[ ص: 80 ] وآياته صلى الله عليه وسلم قد استوعبت جميع أنواع الآيات الخبرية والفعلية . وإخباره عن الغيب الماضي والحاضر والمستقبل بأمور باهرة ، لا يوجد مثلها لأحد من النبيين قبله ، فضلا عن غير النبيين . ففي القرآن من إخباره عن الغيوب شيء كثير - كما تقدم بعض ذلك - وكذلك في الأحاديث الصحيحة ، مما أخبر بوقوعه ، فكان كما أخبر . ففي الصحيحين عن حذيفة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه . [ ص: 81 ] وفي صحيح مسلم ، عن أبي زيد عمرو بن أخطب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، وصعد المنبر ، فخطبنا حتى حضرت الظهر ، ثم نزل فصلى بنا ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى بنا ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، قال : وأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأحفظنا أعلمنا . وفي صحيح البخاري ، عن عدي بن حاتم قال : بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل . فقال : يا عدي ، هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها . قال : فإن طالت [ ص: 82 ] بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله . قال : قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيئ ، الذين قد سعروا البلاد ؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى . قلت : كسرى بن هرمز ! قال : كسرى بن هرمز ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله عنه ، فلا يجد أحدا يقبله منه ، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ، فيقولن له : ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك ؟ فيقول : بلى . فيقول : ألم أعطك مالا وأفضل عليك ؟ فيقول بلى . فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم . قال عدي : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 83 ] اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة . قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يخرج ملء كفه . قلت : وهذا الذي أخبر به من خروج الرجل بملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله ، ظهر كما أخبر في زمن عمر بن عبد العزيز . [ ص: 84 ] وفي صحيح مسلم ، عن جابر بن سمرة ، عن نافع بن عتبة قال : 7466 - كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب ، عليهم ثياب الصوف ، فوافقوه عند أكمة ، فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، قال : فقالت لي نفسي : ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه ، قال : ثم قلت : لعله نجي معهم . فأتيتهم فقمت بينهم وبينه ، قال : فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي . قال : تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ، ثم فارس فيفتحها الله ، ثم تغزون الروم فيفتحها الله ، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله . [ ص: 85 ] وروى البخاري ، عن عوف بن مالك قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، 3212 - وهو في قبة من أدم ، فقال : اعدد ستا بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون ، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا . [ ص: 86 ] قلت : ففتح بيت المقدس بعد موته في خلافة عمر بن الخطاب ، ثم بعد ذلك وقع الطاعون العظيم بالشام ، طاعون عمواس في خلافة عمر أيضا ، ومات فيه معاذ بن جبل ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وخلق كثير ، وكان ذلك أول طاعون وقع في الإسلام ، فكان ما أخبر به ، حيث أخذهم طاعون كعقاص الغنم ، ثم استفاض المال في خلافة عثمان بن عفان حتى كان أحدهم يعطى مائة دينار فيسخطها ، وكثر المال حتى كانت الفرس تشترى بوزنها ، ثم وقعت الفتنة العامة التي لم يبق بيت من العرب إلا دخلته لما قتل عثمان ، ووقعت الفتنة بين المسلمين أو الملوك ، [ ص: 87 ] يوم الجمل ، ويوم صفين . وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلنا : ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ، قال : فجلس محمرا وجهه ، ثم قال : والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويؤخذ فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه ، فيشق باثنتين ما يصرفه عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله عز وجل [ ص: 88 ] أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تعجلون وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك ، صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر . قلت : وهؤلاء الطوائف كلهم قاتلهم المسلمون كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، وأمر هذه الطوائف معروف ، فإن قتال الترك [ ص: 89 ] من التتار وغيرهم الذين هذه صفتهم معروف مشهور ، وحديثهم في أكثر من عشرة آلاف نسخة كبار وصغار من كتب المسلمين ، قبل قتال هؤلاء الذين ظهروا من ناحية المشرق ، الذين هذه صفتهم التي لو كلف من رآهم بعينه أن يصفهم لم يحسن مثل هذه الصفة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : 7203 لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى . وقد ظهرت هذه النار سنة بضع وخمسين وستماية ، ورآها الناس ، ورأوا أعناق الإبل قد أضاءت ببصرى ، وكانت تحرق الحجر ، ولا تنضج اللحم . وفي الصحيحين عن أبي سعيد ، وأسماء أن رسول الله [ ص: 90 ] صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده ، وقيصر 55 ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله . وفي الصحيحين عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله . [ ص: 91 ] وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لتفتحن عصابة من المسلمين ، أو قال : من المؤمنين كنز آل كسرى الذي في الأبيض . والأبيض قصر كان لكسرى ، وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن : أن ابني هذا سيد [ ص: 92 ] وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . قلت : فوقع هذا كما أخبر به ، بعد موت الرسول بنحو ثلاثين سنة ، وهو سنة أربعين من الهجرة ، لما أصلح الله بالحسن بين الفئتين العظيمتين اللتين كانتا متحاربتين بصفين ، عسكر علي ، وعسكر معاوية . وفي الصحيحين عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني رأيت الليلة في [ ص: 93 ] المنام ظلة تنطف السمن والعسل ، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم ، فمنهم المستكثر والمستقل ، ثم إذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت ، ثم أخذ به رجل بعدك فعلا ، ثم أخذ به رجل آخر فعلا ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ، ثم وصل له فعلا . قال أبو بكر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي لتدعني فلأعبره ، فقال : أعبر . فقال أبو بكر : أما الظلة فظلة الإسلام ، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه ، وأما ما يتكفف فالمستكثر من القرآن والمستقل ، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه ، تأخذ به فيعليك الله ، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو ، ثم يأخذ به رجل فيعلو ، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به . فأخبرني يا رسول الله : أصبت أم أخطأت ؟ فقال : أصبت بعضا وأخطأت بعضا . قال : فوالله يا رسول الله لتخبرني بالذي أخطأت . قال : لا تقسم . [ ص: 94 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعف - والله يغفر له - ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن، وفي رواية: فاستحالت الدلو غربا في يد عمر . قال الشافعي : رؤيا [ ص: 95 ] الأنبياء وحي . وقوله : في نزعه ضعف ، قصر مدته ، وعجلة موته ، وشغله بالحرب مع أهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته . وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك يا رسول الله ؟ قال : أي كأنها تعني الموت ، قال : إن لم تجديني فائتي أبا بكر . وروى أبو داود الطيالسي ، عن أبي ثعلبة الخشني ، وعن أبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه [ ص: 96 ] وسلم قال : إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة ، وكائنا خلافة ورحمة ، وكائنا ملكا عضوضا ، وكائنا عنوة وجبرية ، وفسادا في الأمة ، يستحلون الفروج ، والخمور والحرير ، وينصرون على ذلك ، ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله عز وجل . وروى أبو داود ، عن سمرة بن جندب أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ، ثم جاء عمر [ ص: 97 ] فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء . وفي السنن عن سفينة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا . فكان هذا [ ص: 98 ] العام تمام الثلاثين سنة من موته ، ودخل في ذلك خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : زويت لي الأرض مشارقها ، ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها . وفي صحيح مسلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال لي : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد [ ص: 99 ] وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا . وهذا أخبر به في أول الأمر ، وأصحابه في غاية القلة قبل فتح مكة ، وكان كما أخبر ، فإن ملك أمته انتشر في الشرق والغرب ، ولم ينتشر في الجنوب والشمال كانتشاره في الشرق والغرب ؛ إذ كانت أمته أعدل الأمم ؛ فانتشرت دعوته في الأقاليم التي هي وسط المعمور من الأرض ، كالثالث والرابع والخامس ، وقد تقدم قوله : [ ص: 100 ] هلك كسرى فلا يكون كسرى بعده . وذاك كسرى بن هرمز آخر الأكاسرة المملكين ، ثم ولي بعده ولاة متضعفون ، فكان آخرهم يزدجرد ، وإليه الإشارة باللفظ الآخر : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله . وهذا أخبر به ، وملك كسرى ، وقيصر أعز ملك في الأرض ، فصدق الله خبره في خلافة عمر وعثمان فهلك كسرى ، وهو آخر الأكاسرة في خلافة عثمان بأرض فارس ، ولم يبق بعده كسرى ، ولم يبق [ ص: 101 ] للمجوس ، والفرس ملك ، وهلك قيصر الذي بأرض الشام ، وغيرها ، ولم يبق بعده من هو ملك على الشام ، ولا مصر ، ولا الجزيرة من النصارى ، وهو الذي يدعى قيصر . قال : الشافعي : كانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا ، وكان كثير من معاشها منه ، وتأتي العراق فيقال : لما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام ، والعراق إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام ، مع خلاف ملك الشام ، والعراق لأهل الإسلام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده . فلم يبق بأرض العراق كسرى يثبت له أمر بعده . وقال : إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده . فلم يكن بأرض الشام قيصر ، فأجابهم على ما قالوا ، وكان كما قال قطع الله الأكاسرة عن [ ص: 102 ] العراق ، وفارس ، وقيصر عن الشام . وقال في كسرى : مزق الله ملكه . فلم يبق للأكاسرة ملك ، وقال في قيصر : ثبت ملكه . فثبت ملكهم ببلاد الروم ، وتنحى [ ص: 103 ] عن الشام ، وكل هذا يصدق بعضه بعضا . وفي الصحيحين عن سفيان بن أبي زهير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ثم تفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وفي رواية : فيخرج من المدينة . فأخبر صلى الله عليه وسلم بفتح اليمن ، والشام ، والعراق قبل أن يكون ، وأخبر أنه يخرج من المدينة أقوام يتحملون بأهليهم ، ومن [ ص: 104 ] أطاعهم إلى هذه الأمصار ، ويطلبون الريف وسعة الرزق ، قال : والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ستفتح مصر ، وهي أرض يسمى فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلها خيرا . وفي رواية : فأحسنوا إلى أهلها ، فإن لهم ذمة ورحما ، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان على موضع لبنة فاخرج منها . [ ص: 105 ] فمر أبو ذر بعد فتح مصر بمدة بابني شرحبيل بن حسنة ، وهما يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها . وفي صحيح البخاري ، عن سليمان بن صرد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حين أجلي الأحزاب عنه : الآن نغزوهم ، ولا يغزونا وكذلك كان . وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا فتحت عليكم فارس ، والروم ، أي قوم وأنتم . قال عبد الرحمن بن [ ص: 106 ] عوف : نقول كما أمرنا الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟ تتنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون ، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض . وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة أنه لما أنزل الله : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الآخرين ، فقال : لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس . وفي لفظ : لو كان الإيمان ، وفي لفظ : العلم . وكان كما أخبر ، فإنه حصل في [ ص: 107 ] التابعين وتابعيهم ، وهلم جرا ، من أبناء فارس ، مثل : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد بن جبر ، وأضعاف هؤلاء ، من نالوا ذلك . ولما نزل قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ ص: 108 ] سئل عنهم ، فقال : هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري ، وقال : إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن . وفي الصحيحين عنه أنه قال : أتاكم أهل اليمن ، هم أرق قلوبا وألين أفئدة; الإيمان يماني ، والفقه يماني ، والحكمة يمانية . [ ص: 109 ] فلما ارتد من ارتد عن الإسلام أتى الله بهؤلاء الذين يحبهم ويحبونه ، فقاتل الصديق بهم أهل الردة ، وغلب بهم أبو بكر ، وعمر كسرى وقيصر . وقال لعثمان : إن الله مقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه . وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط المدينة ، وهو متكئ يركز بعود [ ص: 110 ] في الماء والطين ، إذ استفتح رجل فقال له : افتح وبشره بالجنة . فإذا هو أبو بكر ففتحت له وبشرته بالجنة ، ثم استفتح رجل آخر ، فقال له : افتح له وبشره بالجنة . فذهبت فإذا هو عمر ، ففتحت له ، وبشرته بالجنة ، ثم استفتح رجل آخر ، فقال له : افتح له ، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه . فذهبت فإذا هو عثمان ففتحت له ، وبشرته بالجنة ، فقلت له الذي قال ، فقال : اللهم صبرا ، والله المستعان . وفي الصحيحين حديث حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن التي تموج موج البحر ، وقال لعمر : إن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك ذلك الباب أن يكسر . فسأله مسروق من الباب ؟ [ ص: 111 ] فقال : عمر . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستكون الفتن ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به . ورواه أبو بكرة ، وقال فيه : فإذا وقعت ، فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق [ ص: 112 ] بأرضه . قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ، ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت . فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين ، أو إحدى الفئتين ، فضربني رجل بسيفه ، أو يجيء سهم فيقتلني ؟ قال : يبوء بإثمه وإثمك ، ويكون من أصحاب النار . وفي صحيح أبي حاتم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ويل للعرب من شر قد اقترب ، أو فتنة عمياء صماء بكماء ، القاعد فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، ويل للساعي فيها من الله يوم القيامة . [ ص: 113 ] وفي الصحيحين عنه أنه قال : إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر . وفي الصحيحين من غير وجه أنه لما قال له ذو الخويصرة : يا محمد ، اعدل فإنك لم تعدل . فقال : ويحك ، قد خبت وخسرت إن لم أعدل . فقال بعض أصحابه : دعني أضرب عنق هذا المنافق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، [ ص: 114 ] يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليد على عضده مثل البضعة من اللحم تدردر ، عليها شعرات . وفي رواية في الصحيحين : تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق . وهؤلاء ظهروا بعد موته ببضع وعشرين سنة في أواخر خلافة علي ، لما افترق المسلمون ، وكانت الفئة بين عسكر علي ، وعسكر معاوية ، وقتلهم علي بن أبي طالب ، وأصحابه ، وهم أدنى الطائفتين إلى الحق ، والطائفة الأخرى قتلوا عمار بن ياسر ، وهي الطائفة [ ص: 115 ] الباغية ، وكان علي قد أخبرهم بهذا الحديث ، وبعلامتهم فطلبوا هذا المخدج فلم يجدوه ، حتى قام علي - بنفسه - ففتش عليه فوجده مقتولا فسجد شكرا لله . وفي الصحيح عنه أنه قال : ستكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة . وهؤلاء ظهروا بعده بمدة فكانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر ، ويؤخرون العصر إلى اصفرار الشمس . وفي الصحيحين عنه أنه قال : إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا [ ص: 116 ] حتى تلقوني على الحوض . فلقوا بعده من استأثر عليهم ، ولم يعطهم حقهم . وفي الصحيحين عنه أنه قال : ستكون بعدي أمراء يطلبون منكم حقهم ، ويمنعونكم حقكم ، قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ، قال : أدوا إليهم حقهم ، واسألوا الله حقكم . وفي الصحيحين عنه أنه سار فاطمة فقال لها وهو في مرضه الذي توفي فيه : إني أقبض في مرضي هذا . ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به . وفي رواية : وأخبرها أنها سيدة نساء المؤمنين . وفي الصحيحين عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا قالت : قالت فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا ، فكانت أطولنا يدا زينب لأنها كانت تعمل بيدها [ ص: 117 ] وتتصدق . وفي صحيح البخاري ، وغيره ، عن أم حرام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم . وفي صحيح البخاري ، عن أم حرام أيضا [ ص: 118 ] قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا . قالت : يا رسول الله ، أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . قالت : ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم . فقلت : يا رسول الله ، أنا فيهم ؟ قال : لا . وغزاها المسلمون في خلافة معاوية ، وكان يزيد أميرهم ، وكان في العسكر أبو أيوب الأنصاري الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لما قدم المدينة مهاجرا ، ومات ودفن تحت سورها ، وذكروا أنهم كانوا إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون . [ ص: 119 ] ثم غزاها المسلمون مرة ثانية في خلافة عبد الملك غزاها ابنه مسلمة ، وحصروها عدة سنين ، وبنوا فيها مسجدا . وفي الصحيحين عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته ، وجعلت تفلي رأسه ، فنام ثم استيقظ وهو يضحك ، فقالت : مم تضحك ؟ فقال : عرض علي ناس من أمتي يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة . فقالت أم حرام : ادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ، ثم استيقظ ، وهو يضحك ، فقالت : مم تضحك ؟ فقال : [ ص: 120 ] عرض علي ناس من أمتي كما قال في الأولى ، فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : أنت من الأولين ، قال أنس : فركبت البحر زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها لما خرجت من البحر فماتت ، وهذا كان في خلافة عثمان ، ومعاوية نائبه . وكان المسلمون في خلافة عمر لم يغزوا في البحر ، وأول ما غزوا البحر في خلافة عثمان ، وفتحوا جزيرة قبرص ، وجاءوا بسبيها إلى دمشق ، وكان أبو الدرداء حيا بدمشق فجعل يبكي ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا الدرداء هذا يوم قد أعز الله فيه الإسلام ؟ فقال : إنما أبكي أني رأيت هذه الأمة كانت قاهرة ظاهرة فأضاعت أمر الله فيه ؛ فأصارها الله إلى ما ترون ، ما أهون العباد على الله إذا ضيعوا أمره . وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألته أن لا يسلط [ ص: 121 ] على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها . وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة . وهذا أخبر به حين كانت أمته أقل الأمم فانتشرت الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ، وكان كما أخبر به ، فإن هذه الأمة - ولله الحمد والمنة - لم يزل فيها طائفة ظاهرة بالعلم والدين والسيف ، لم يصبها ما أصاب من قبلها من بني إسرائيل وغيرهم ، حيث كانوا مقهورين مع الأعداء ، بل إن غلبت طائفة في قطر من الأرض ، كانت [ ص: 122 ] في القطر الآخر أمة ظاهرة منصورة ، ولم يسلط على مجموعها عدوا من غيرهم ، ولكن وقع بينهم اختلاف وفتن . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر ، يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا . وهؤلاء ظهروا بعده بمدة طويلة ، وظهر النسوة بعد ذلك بسنين كثيرة ، وعلى رءوسهن عمائم كأسنمة الجمال البخاتي ، يسمون العمامة سنام الجمل .


