الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 380 ] وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول وقبيل مولده ، وبعد مماته لا تختص بحياته فضلا عن أن تختص بحال دعوى النبوة أو حال التحدي كما ظنه بعض أهل الكلام ، بل لا بد من آيات في حياته تدل على صدقه تقوم بها الحجة ، وتظهر بها المحجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " وقد قال تعالى في سورة إبراهيم :

الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [ ص: 381 ] إلى قوله :

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور

إلى قوله :

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( 9 ) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى

الآيات

فأخبر سبحانه أن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أتتهم رسلهم بالبينات فعلم أنهم جاءوا بالبينات

وقال :

فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير [ ص: 382 ] وقال تعالى :

وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ( 37 ) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ( 38 ) وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا

فأخبر أنه سبحانه ضرب الأمثال لجميع هؤلاء الذين أرسل إليهم وأهلكهم فلم يعاقبهم إلا بعد أن أقام عليهم الحجة ، وقال تعالى :

وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( 43 ) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون

فأخبر أنه لم يرسل إلا رجالا يوحى إليهم لم يرسل إليهم ملائكة ولا نساء ، وأنه أرسلهم بالبينات ، والزبر ، والزبر جمع زبور وهي الكتب ، فإن منهم من أنزل عليه [ ص: 383 ] كتاب ، ومنهم من أرسل بتجديد الكتاب الذي قبله

وقال تعالى :

إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( 24 ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ( 25 ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير

أخبر أنه ليس أمة من الأمم إلا خلا فيها نذير كما قال :

ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين

ثم أخبر أن الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر والكتاب المنير ، وهذا من عطف الخاص على العام لاختصاصه بوصف يختص به كقوله :

[ ص: 384 ] وملائكته ورسله وجبريل وميكال . . . فإن الزبر من البينات ، والكتاب المنير من الزبر ، وهو كقوله :

ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير

فإن الهدى من العلم ، والكتاب المنير من الهدى .

وبين أنه أخذ الذين كفروا بهم ، وهذا أنزله ليبين عاقبة المكذبين ، ولهذا بنى الفعل للفاعل فقال :

فقد كذب الذين من قبلهم

وهذه السورة مكية . ثم أنزل في آل عمران وهي مدنية في سياق الآيات التي فيها تسلية الرسول والمؤمنين به وتثبيتهم وتعزيتهم لما أصابهم من المكذبين يوم أحد وغيره فقال :

الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( 172 ) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( 173 ) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ( 174 ) إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين

[ ص: 385 ] أي يخوفكم أولياءه كما قاله جمهور العلماء ثم قال :

ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا

وسياق الكلام في بيان أن الكفار لا يضرون الله ولا عباده المؤمنين بل ضررهم على أنفسهم وأن ما حصل لهم من نعمة إنما هو استدراج وإملاء إلى أن قال :

لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( 181 ) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 182 ) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين

بين سبحانه أن هذا القول منهم مع أنه كذب فلم يقولوه إلا دفعا للحق لا ليؤمنوا بمن جاءهم بذلك إذ قد جاءهم رسل من [ ص: 386 ] قبله بالآيات البينات والقربان الذي تأكله النار ، ومع هذا قتلوهم ، والكلام في مثل هذا الجنس الذي يوالي بعضهم بعضا ، ويتبع بعضهم بعضا كاليهود الذين هم على دين سلفهم الذين فعلوا ذلك ، ولهذا يذمهم بصيغة الخطاب كقوله :

وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون

إلى قوله :

وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة

فالخطاب لجنس بني إسرائيل ، وإن كان الذين عاينوا ذلك ماتوا ثم قال :

فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير

فحذف هنا الفاعل ، وبنى الفعل للمفعول إذ المقصود هنا تسلية الرسول وتعزيته لا ذكر عقوبة المكذبين فلهذا كانت هذه أخص من تلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية