الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 452 ] جماع الكلام في النبوة متصل بالكلام في جنس الخبر فإن قول القائل : إني رسول الله إليكم ، خبر من الأخبار ، وكذلك وصول كلامه وأفعاله وآياته إلينا هو بالأخبار ، والخبر تارة يكون مطابقا لمخبره كالصدق المعلوم أنه صدق ، وتارة لا يكون مطابقا لمخبره كالكذب المعلوم أنه كذب ، وغير المطابق مع التعمد كذب ، ومع اعتقاد أنه صدق : إن لم يكن معذورا ، كالمفتي بلا اجتهاد يسوغ ، والمحدث بلا علم يسمى كاذبا أيضا ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " كذب أبو السنابل بن بعكك " ، وقوله لمن قال : [ ص: 453 ] بطل عمل عامر بن الأكوع لما قتل نفسه خطأ : " كذب من قال ذلك ، إنه لجاهد مجاهد " .

وقد تكون المطابقة في عناية المتكلم ، وقد يكون في إفهام المخاطب إذا كان اللفظ مطابقا لما عناه المتكلم ، ولم يطابق إفهام المخاطب ، فهذا أيضا قد يسمى كذبا ، وقد لا يسمى ، ومنه المعاريض ، لكن يباح للحاجة وإن لم يحصل به المقصود ، بل يكون مأمورا بالسكوت عنه إلا مع البينة ، فقد يسمى كاذبا لقوله تعالى :

لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ، [ ص: 454 ] والمقصود هنا أن الخبر قد يعلم أنه صدق ، وقد يعلم أنه كذب ، وقد لا يعلم واحد منهما ، والعلم بأنه صدق له معنيان :

أحدهما : أن يعلم أنه مطابق لمخبره من غير جهة المخبر كمن أخبرنا بأمور يعلم أنها حق بدون خبره

والثاني : أن يعلم أن المخبر به صادق فيه ، وقد يجتمع الأمران بأن يعلم ثبوت ما أخبر به ، ويعلم أنه صادق فيه ، وقول محمد ( إني رسول الله ) هو من هذا الباب كما سنبينه إن شاء الله ، وكذلك كونه كذبا قد يراد به أنه على خلاف مخبره ، وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب .

وقد يعنى به أن قائله يتعمد الكذب ، ولهذا كانت الأحاديث المعلوم بطلانها على نوعين : تارة يعلم أن صاحبها تعمد الكذب ، وتارة يكون قد غلط ، والصحابة لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك جمهور التابعين لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب ، ولكن طائفة قليلة من الشيعة عرف أنه كان فيها من يتعمد الكذب بخلاف غيرهم من أهل [ ص: 455 ] الأهواء كالخوارج ، فإنه لم يكن فيهم من يعرف بالكذب ، بل يقال : هم من أصدق الناس حديثا ، والرجل الفاسق المعروف أنه يكذب لا بد أن يصدق في بعض الأخبار فلا يكون في الناس من لا يخبر إلا بكذب ، ولهذا قال تعالى :

إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا

وفي القراءة الأخرى :

فتثبتوا

فأمر بالتبين والتثبت إذا أخبر الفاسق بخبر ، ولم يأمر بتكذيبه بمجرد إخباره لأنه قد يصدق أحيانا ، فلما أمر سبحانه بالتبين والتثبت في خبر الفاسق دل ذلك على أنه لا يجوز تصديقه بمجرد إخباره ، إذ كان فاسقا قد يكذب ، ولا يجوز أيضا تكذيبه قبل أن يعرف أنه قد كذب ، وإن كان فاسقا ، لأن الفاسق قد يصدق ، وهذا كما قال تعالى :

ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا

[ ص: 456 ] وفي القراءة الأخرى ( فتثبتوا )

ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا

فأمرهم بالتبين والتثبت في الجهاد ، وأن لا يقولوا للمجهول حاله : لست مؤمنا ، يبتغون عرض الحياة الدنيا ، فيكون إخبارهم عن كونه ليس مؤمنا خبرا بلا دليل بل لهوى أنفسهم ليأخذوا ماله ، وإن كان ذلك في دار الحرب إذا ألقى السلم ، وفي القراءة الأخرى ( السلام ) فقد يكون مؤمنا يكتم إيمانه كما كنتم أنتم من قبل مؤمنين تكتمون إيمانكم ، فإذا ألقى المسلم السلام فذكر أنه مسالم لكم لا محارب فتثبتوا وتبينوا ، لا تقتلوه ولا تأخذوا ماله حتى تكشفوا أمره ، هل هو صادق أو كاذب ؟ .

[ ص: 457 ] وهذا خبر يتضمن دعوى له ، فإن المدعي مخبر ، والمنكر مخبر ، والشاهد مخبر ، والمقر مخبر ، وكما نهاهم عن تكذيب المدعي بلا علم نهاهم عن تصديق المنكر المتهم ، ورمي البريء بلا حجة ، وتبرئته وتزكيته بلا علم ، فقال تعالى :

إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ( 105 ) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ( 106 ) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ( 107 ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( 108 ) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ( 109 ) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( 110 ) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ( 111 ) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ( 112 ) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وكذلك نهاهم عن تصديق القاذف الرامي لمن عرف منه الخير فقال :

لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين [ ص: 458 ] إلى قوله :

ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ( 14 ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( 15 ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم وقد قال تعالى :

ولا تقف ما ليس لك به علم

وهذا نهي عن التكلم بلا علم ، وهو عام في جميع أنواع الأخبار ، وقد يتناول ما أخبر به الإنسان ، وما قد يعتقده بغير الأخبار من الدلائل ، والآيات ، والعلامات ليس له أن يتكلم بلا علم فلا ينفي شيئا إلا بعلم ، ولا يثبته إلا بعلم ، ولهذا كان عامة العلماء على أن [ ص: 459 ] النافي للشيء عليه الدليل على ما ينفيه كما أن المثبت للشيء عليه الدليل على ثبوته ، وحكي عن بعض الناس أنه قال : النافي ليس عليه دليل ، وفرق بعضهم بين العقليات والشرعيات ، فأوجبه في العقليات دون الشرعيات ، وهؤلاء اشتبه عليهم النافي بالمانع المطالب ، فإن من أثبت شيئا فقال له آخر : أنا لا أعلم هذا ، ولا أوافقك عليه ، ولا أسلمه لك حتى تأتي بالدليل ، كان هذا مصيبا ، ولم يكن على هذا المانع المطالب بالدليل دليل ، وإنما الدليل على المثبت بخلاف من نفى ما أثبته غيره فقال له : قولك خطأ ، والصواب في نقيض قولك ، ولم يكن هذا كذا ، فإن هذا عليه الدليل على نفيه كما على ذلك المثبت الدليل على إثباته ، وإذا لم يأت واحد منهما بدليل كان كلاهما بلا حجة .

ولهذا كان من أثبت شيئا أو نفاه ، وطلب منه الحجة فلم يأت بها كان منقطعا في المناظرة ، وإذا اعترض المعترض عليه بممانعة أو معارضة فأجاب عنها انقطع المعترض عليه ، وثبت قول الأول ، وإن لم يجب عن المعارضة انقطع المستدل إذ كان الدليل الذي يجب اتباعه هو الدليل السالم عن المعارض المقاوم ، ولو أقام دليلا قطعيا فعورض بما لا يفيد القطع كان له أن يقول : ما ذكرته يفيد العلم ، والعلم لا يعارضه الظن ، والبينات لا تعارض بالشبهات التي هي من جنس كلام السوفسطائية ، فهو سبحانه نهى عن الكلام بلا علم [ ص: 460 ] مطلقا ، وخص الكلام على الله بقوله تعالى :

قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

ونهى عن اتباع خطوات الشيطان ، وأخبر أنه يأمر بالقول على الله بلا علم فقال :

ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( 168 ) إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( 169 ) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ ص: 461 ] وكذلك ذم من يجادل ويحاج بلا علم بقوله تعالى :

ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير

وقال : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ( 3 ) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وقال تعالى :

ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون

وقوله تعالى :

إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا

يتناول خبر كل فاسق ، وإن كان كافرا لا يجوز تكذيبه إلا ببينة كما لا يجوز تصديقه إلا ببينة ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرئون التوراة بالعبرية ، ويفسرونها بالعربية ، فقال النبي [ ص: 462 ] صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه ، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه ، وقولوا :

آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون


وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة من إمساك الإنسان عما لا يعلم انتفاؤه وثبوته هو مأثور عن غيره من الأنبياء ، كما جاء عن المسيح عليه السلام أنه قال : الأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه ، وأمر تبين غيه فاجتنبوه ، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه .

وعامة عقلاء بني آدم على هذا ، ولهذا لا يجوز أن يصدق بخبر منقول عن الرسول أو غيره إلا بدلالة تدل على صدقه ، ولا يجوز أن يكذبه إلا بدلالة تدل على كذبه ، وعلى هذا العلم والدين ، وقد تكلم [ ص: 463 ] العلماء وصنفوا كتبا كثيرة في الجرح والتعديل في الرجال والأحاديث ، فمن الناس من يعرف بالصدق والضبط ، فهذا هو العدل المقبول خبره ، ومنهم من يكون صدوقا لكنه قد لا يحفظ ولا يضبط فيقولون في مثل هذا : هو صدوق تكلم فيه من قبل حفظه ، ومنهم من عرف بالكذب ، وإذا روى الحديث من هو سيئ الحفظ أو من قد يكذب لم يحكموا بذلك الحديث ، ولم يثبتوه .

ثم تارة يقوم الدليل على كذبه ، وتارة يتوقفون فيه لا يعلمون أصدق هو أم كذب ، ومثل هذا لا يعتقد ولا يثبت ، ولا يحتج به ، كالشاهد الذي شهد للمدعي ، وليس بعدل مرضي ، أو هو خصم أو متهم ظنين ، فهذا إذا ردت شهادته ولم تقبل لم يكن معنى ذلك الحكم بكذبه أو خطئه ، بل معنى ذلك أنه لا تقوم به حجة ، ولا يحكم به لعدم العلم بصدقه ، لا للعلم بكذبه .

والمدعى عليه إذا كان صاحب يد أو ذمته بريئة فهو حجة ترجح جانبه ، وقد ضم إليها الشارع اليمين كما في صحيح [ ص: 464 ] البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " فإذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد دعواه فجانب المنكر أقوى من جانبه لأن معه : أن الأصل في الأيدي أنها محقة ، والأصل براءة الذمة ، ولكن قد يكون المدعي صادقا ، ولا يكون له حجة ، وهذا كثير جدا ، فلا يدفع بمجرد الأصل ، بل يحلف المنكر فيكون يمينه مع الأصل بحجة ، فيكون إنكار هذا مقابلا لدعوى هذا ، كلاهما خبر لم يعلم صدقه فتعارضا ، وترجح المنكر بالأصل ، فيبقى على ما كان لا يسلم بحجة للمدعي ما ادعاه بمجرد دعواه ، ولا تنقطع مطالبته للمدعى عليه لأنه لم يأت بحجة تدفعه ، فإذا حلف المنكر كانت يمينه حجة فصلت الخصومة ، وقطعت الدعوى .

وإذا لم يأت المنكر باليمين بل نكل عنها ، ولا أتى المدعي بحجة ، وقف للأمر عند أكثر العلماء ، وعند بعضهم : يقضي على المنكر بالنكول فيجعل نكوله إما بدلا لما طلب ، وإما إقرارا به ، والأكثرون يقولون : بل ترد اليمين على المدعي الطالب الذي يقول : إنه يعلم [ ص: 465 ] صدق نفسه فيما ادعاه ، وأنه عالم بما ادعاه ، فيقال له : احلف وخذ ، فإن حلف أخذ ، وإلا دفعا . ثم من العلماء من يرد اليمين في عامة الدعاوي ، ومنهم من يحكم بالنكول ، وإن كان المنكر يقول : لا أعلم ما ادعى به ، وكل من الطائفتين يذكر آثارا عن الصحابة .

والمنقول عن الصحابة يدل على التفصيل ، وهو أظهر الأقاويل ، وهو أنه : إن كان المنكر هو العالم دون المدعي ، كما إذا ظهر في المبيع عيب ، وقد بيع بالبراءة ، فقال المشتري : أنا لم أعلم به ، فإنه هنا يقال له كما قال عثمان بن عفان لابن عمر رضي الله عنهما : احلف أنك بعته وما به داء تعلمه . فإن حلف ، وإلا قضي عليه بالنكول كما قضى عثمان على ابن عمر بالنكول

[ ص: 466 ] وإن كان المدعي يقول إنه يعلم ما ادعى به ، كمن ادعى على آخر دينا أو عينا فقال : أنا لا أعلم ما ادعيته ، احلف وخذ ، فإن لم يحلف لم يعط شيئا .

والبينة في الدعاوي عند أكثر العلماء هي ما يبين الحق ، ويظهره ، ويوضحه ، كالدليل والآية والعلامة ، فمتى ترجح جانب أحدهما حلف مثل أن يقيم المدعي شاهدا فإنه يحلف مع شاهده ، ويقضي به بشاهد ويمين كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول أكثر العلماء ، ومنهم من يقول : اليمين دائما في [ ص: 467 ] جانب المدعى عليه ، وكذلك لو كان في دعوى القتل لوث ، ولطخ ، وشبهة ، وهو علامات ترجح جانب المدعي فإن أولياء المقتول يحلفون خمسين يمينا ، ويقضى لهم بذلك عند أكثر العلماء كما مضت بذلك السنة .

وكذلك في اللعان إذا حلف الزوج وشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ووكدها بالخامسة فقد أقام بينة على دعواه ، فإن التعنت المرأة ، وشهدت أربع شهادات مؤكدة بالخامسة أنه كاذب [ ص: 468 ] تعارضت البينتان والشهادتان ، فلم يحكم بقول واحد منهما ، لا يحكم بأنه قاذف ، ولا يحكم بأنها زانية ، وإن نكلت فلم تحلف فأكثر العلماء يقولون : يحكم بأنها زانية ، وتعذب على ذلك كما دل عليه القرآن ، لأنه اجتمع شهادة الزوج ، ونكولها عن المعارضة ، كما اجتمع في القسامة العلامة والأيمان ، وكما اجتمع الشاهد واليمين ، وكما اجتمع في جانب المنكر الأصل واليمين .

فهذا ونحوه مما جاءت به الشريعة ، وبسطه له موضع آخر .

والمقصود هنا أن الخبر إن قام دليل على صدقه أو كذبه ، وإلا بقي مما لم يصدقه ، ولم يكذبه ، وأهل العلم بالحديث إذا قالوا : هذا الحديث رواه فلان ، وهو مجروح ، أو ضعيف ، أو سيئ الحفظ ، أو ممن لم تقبل روايته ، ونحو ذلك فهو كقول القائل : هذا الشاهد مجروح أو سيئ الحفظ أو ممن لا تقبل شهادته ، وهذا يفيد أنه لا يحكم به ، لا يفيد الحكم بأنه كاذب ، بل قد يمكن أنه صادق ، فلا يقال إنه كاذب إلا بحجة .

[ ص: 469 ] وإن قالوا عن الحديث : إنه ضعيف ، فهذا مرادهم أي أنه لم يثبت ، ولا يحتج به ، ولا يجوز الحكم بصدقه ، ليس مرادهم أنه بمجرد ذلك يحكم بكذب الناقل ، وينفي ما نقله ، ويقول : إن هذا لم يكن من غير علم منا بهذا النفي ، بل إن قام دليل على انتفاء ما أخبر به حكمنا بذلك ، وإلا سكتنا ، لم ننفه ، ولم نثبته ، فهذا أصل يجب معرفته ، فإن كثيرا من الناس لا يميز بين ما ينفيه لقيام الدليل على نفيه ، وبين ما لم يثبته لعدم دليل إثباته ، بل تراهم ما لم يعلموا إثباته فيكونون قد قفوا ما ليس لهم به علم ، وقالوا بأفواههم ما ليس لهم به علم ، وهذا كثير من أهل الاستدلال والنظر وأهل الإسناد والخبر ، فمن الأولين طوائف يطلبون الدليل على ثبوت الشيء ، فإذا لم يجدوه نفوه ، ومعلوم أن عدم العلم ليس علما بالعدم ، وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود إلا إذا كان الطالب ممن يمكنه ذلك ، إما بعلم أو ظن غالب ، فمن هؤلاء من يقول في صفات الله ما لم يقم دليل قطعي على إثباته ، وإلا وجب القطع بنفيه ، لأن صفات الله لا تثبت إلا بالقطع ، وخالفهم في ذلك جمهور الناس ، وقالوا : كما لا يجوز القطع في الإثبات إلا بدليل قطعي ، فلا يجوز القطع في النفي إلا بدليل قطعي على النفي فلما لم يجز أن نثبت إلا بعلم فلا ننفي إلا بعلم .

[ ص: 470 ] والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل . قال هؤلاء : هذه المسائل مبناها على القطع ، فإنه لا يجوز لنا التكلم فيها بالظن ، فإذا لم يقم القاطع قطعنا بالنفي . فقيل لهم : هذا حجة عليكم ، فإنكم إذا نفيتم ما لم تعلموا نفيه تكلمتم بالظن ، وإذا قطعتم من غير قاطع كنتم قد تكلمتم في القطعيات بلا قاطع ، نفيا كان الكلام أو إثباتا ، وليس يعلم في الأدلة الشرعية أو العقلية أن كل ما لم يقم دليل سمعي أو عقلي على إثباته فإنه يجب عليكم نفيه ، والقطع بنفيه ، بل تكلمكم بهذا تكلم بلا علم .

ومن هنا أخطأ كثير من النظار في نفي كثير من صفات الرب ، وأحكامه ، وأفعاله ، حيث لم يعلموا دليلا قطعيا يثبتها فنفوها ، وكانت ثابتة في نفس الأمر ، وقد يكون عند غيرهم دليل قطعي يثبتها ، ولو قدر عدم علم الناس كلهم بها فلله علم لم يعلمه العباد ، ولله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لم يعلمها الناس ، وليس إذا لم يعلم ثبوت الصفة يجب أن يعلم انتفاؤها ، بل قد يظن ثبوتها أو انتفاؤها ، وقد يشك [ ص: 471 ] في ذلك فلا يعلم ولا يظن واحد منهما ، والواجب على الإنسان أن يقول لما يعلمه : أعلمه ، ولما يظنه : أظنه ، ولما يشك فيه : أشك فيه ، والله تعالى لم يوجب على الإنسان أن يقطع بانتفاء شيء إن لم يعلم أنه منتف ، فمن قال : وجب علينا القطع بانتفاء فقد غلط .

وهذا بخلاف ما يناقض صفات الإثبات ، فإن هذا يجب نفيه عن الله ، فقد علم بالأدلة القطعية أن الله موصوف بصفات الكمال المناقضة للنقص ، مثل : إنه حي قيوم بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه خالق كل شيء ، وربه ، ومليكه ، وأنه غني عن كل ما سواه بكل وجه ، فكل من قال قولا يناقض هذا علم أنه باطل ، كالذين قالوا : إن له شريكا أو ولدا ، أو أنه يشفع عنده الشفعاء بغير إذنه ، ونحو ذلك مما يناقض الكمال المعلوم له .

وما كان من الأمور مستلزما لوازم لو كان موجودا ، فإنه يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، كالأمور التي لو كانت موجودة لوجب أن تنقل نقلا متواترا شائعا ، فإنه يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، كما لو قال قائل : إنه بني بين العراق والشام أو بين الحجاز [ ص: 472 ] والشام مدينة أعظم من بغداد والموصل وأصبهان ومصر دورها ثلاثة أيام ، ونحو ذلك ، فإنه يعلم كذبه ، فإن هذا مما تتوفر همم الناس على نقله لو كان موجودا ، فإذا لم يستفض هذا وينتشر علم أن المخبر به كاذب .

وكذا لو ادعى مدع أنه يوم الجمعة أو العيد قتل الخطيب ، ولم يصل الناس يوم الجمعة ، ولم يستفض هذا وينتشر ، أو ادعى أنه قتل بعض ملوك الناس ، ولم يستفض هذا ، ولم ينتشر ، أو ادعى أنه بعث نبي بين المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم أو بعد محمد جاء بكتاب مثل القرآن أو الإنجيل ، واتبعه خلق كثير ، وكذبه خلق كثير فإنه يعلم كذب هذا ، إذ مثل هذا لا بد أن يستفيض وينتشر .

، وكذلك لو ادعى أن قريشا أو غيرهم عارضوا القرآن ، وجاءوا بكتاب يماثل القرآن ، وأنهم أظهروا ذلك ، وأبطلوا به حجة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا مما يقطع بكذبه ، لأن مثل ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، وكذلك لو ادعى [ ص: 473 ] أن محمدا أمر بحج بيت غير البيت العتيق أو أوجب صوم شهر غير شهر رمضان أو أوجب صلاة سادسة وقت الضحى ، أو أمر بالأذان والإقامة لغير الصلوات الخمس ، أو أنه قال علانية بين الناس لأبي بكر أو العباس أو علي أو غيرهم : هذا هو الخليفة من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، أو أن عليا دعا إلى نفسه في خلافة الثلاثة ، وأمثال هذه الأمور التي لو وقعت لكان لها لوازم ، يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزم ، ثم هذه اللوازم منها جلي ، ومنها خفي يعرفه الخاصة .

فلهذا كان أهل العلم بأحوال الرسول يقطعون بكذب أحاديث لا يقطع غيرهم بكذبها لعلمهم بلوازم تلك الأحاديث وانتفاء لوازمها ، كما يقطع من يعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقاتل في غزوة تبوك ، وأن غزوات القتال إنما كانت تسعة مغازي ، وأنه لم يغز بنفسه إلى اليمن ، ولا العراق ، ولا جاوز تبوك بعد النبوة ، وأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع ، ولم يصم إلا تسع رمضانات .

وهكذا يعلمون أن فلانا أخطأ في هذا الحديث على فلان لأنهم قد علموا من وجوه ثابتة أن ذلك الحديث إنما رواه على صورة معينة ، فإذا روى غير الثقة ما يناقض ذلك علموا بطلان ذلك ، وأنه أخطأ أو تعمد الكذب ، مثل ما يعلمون كذب من زاد في قول النبي - [ ص: 474 ] صلى الله عليه وسلم : " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " فزاد بعض الناس فيه : " أو جناح " لما رأى بعض الأمراء عنده حمام ، فعلموا أنه كذب تقربا إلى ذلك الأمير .

وكما يعلمون كذب من روى أن مسيلمة وقومه كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، وإنما قاتلهم الصديق لكونهم لم يعطوا الزكاة ، فإنهم قد علموا بالتواتر أن مسيلمة ادعى النبوة ، واتبعه قومه على ذلك ، وأنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته يقول : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب " ويعلمون أنه [ ص: 475 ] كان له مخاريق ، وأنه ظهر كذبه من وجوه متعددة ، وأن أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة ، وقاتلوا قومه على ردتهم عن الإسلام ، واتباعهم نبيا كاذبا لم يقاتلوهم على كونهم لم يؤدوا الزكاة لأبي بكر .

وكذلك الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقتل في حياته ، كل منهما عرف كذبه [ ص: 476 ] بتكذيب النبي الصادق والمصدوق لهما ، ومما ظهر من دلائل كذبهما ، مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوة ، ومثل الإتيان بقرآن مختلق يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به ، وإنما هو تصنيف الآدميين كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردة ، وعادوا إلى الإسلام : " أسمعوني قرآن مسيلمة فلما أسمعوه إياه قال : ويحكم أين يذهب بعقولكم ، إن هذا كلام لم يخرج من إل " أي لم يخرج من رب ، ومثل ما كان يفعله ويأمر به من الفجور والكذب ، ومثل اطلاع أخص الناس به على أنه كان يكذب ، ويستعين بمن يختلق له الكذب ، ومثل أنه كان يعدهم بأن جبريل أخبره أنه سينصر ، فلما حقت الحقائق قال لهم : إنه لا جبريل لكم فقاتلوا عن أحسابكم . إلى أمثال هذه الأمور التي تدل على كذب الكاذب . [ ص: 477 ] فالصدق له دلائل مستلزمة له تدل على الصدق ، والكذب له دلائل مستلزمة تدل على الكذب ، ولا يجوز الحكم بصدق مخبر ، ولا بكذب مخبر إلا بدليل ، وما لم يعلم صدقه ولا كذبه ، ولا ثبوته ولا انتفاؤه فإنه يجب الإمساك عنه ، ويقول القائل : هذا لم أعلمه ، ولم يثبت عندي ، ولا أجزم به ، ولا أحكم به ، ولا أستدل به ، ولا أحتج به ، ولا أبني عليه مذهبي واعتقادي وعملي ، ونحو ذلك . لا يقول : هذا أقطع بكذبه وانتفائه ، وإن كنت أقطع أن من أثبته تكلم بلا علم ، فالقطع بجهل مثبته المعتقد له غير القطع بانتفائه ، فمن قطع فيه بلا دليل يوجب القطع قطعنا بجهله وضلاله وخطأه ، وإن لم يقطع بانتفاء ما أثبته في نفس الأمر كمن حكم بشهادة مجروح فاسق أمر الله بالتثبت في خبره ، فمن حكم وقطع بخبره من غير دليل يدل على صدقه حكمنا بأن هذا متكلم حاكم بلا علم ، وإن لم يحكم بكذب الشاهد المخبر ، لكن لا يجوز للإنسان أن ينفي علم غيره ، وقطع غيره ، من غير علم منه بالأسباب التي بها يعلم ويخبر ، فإنه كثيرا ما يكون للإنسان دلائل كثيرة تدل على صدق شخص معين ، وثبوت أمر معين ، وإن كان غيره لا يعرف شيئا من تلك الدلائل .

وهذا أيضا مما يغلط فيه كثير من الناس ينظرون في أنفسهم ، [ ص: 478 ] ومبلغ علمهم ، فإذا لم يجدوا عندهم ما يوجب العلم بذلك الأمر جعلوا غيرهم كذلك من غير علم منهم بانتفاء أسباب العلم عند ذلك الغير ، وقد يقيمون حججا ضعيفة على أنه غيرهم لا يعلم ذلك ، مثل ما يفعله كثير من الناس بالنظر والاستدلال والاعتبار ، ومن لم يساووهم في نظرهم وأدلتهم وقوة أذهانهم لا يعلم ما علموه ، وكثير من الناس يعلم بالأخبار والنقل والاستدلال بذلك أمورا كثيرة ، ومن لم يشاركهم فيما سمعوه ، وفيما عرفوه من أحوال المخبرين والمخبر وكمال معرفتهم بذلك لا يعلم ما علموه .

فلهذا كان لأهل النظر العقلي طرق لا يعرفها أهل الأخبار ، ولأهل الأخبار السمعية طرق لا تعرف بمجرد العقول ، ولهذا كان لهؤلاء من الطرق الدالة على صدق الرسول ، ونبوته ، والاستدلال على ذلك ، أمور كثيرة لا يعرفها أهل الحديث والأخبار ، وعند هؤلاء من الأحاديث المتواترة عندهم ، والآيات المستفيضة عندهم ما يعلمون بها صدق الرسول ، وإن كان أولئك لا يعرفونها ، بل طرق معرفة الصانع وتصديق رسوله قد يكون لكل قوم منها طريق أو طرق لا يعلمها آخرون ، وهم مشتركون في الإقرار بالله وبرسوله ، ولكل قوم طرق وأدلة غير طرق الآخرين وأدلتهم بل ما تواتر عندهم من أحوال الرسول قد يكون المخبرون [ ص: 479 ] لهؤلاء الذين تواتر عندهم ما أخبروهم به من آياته وشرائعه غير المخبرين لأولئك ، كما كان الصحابة المخبرون لأهل الشام بآيات الرسول ، وبالقرآن ، وشرائع الإسلام غير الصحابة المخبرين لأهل العراق ، ولكن خبر هؤلاء يصدق خبر هؤلاء ، وإن كان كل من الطائفتين لا يعلم أعيان أولئك الذين أخبروا أولئك

وهكذا سائر العلوم ، قد يكون الذي علم هؤلاء الفقه أو النظر أو النحو أو الطب غير الذي علم هؤلاء ، وإن اشترك الجميع في جنس الفقه ، والنظر ، والنحو ، والطب ، وعلم ما علمه هؤلاء من الأعيان والأنواع ، مع أن طريق هؤلاء ليس طريق أولئك ، وإن اشتركوا في النوع .

وعامة ما يعلمه الناس بالحس هو من هذا الباب ، فإن الإنسان يحس بأحوال نفسه من جوعه ، وعطشه ، وشبعه ، وريه ، وحبه ، وبغضه ، وشهوته ، ونفرته ، وألمه ، ولذته ، بل يحس بأعضائه كبطنه ، وفرجه ، ولا يحس بأحوال غيره ، ولكن يشتركان في الجنس العام ، فيشتركون في جنس الإحساس بجوعهم ، وشبعهم ، وقد يشتركون في غير ما يحسونه ، كاشتراكهم في رؤية الشمس ، والقمر ، والهلال ، والكواكب .

وقد غلط في مثل هذا طائفة من المتكلمين في المنطق اليوناني ، فزعموا أن العلوم التجريبية ، والتواترية ، والحدسية ، إن جعلوها قسما [ ص: 480 ] غير التجريبية فإن فيهم من يجعل الحدسية نوعا من التجريبية ، ومنهم من يجعلها جنسا آخر ، فزعم هؤلاء أن هذه العلوم مختصة لا تقوم بها الحجة على من لم يعلمها دون الحسيات ، والوجديات ، والعقليات ، وليس كذلك ، بل كما أن هذه تكون مشتركة تارة ، ومختصة أخرى ، فكذلك الحسيات فإن كل أهل زمان ومكان يعلمون بالحس من أحوال ذلك المكان والزمان وأحوال أهله ما لا يشركهم فيه غيرهم ، وكذلك الوجديات ، فإن من ابتلي بالغرائب في الأمور السياسية والبدنية يعلم منها ما لا يشركه فيه غيره .

وكذلك العقليات ، فإن من الناس من يكون له أصل يقيس به الفرع فيعلم القدر المشترك الذي هو الحد الأوسط ، ويعلم من تعلق الحكم به ما لم يعلمه غيره .

فأجناس العلوم وطرقها منها ما هو مختص ، ومنها ما هو مشترك ، والمشترك منه ما يشترك فيه جنس بني آدم ، ومنه ما يشترك فيه نوع منهم وطائفة ، فهذا أصل جامع ينبغي معرفته لمن تكلم في هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية