الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما ما لا يوجد إلا وجدت النبوة فهو دليل ، فقد تبين أن كل ما يدل على صدق الرسول ، وهو خارق للعادة يكون آية ونبوة على صدقه ، وأما ما كان خارقا للعادة ، ولا يستلزم النبوة فليس يكون دليلا ، وقد يكون الشيء معتادا بدون النبوة ، ومع النبوة يكون خرقا [ ص: 504 ] للعادة بحيث يكون وجوده مع النبوة خرق للعادة بخلاف وجوده مجردا عنها لأن النبوة خرق للعادة ، فلا يكون مستلزما لها إلا خارق للعادة .

فقول القائل : لا يعلم صدقه إلا بالمعجزة ، وهو الخارق للعادة ، إن أراد به المعنى العام ، وهو ما يستلزم صدقه بطل تخصيصه ذلك بما يخلقه منفصلا عنه من الآيات ، وإن أراد بذلك نوعا مخصوصا مع اشتراك الجميع في الدلالة ظهر بطلان نفيه .

وأما ما يوجد بدونها كما يوجد معها كالأمور التي تكون للصادق في دعوى النبوة ، والكاذب في دعوى النبوة ، فهذه لا تدل ، وما يظهره الله على يد النبي من الأنواع التي بها يعرف صدقه ، ليس فيها شيء يكون للكاذب .

بل الكاذب لا يكون له من الأدلة إلا ما يستلزم كذبه فكل ما يدل على كذب الكاذب لا يدل على صدق الصادق ، وبالعكس ، فإن دليل الكذب مستلزم له ، ودليل الصدق مستلزم له ، وهما ضدان يمتنع أن يكون مدعي النبوة نبيا صادقا ، ومتنبئا كاذبا ، والضدان لا يجتمعان ، فيمتنع أن يكون شيء واحد يدل على الضدين ، وهذه القاعدة ينتفع بها في مواضع :

[ ص: 505 ] منها : أن كثيرا من الناس إذا رأوا الكاذب ، وسمعوا كلامه ، تبين لهم كذبه تارة بعلم ضروري ، وتارة بعلم استدلالي ، وتارة بظن قوي ، وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه فقد تبين لهم صدقه بعلم ضروري أو نظري ، وقد يكون أولا بظن قوي ثم يقوى الظن حتى يصير يقينيا كما في العلوم بالأخبار المتواترة والتجارب ، فإن خبر الأول يفيد نوعا من الظن ، ثم يقوى بخبر الثاني والثالث حتى يصير يقينا .

وهذا الطريق سلكها طوائف من الناس ، وممن نبه على ذلك القاضي عياض قال القاضي عياض : إذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمنا من جميل أثره ، وحميد سيره ، وبراعة علمه ، ورجاحة عقله ، وحلمه ، وجملة كماله ، وجميع خصاله ، وشاهد حاله ، وصواب مقاله ، لم يمتر في صحة نبوته ، وصدق دعوته قال : " وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه ، والإيمان به . فروينا عن الترمذي ، وابن قانع ، وغيرهما بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جئته لأنظر إليه ، فلما استبنت وجهه [ ص: 506 ] عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب . رواه غير واحد كعبد الوهاب الثقفي ، ومحمد بن جعفر ، وابن أبي عدي ، ويحيى بن سعيد عن عوف بن أبي جميلة [ ص: 507 ] الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام . وعن أبي رمثة البلوي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي لي ابن لي فأريته فلما رأيته قلت : هذا نبي الله .

وروى مسلم في صحيحه ، وغيره عن ابن عباس أن ضمادا قدم [ ص: 508 ] مكة ، وكان من أزد شنوءة ، وكان يرقى من هذا الريح ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إن محمدا مجنون . فقال : لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي . قال : فلقيه فقال : يا محمد إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء الله ، فهل لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد . فقال : أعد علي كلماتك هؤلاء . فأعادهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات . قال : فقال : لقد سمعت قول الكهنة ، وقول السحرة ، وقول الشعراء ، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغن قاموس البحر . هات يدك أبايعك على الإسلام . فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وعلى قومك . قال : وعلى قومي . . . . . الحديث .

[ ص: 509 ] وقال جامع بن شداد : كان منا رجل يقال له طارق فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : هل معكم شيء تبيعونه ؟ قلنا : هذا البعير ، قال : بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا وسقا من تمر . فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة فقلنا : بعنا رجلا لا ندري من هو ، ومعنا ظعينة فقالت : أنا ضامنة لثمن البعير ، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر ، لا يخيس بكم . فأصبحنا فجاء رجل بتمر فقال : أنا رسول رسول الله إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر وتكتالوا حتى تستوفوا ، ففعلنا .

[ ص: 510 ] وفي خبر الجلندي ملك غسان لما بلغه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فقال الجلندي : والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يضجر ، ويفي بالعهد ، وينجز بالموعود ، وأشهد أنه نبي .

وقال نفطويه في قوله تعالى :

[ ص: 511 ] يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار

هو مثل ضربه الله لنبيه ، يقول : يكاد منظره يدل على نبوته ، وإن لم يتل قرآنا ، كما قال ابن رواحة :

لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر

قلت : وإيمان خديجة ، وأبو بكر ، وغيرهما من السابقين الأولين كان قبل انشقاق القمر ، وقبل إخباره بالغيوب ، وقبل تحديه بالقرآن ، لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية مستلزمة لصدقه ، ونفس كلامه وإخباره بأني رسول الله مع ما يعرف من أحواله مستلزم لصدقه إلى غير ذلك من آيات الصدق ، وبراهينه .

بل خديجة قالت له : كلا ، والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، [ ص: 512 ] وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق فكانت عارفة بأحواله التي تستلزم نفي كذبه وفجوره وتلاعب الشيطان به .

وأبو بكر كان من أعقل الناس ، وأخيرهم ، وكان معظما في قريش لعلمه ، وإحسانه ، وعقله ، فلما تبين له حاله علم علما ضروريا أنه نبي صادق ، وكان أكمل أهل الأرض يقينا وعلما ، وحالا

وكذلك هرقل ملك النصارى لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام سأل عن عشرة خصال كما في الصحيحين عن ابن عباس قال : حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في ، قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال : وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل :

هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قالوا : نعم

[ ص: 513 ] قال : فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه

فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟

قال أبو سفيان : فقلت : أنا . فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي فدعا بترجمانه فقال :

قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذبني فكذبوه .

قال : فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه .

ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟

قال : قلت : هو فينا ذو حسب .

قال : فهل كان من آبائه ملك ؟

قلت : لا .

قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟

قلت : لا .

قال : ومن اتبعه ؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟

قلت : بل ضعفاؤهم .

[ ص: 514 ] قال : أيزيدون أم ينقصون ؟

قلت : لا بل يزيدون

قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه ، سخطة له ؟

قال : قلت : لا

قال : فهل قاتلتموه ؟

قلت : نعم

قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟

قال : قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالا ، يصيب منا ، ونصيب منه .

قال : فهل يغدر ؟

قلت : لا ، ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها . قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه

قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟

قال : قلت : لا

قال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتك عن أتباعه : أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟ فقلت : بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع [ ص: 515 ] الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة ، وسألتك : هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد قبله قلت : رجل ائتم بقول قيل قبله .

ثم قال : بم يأمركم ؟

قلت : يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصلة ، والعفاف .

قال : إن يكن ما تقول فيه حقا إنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي . ثم دعا [ ص: 516 ] بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه :

" بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و :

قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وفي رواية : فماذا يأمركم به ؟ قال : يأمرنا أن نعبد الله وحده ، ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدقة ، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وقال : فهذه صفة نبي .

وما استدل به ملك النصارى هرقل من العلم بصفاته هو [ ص: 517 ] استدلال على عينه فإن الناس في النبوة على درجات : منهم من يحتاج إلى أن يعلم جنس النبوة فيصدق بجنس الرسل من البشر لا يكذب بالجنس كما كذب بذلك من كذب من قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم ، ولهذا يقول تعالى :

كذبت قوم نوح المرسلين

كذبت عاد المرسلين

كذبت ثمود المرسلين

لأن تكذيبهم لم يكن لشخص واحد بل كانوا مكذبين لجنس الرسل ، وهؤلاء يخاطبهم الله في السور المكية كقوله تعالى :

وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس

فاحتج بإنزال كتاب موسى لما تواتر في خبره من الآيات الباهرات الدالة على صدقه ، والإنجيل تبع للتوراة ، ثم قال :

وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه

[ ص: 518 ] لما قام من الآيات الدالة على نزوله ، ولهذا يذكر سبحانه في السور المكية من تثبيت أمر الرسل ، وآياتهم ، وبراهينهم ، وحسن عاقبتهم ، ومن ضلال مخالفيهم ، وجهلهم ، وغيهم ، وخذلانهم ، وسوء عاقبتهم ما فيه عبرة .

ومن الناس من يقر بالرسل في الجملة لكن لا يؤمن بما يجب من حقيقة إرسالهم كالملاحدة وأهل البدع الذين يعظمون الأنبياء مع اعتقادهم في الباطن ما يناقض بعض ما جاءوا به لشبهات انعقدت في قلوبهم ظنوها علوما عقلية ، وهي مناقضة لما أخبرت به الرسل فيحتاجون إلى أن يوفقوا بينهما ، وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم :

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ( 60 ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ( 61 ) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ( 62 ) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وقد أخبر الله أنه جعل للأنبياء من يعاديهم من الإنس والجن فقال تعالى :

[ ص: 519 ] وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( 112 ) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( 113 ) أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ( 114 ) وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم وقال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا

وهؤلاء الذين عندهم ما يناقض بعض ما أخبرت به الرسل هم ثلاثة أصناف :

أهل التخييل من الملاحدة المتفلسفة والباطنية الذين يقولون : إن الرسل أخبروا من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر بما يخالف الحق في نفس الأمر ليخيلوا إلى الجمهور ما ينتفعون به ، ويعدون هذا من فضائل الرسل ، وقد بسط الرد على هؤلاء في غير موضع .

[ ص: 520 ] وأهل التحريف والتأويل : الذين يؤولون كلامهم على ما يخالف مرادهم ، ويزعمون أنهم أرادوا ذلك المعنى مع أنه ليس في كلامهم ما يدل على إرادة ذلك المعنى ، بل كلامهم يدل على إرادة خلافه .

وأهل التجهيل : الذين يقولون ذلك الكلام ليس له معنى يعلمه الرسول ، ولا غيره ، وإنما يعلمه الله وحده ، وهذان القولان يقول بكل منها طوائف معظمين للرسل ، وقد تبين فسادهما في غير هذا الموضع .

وأما من قال : إن الرسل وغيرهم يعلمون المعنى الذي بينه الله لهم بكلامه ، ولكن استأثر الله بعلم أمر آخر لا يعلمونه كما استأثر بعلم غيب الساعة ، فهذا قول السلف والأئمة ، وبسط هذا له موضع آخر .

والمقصود هنا أن الكلام في النبوات تارة في جنسها ، وتارة في شخص النبي المعين ، وهرقل ملك الروم لم يكن محتاجا إلى الإيمان بجنس النبوات فإنه كان من أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يقرون بجنس النبوة فإنهم يقرون نبوة نوح ، والخليل ، وموسى ، وأنبياء بني إسرائيل ، والنصارى تقر مع ذلك بالمسيح ، والإنجيل .

والذين يحتاجون إلى معرفة النبي المعين نوعان :

نوع عرفوا أنه يبعث نبي ، وقد يعرفون بعض نعوته فيحتاجون أن يعرفوا عينه ، وهرقل وأمثاله من أهل الكتاب كانوا من هذا النوع ، وكانوا يعلمون أن نبيا سيبعث ، وإنما كانت حاجتهم أن يعرفوا [ ص: 521 ] هل هو هذا النبي المذكور أم غيره ، فيكون ما يحتاجون إليه من دلائل صدقه أيسر ما يحتاج إليه من لا يؤمن بالرسل أو لا يعرف أن نبيا سيبعث ، ومن كان يعلم جنس الرسل ، ولا يدري هل يبعث نبي أم لا يحتاج إلى تعلم أن هذا المعين هل هو من جنس الأنبياء الصادقين أو من جنس المتنبئين الكاذبين ، وهذا يعرف بما يخصه من آيات صدقه ، وباعتبار ما جاء به الأنبياء قبله ، فإن أصول ذلك مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه ، وهي الأمور التي لا تقبل النسخ كالإخبار عن الله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فهذا مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه ، إذ كان كل ما يخبر به النبي فهو صدق ، والأخبار الصادقة لا تتناقض ولا تقبل النسخ ، ولكن قد يكون بعض الأنبياء أعلم ببعض ذلك من بعض ، وفي كلام بعضهم من الأخبار ببعض ذلك ما ليس في كلام بعض .

وما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم هو أكمل وأكثر مما أخبر به موسى ، والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم .

وقد يظن بعض الغالطين تناقض بعض أخبار الأنبياء كما يظن بعض الغالطين معارضة العقل لما أخبروا به ، وهذا ممتنع ، بل لا بد أن يكون المعارض العقلي خطأ ، ليس بمعقول صحيح ، أو السمعي لم يثبت عنهم لفظه أو دلالته ، وكذلك الأخبار لا بد أن يكون أحد [ ص: 522 ] الخبرين كذبا أو غير دال على مناقضة الخبر الآخر ، وأما الأصول الجامعة كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وبر الوالدين ، والصدق ، والعدل ، وتحريم الأجناس الأربعة ، وهي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ، والإشراك بالله وأن يقال عليه غير الحق ، وذلك مثل ما ذكره في سورة الأنعام والأعراف وبني إسرائيل .

وقد تنازع الناس في مثل هذا : هل يمكن نسخه وتنوع الشرائع به ؟ على قولين : فمن جوز أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء رد ذلك إلى محض المشيئة لا إلى صفات تقتضي الأمر بهذا دون هذا ، فإنهم جوزوا دخول النسخ في هذا ، وتنوع الشرائع فيه ، كما يقوله جهم بن صفوان ، والأشعري ، ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، وإن كانوا يقولون إنه لم يقع فيه نسخ .

وأما جمهور الناس من السلف والخلف فإنهم لا يجوزون دخول النسخ في هذا ، ولا تنوع الشرائع فيه ، ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما قال تعالى :

ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( 51 ) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون [ ص: 523 ] وقال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه

وقال تعالى :

فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد .

وهذا مبسوط في موضع آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية