنه كذب . [ ص: 59 ] وقد سمع القرآن ألوف مؤلفة أدركوا مبعثه وشاهدوا أحوال السماء ، فلو لم يكن هذا كان موجودا - مع أن عامتهم كانوا مكذبين له ، ولما آمنوا كانوا طوائف متباينين - يمتنع اتفاقهم على كذب أو كتمان أو سكوت ، فلما لم ينكر ذلك أحد ، بل تظاهرت الأخبار بمثل ما أخبر به القرآن من الرمي العظيم بالشهب ، الذي لم يعهد مثله ، حتى صاروا يشكون : هل ذلك في الكواكب التي في الفلك أو في غيرها ؟ وقالوا : إن كان في كواكب الأفلاك فهو خراب العالم ، فلما رواه فيما دونها ، علموا أنه لأمر حدث . ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين السماء ؛ أرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون [ ص: 60 ] مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهي بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا . فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ، وفي لفظ البخاري بنخلة قريبا من مكة ، وهو الصواب . [ ص: 61 ] وقد ظن بعض الناس أن الشهب لم يكن يرمى بها قبل ذلك بحال ، والصواب أنه كان الرمي بها - كما هو الآن - أحيانا ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، ورواه أيضا أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال لهم : ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية ؟ قالوا : كنا نقول حين رأيناها يرمى بها : مات ملك . ولد مولود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك كذلك ، ولكن الله إذا قضى في خلقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم ، فيسبح من تحت ذلك ، فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا ، حتى يقول بعضهم لبعض : لم سبحتم ؟ فيقولون : سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم ، فيقولون : ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا ؟ فيسألونهم فيقولون : قضى الله في خلقه كذا وكذا ، الأمر الذي كان ، فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيتحدثون به ، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ، ثم يأتون به الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون ، فيحدث الكهان . وفي الصحيحين عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إن [ ص: 62 ] الكهان قد كانوا يحدثوننا بالشيء فيكون حقا ، قال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة وروى البخاري في صحيحه عن عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الملائكة تنزل في العنان ، وهو السحاب ، فتذكر الأمر ، قضي في السماء ، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم . وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على [ ص: 63 ] صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا ، بعضهم فوق بعض ، فيسمع الكلمة فيلقيها على لسان الساحر ، أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا . الكلمة التي سمعت من السماء ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء . ورواه محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، وقال في آخره : ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين عن السمع بهذه النجوم ، فانقطعت الكهانة فلا كهانة . ورواه معمر ، عن الزهري ، وقال : فقلت للزهري : أو كان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ، قلت : يقول الله وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع الآية . قال : غلظت واشتد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 64 ] وروى الطبري ، عن داود ، ثنا عاصم بن علي بن عاصم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان للجن مقاعد في السماء يستمعون الوحي ، وكان الوحي إذا أوحي ، سمعت الملائكة كهيئة الحديدة رمي بها على الصفوان ، فإذا سمعت الملائكة صلصلة الوحي خر لجباههم من في السماء [ ص: 65 ] من الملائكة ، فإذا نزل عليهم أصحاب الوحي قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قال : فينادون : قال ربكم : الحق وهو العلي الكبير قال : فإذا نزل إلى السماء الدنيا قالوا : يكون في الأرض كذا وكذا موتا ، وكذا وكذا حياة ، وكذا وكذا جدوبة ، وكذا وكذا خصبا ، وما يريد أن يصنع ، وما يريد أن يبتدي - تبارك وتعالى - فنزلت الجن فأوحوا إلى أوليائهم من الإنس ما يكون في الأرض ، فبينما هم كذلك إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فزجرت الشياطين ، ورموهم بالكواكب ، فمنعوا ، فجعل لا يصعد أحد إلا احترق ، وفزع أهل الأرض لما رأوا في الكواكب ، ولم يكن قبل ذلك ، فقالوا : هلك من في السماء ، وكان أهل الطائف أول من فزع ، فينطلق الرجل إلى إبله فينحر كل يوم بعيرا لآلهتهم ، فينطلق صاحب الغنم فيذبح كل يوم شاة ، فينطلق صاحب البقر فيذبح كل يوم بقرة ، فقال لهم رجل : ويلكم ، لا تهلكوا أموالكم ، فإن معالمكم من [ ص: 66 ] الكواكب التي تهتدون بها ، لم يسقط منها شيء . فأقلعوا وقد أسرعوا في أموالهم ، وقال إبليس : حدث في الأرض حدث فأتوني من كل مكان في الأرض بتربة ، فجعل لا يؤتى بتربة أرض إلا شمها ، فلما أتي بتربة تهامة ، قال : ههنا حدث الحدث . فصرف الله إليه نفرا من الجن ، وهو يقرأ القرآن فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا حتى ختم الآية ، فولوا : إلى قومهم منذرين [ ص: 67 ] ورواه أبو زرعة ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء بنحوه ، ورواه البيهقي من طرق ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء أيضا فقد تبين أنه لما كان في زمن المبعث ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا ، وقبل ذلك لم يكن الحرس شديدا ، ولا كانت السماء مملوءة حرسا وشهبا - كما هي الآن - يرمى بها أحيانا ، وكانوا يقعدون بها مقاعد للسمع أي يسترق أحدهم ما يسمعه كما يستمع المستمع إلى حديث غيره مختفيا بسماعه مسترقا له ، فكانت الشياطين تسترق - أي تستمع - ما تقوله الملائكة ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم صار أحدهم إذا سمع وجد الشهاب قد أرصد له ، فلم يستطع أن يقعد ويستمع كما كان قبل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية